عبد الله زماري
يبدع الاحتلال الصهيوني في ابتداع أساليب، بهدف تطويع الفلسطيني، وتكييف وعيه للوصول إلى حالة (مقاومة اقل/خضوع اكثر)، هذا التطويع، نراه باشكال متعددة، ولطالما كانت الاحداث المعاشة، ومدخلات الحواس، أبرز مُشَكّلات الوعي، لهذا نرى الاحتلال كمؤسسة _ان جازت التسمية_ يستخدم كلا الأمرين _وغيرهما_ لتشكيل وعي الفلسطينيّ، الفردي منه والجَمعِيّ.
يستخدم الاحتلال كل أشكال القوة، لتشكيل وتكييف الوعي الفلسطيني، فالقوة الصلبة أو الخشنة كما تسمى حاضرة، منذ بدء تشكيل العصابات الصهيونية تحت علم ودعم الانتداب البريطاني، وحتى لحظات كتابة هذه السطور، بل إن ما يمارسه الاحتلال في عدوانه الحالي على فلسطين، ضفتها وقطاعها، يعتبر اعنف اشكال القوة، وأقسى ما كابده الشعب الفلسطيني منذ بداية الغزو والاحتلال الاستيطاني الإحلالي، حتى الآن. حيث يسرف الاحتلال في القتل الذي وصل حد “إبادة جماعية”، مصحوب بالتدمير الممنهج لكل مقومات الحياة والبقاء، حتى بأدنى متطلباته، في عدوانٍ شرس مستمر في جولته الحالية منذ عام، دمر خلاله ما يزيد على ستين بالمئة من البيئة العمرانية في قطاع غزة وبعض مخيمات شمال الضفة الفلسطينية. يعايش كامل الشعب الفلسطيني هذا التدمير الممنهج، ويستطيع كل فردٍ منه، الإسهاب في سرد تفاصيله، لكن هذه المعايشة الزمانية والمكانية، بما يتخللها من جرائم حرب، ستترك آثارها القاسية في ذاكرة ووعي الشعب الفلسطيني لأجيال قادمة.
اما عند البند الثاني من مشكّلات الوعي التي ذكرنا، نجد الاحتلال يمارس شكلا استعماريا خبيثا، قلما تم الحديث عنه او حتى ملاحظته دون تمعن وتفكير، ألا وهو استعمار او احتلال الحواس المختلفة للشعب الفلسطيني، واحتلال الحواس هو ترسيخ وجود الاحتلال ليس بالممارسة فقط ولكن من خلال اختراق حواسنا، بما يشبه إغراقها بالمؤثرات الحسية التي تجعل الاحتلال موجودا في وعينا وكأنه أمر طبيعي أبدي، ومن هذه الاحتلالات الحسية نجد الاحتلال البصري والاحتلال السمعي، واحتلال حاسة الذوق، كما احتلال حاسة الوقت وتشويهها، ثم نجد حاسة الارتباط بالمكان يجري تشويهها بدورها بوسائل شتى.
الاحتلال البصري، تغييب وإغراق
الاحتلال البصري هو مصطلح يستخدم لوصف عملية فرض سيطرة ثقافية وسياسية على مكان أو شعب من خلال التحكم في الصور والأفكار التي يتم تداولها بينهم وحولهم. بعبارة أخرى، هو نوع من الهيمنة التي تتم من خلال التلاعب بالرؤية والتصور، وليس فقط بالقوة العسكرية.
يمارس الاحتلال ما يمكن ان نسميه تكتيكات الاحتلال البصري من خلال استراتيجيتيّ الاغراق والتغييب، فعن الإغراق مثلا، نرى على امتداد شوارع الضفة الفلسطينية، وفي الاراضي المحتلة عام 48 كذلك، مغالاةً في زرع وجود الاحتلال في ابصارنا، حيث الاف اليافطات العبرية بالحجم الكبير، سواء كانت اعلانات تجارية او رسائل سياسية، او اعلاناً عن مناسبات صهيونية، او حتى دعايات انتخابية.
وأيضا آلاف الاعلام الصهيوينة المرفوعة على امتداد الشوارع، فوق اعمدة الكهرباء، وعلى سيارات المستوطنين، وحتى على التلال المحيطة بالشوارع الالتفافية،
كل هذه يراها المتنقل عبر الطرق كل يوم، طوال رحلته، تحتل عينيه وبصره وبالتالي وعيه، ان الاحتلال هنا موجود في كل تفاصيل حواسنا، بالرغم من ان كثير مما يضعه الاحتلال على جوانب الطرق فاقد لمبرر وجوده خاصة تلك الاعلانات التجارية في عصر الاعلان الالكتروني الذي يصل كل جهاز محمول بكبسة زر التمويل.
وكذلك ان بعض اليافطات الانتخابية مثلا، تبقى شهورا بعد انتهاء الانتخابات، رغم فقدانها لقيمتها، ليس لشيء بل للإبقاء على أبصارنا تحت هذا الاحتلال البصري المزدحم باللغة العبرية وصور المستوطنين، الذين حتى لو لم تـَعرِف اسماءهم، أو لا تتقن العبرية، فليس المقصود ان تفهم، بل فقط ان ترى وتُراكِم، حتى يصل هذا التراكم حد الوجود الراسخ، تخيل عزيزي المتنقل عبر الطرقات الخارجية، انك مررت بشارع ما، ولعدة كيلومترات دون ان ترى اي يافطة عبرية او علما صهيونيا واحداً، او حتى حاجزا عسكريا “طيّاراً”، اراهن ان معظمنا سيشعر بغياب شيء عن المشهد ويفتقده، ليس افتقاد حنين او استحسان، ولكن افتقاد وجود ما تعود البصر على رؤيته عبر سنواتٍ طوال.
أحد أشكال الاحتلال البصريّ كذلك، هو الوجود العسكري على الطرقات، شرطة الاحتلال وجيشه، عبر الحواجز العسكرية الثابتة والطيّارة كما درجت تسميتها، والتي نمر عنها دون ان نشعر ان هناك مبررًا لوجودها هنا، فالجنديّ الذي يعيق حركة عشرات السيارات، عندما تصل سيارتك اليه لا يفعل شيئاً، فقط سؤال عبيط أو اثنين “لوين رايح؟” من وين انت؟ وبعدها “سا” اي أكمل سيرك، ماذا استفاد الجندي من الأسئلة؟ لا شيء، سوى انه قال لك “أنا هنا” تراني كل يوم، أشير إليك توقف فتتوقف، تحرك فتتحرك، أسرق من بصرك ومن وقتك، ومن سمعك ووعيك.
أما عن استراتيجية التغييب البصري، فإلى جانب امور اخرى، فإن هذا أحد اسباب تصميم الشوارع الإستيطانية ” الإلتفافية”، بالطريقة التي صممت عليها، حيث تغيّب هذه الشوارع القرى الفلسطينية عن واجهة بصر المسافرين عليها، فقلما تسير على احد هذه الشوارع وترى قرية فلسطينية قريبة، وفي حال رأيتها فهي بعيدة عنه، يفصلهما سياج شائك يرتفع لأمتار وبوابة صفراء باهتة على مدخل القرية في حال مررت عنه.
أذكر في العام1990 قبل ابتداع التصاريح، وقبل ان نصبح ضحايا المنع الامني وتقييد الحركة، كنت مسافرا بعمر لم يصل العشرين بعد، مع شباب اخرين بنفس العمر تقريبا، على الشارع الممتد من جلجولية بالمثلث الفلسطيني المحتل الى الجنوب لمنطقة تسمى اليوم مدينة موديعين قريبة جدا من قرى غرب رام الله بلعين ونعلين وربما بيت سيرا، اثناء المسير كان الى يسار الطريق امتداد كبير لغابة صنوبر تبدو ان لا نهاية لها، فأشار سائق السيارة لنا، ان انظروا الى مستوى التراب بين الاشجار، فدققنا النظر.
وكان مما رأيت كثير من بقايا المنازل القديمة تسترها الاشجار الا عن أعين المدقق النظر، سألت “ما هذا” قال الرجل، هذه بقايا قرانا الفلسطينية المدمرة والمهجرة عام48، زرع المحتل بينها وحولها اشجار الصنوبر “غالبا”، لإخفائها عن النظر، ومن ثم تغييبها عن الوعي، فلا أحد اليوم يعلم اماكن هذه القرى، ربما عمد الاحتلال الى تجريفها كلها وبنى مكانها مستوطنات، لا أعلم، فهو كان مشوارا يتيما مررت به من تلك الطريق قبل ما يقرب من اربعة وثلاثين عاما، لكن فكرة خبث الإحتلال ظلت حاضرة في الذهن طوال السنوات. هذا احتلال بصري عبر تغييب الوجود الفلسطيني عن حاسة البصر ومن ثم الوعي، صحيح ان هذه القرى لم تنسَ من عقول اصحابها، حتى ابناء الجيل الثاني والثالث والرابع، الا أن أيّا منهم على الاغلب لا يستطيع الاستدلال على اماكنها ولو مر من هناك بجسده عشرين مرة، فهو يعلم مكانها على الخارطة فقط “هذا لمن يعلم” منهم.
يمكن ان يكتب الكثير حول موضوع الاحتلال البصري، لكن بهذا المقال قصدنا الاشارة للموضوع مع بعض الأمثلة للفت النظر اليه.