محمد عبد الله
شهدت الضفة الغربية والقدس توقفًا شبه تام للفعاليات الثقافية والمهرجانات خلال الأشهر الأولى من حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، إلا أنها، ومع مرور الوقت، بدأت تعود إلى التنظيم والظهور، وإن كان ذلك بشكل ومضمون مختلفين.
ففي ظل تصاعد العنف وتفاقم المعاناة، لم يبقَ الحقل الثقافي بمنأى عن التأثر، بل أصبح مرآة تعكس حجم التحولات في المزاج الشعبي العام، والهوية الوطنية، والأدوات التعبيرية للفنانين والمثقفين.
الواقع الجديد أدى إلى تحولات في المشهد الثقافي في الضفة الغربية، مع انزياح أكبر نحو أشكال المقاومة الثقافية، وتغير أولويات الإنتاج، حيث تصدرت قضايا النزوح والفقد والحنين والمعاناة الإنسانية موضوعات الفعاليات الثقافية.
كما نشطت مبادرات ثقافية محلية لدعم وتعزيز صمود المواطنين في قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، متحدية القيود السياسية.
متحف محمود درويش: توقف تام لمدة عام
تقول مديرة متحف محمود درويش، وطن مقدادي، إن المتحف توقف تمامًا عن تنظيم الفعاليات الثقافية خلال السنة الأولى من الحرب، تضامنًا مع الظروف التي تمر بها غزة والضفة. لكنها تشير إلى أن المتحف عاد لتنظيم الأمسيات في أواخر عام 2024 وبداية العام الجاري، ولكن بطبيعة مختلفة، مع مزيد من التدقيق في محتوى هذه الأمسيات قبل الموافقة عليها.
وأضافت مقدادي، في تصريح لـ”بالغراف”، إن هذه الأمسيات يجب ألا تقتصر على الطابع الثقافي البحت، بل يجب أن تتناول أيضًا التجربة الإنسانية خلال الحرب وكل ما يعانيه الشعب الفلسطيني. وأشارت إلى أن بعض الفعاليات التي كانت تُنظّم قبل الحرب توقفت حتى الآن.
كما أوضحت أنه، ورغم عودة الفعاليات الثقافية، فإن عددها انخفض مقارنة بما كان عليه قبل الحرب، ونوعيتها تغيرت، إذ أصبحت تراعي الوضع الحالي وتركز على القضايا الإنسانية.
وأردفت: “على سبيل المثال، في شهر تموز الماضي، تم تخصيص كافة الفعاليات لذكرى النكبة، والأمسية الأخيرة كانت لنقاش رواية اسمها عين التينة، تتحدث عن قرية فلسطينية مهجرة فيها عين تحمل نفس الاسم، وتتناول موضوع التهجير”.
وختمت: “عند النظر إلى جدول فعاليات المتحف، نجد أنها جميعها مرتبطة بمعاناة الشعب الفلسطيني، سواء المعارض الفنية التي تناولت النكبة والقدس وحرب غزة، أو الأمسيات التي تناولت تجارب إنسانية سببها المباشر الاحتلال”.
الحرب انعكست بشكل كبير على الحراك الثقافي
من جهته، قال رئيس تحرير منصة فلسطين الثقافية، يوسف الشايب، إن حرب الإبادة على غزة تركت أثرًا بالغًا على الحراك الثقافي الفلسطيني، خصوصًا في الأشهر الأولى، حيث أُلغيت العديد من المهرجانات المبرمجة، مثل مهرجان أيام فلسطين السينمائية في أكتوبر 2023، ومهرجان رام الله للرقص المعاصر، ومهرجان “وين عَ رام الله” في صيف 2024، إلى جانب العديد من الفعاليات الأخرى.
وتابع الشايب، في حوار مع “بالغراف”، أن هذا الإلغاء جاء نتيجة صدمة جماعية طالت المؤسسات والأفراد، بمن فيهم الفنانون، كجزء من النسيج الفلسطيني العام. وأضاف: “كان من الصعب، وما زال حتى الآن، استيعاب ما حدث، أو إنتاج فعاليات ثقافية تحاكي الواقع، ولو بشكل محدود”.
العودة من بوابة “يلا غزة”
وأوضح الشايب بأن أول عودة فعلية كانت من خلال فعالية “يلا غزة”، وهي فعالية سينمائية نظمتها منصة فلسطين الثقافية بالشراكة مع مؤسسة الفيلم الفلسطيني ومسرح وسينماتك القصبة. شارك فيها مخرجون أجانب عبر عرض أفلامهم في رام الله وفي خيام ومراكز لجوء داخل غزة، بما في ذلك عرض لفيلم “يلا غزة”، وهو أحد آخر الأفلام التي صُوّرت في القطاع من قبل مخرج أجنبي.
المؤسسات الثقافية تؤدي دورًا إغاثيًا
وأشار الشايب إلى أن المؤسسات الثقافية تحولت في بعض الأحيان إلى مؤسسات إغاثية، من خلال فتح أبوابها لاستقبال العمال من غزة، أو لتجميع وتوزيع المساعدات، وتنظيم فعاليات للتفريغ النفسي للأطفال، كما فعل السيرك الفلسطيني، ومؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، ومؤسسة عبد المحسن القطان.
وأضاف أن المؤسسات توجهت لاحقًا لدعم مشاريع ثقافية في غزة، إيمانًا بدور الثقافة في تعزيز الصمود. على سبيل المثال، دعمت مؤسسة عبد المحسن القطان أكثر من 40 مبادرة لفنانين من غزة، وقدمت مؤسسة التعاون دعمًا مماثلًا، إلى جانب تدخلات من مسرح عشتار وغيره.
الفعاليات عادت ولكن بشكل مختلف
أكد الشايب أن الكثير من الفعاليات الثقافية أُعيد تنظيمها، ولكن جميعها تمحورت حول ما يجري من إبادة وتهجير، مثل معرض الفن التشكيلي في متحف بيرزيت، ومعارض لفنانين من غزة أُقيمت في الضفة والقدس.
أما من حيث الكم، فأوضح أن عدد الفعاليات اليومية أصبح مقاربًا لما كان عليه قبل الحرب، مع حضور جماهيري جيد، وخصوصًا في مدينة رام الله.
لكن الاختلاف الجوهري، حسب الشايب، هو غياب الفعاليات ذات الطابع الاحتفالي، واستمرار الفعاليات ذات البعد التفاعلي مع الحدث، من تهجير وإبادة وتوسع استيطاني.
أسباب متعددة لتراجع الفعاليات في البداية
ترى المختصة في السياسات الثقافية، بثينة حمدان في حوار مع “بالغراف”، إن تراجع الفعاليات الثقافية في بداية الحرب كان نتيجة أسباب متعددة، أبرزها الأثر النفسي العميق، حيث لم يكن الناس مهيئين نفسيًا لحضور فعاليات، بالإضافة إلى الإغلاقات والحواجز والاقتحامات وهجمات المستوطنين، التي حدّت من حرية الحركة.
وتتفق حمدان مع الشايب بأن المشهد الثقافي عاد واستجمع قواه، وعمل خلال الحرب على مستويين: الإغاثي، من خلال دعم أنشطة في غزة؛ والتعبيري، من خلال توثيق الإبادة بأفلام ولوحات ومعارض، إلى جانب دعم الفنانين من غزة بعرض أعمالهم في الضفة.
الملاحقة والضغوط من الاحتلال
أكد الشايب أن هناك ملاحقة من الاحتلال لبعض الفنانين والمثقفين، خصوصًا في الداخل الفلسطيني والقدس، مثل اعتقال الفنانتين دلال أبو آمنة وميساء عبد الهادي على خلفية منشورات تضامنية.
وأضاف: “هناك تقييد واضح للفعاليات الثقافية ذات البعد الوطني في القدس والداخل، ووصل الأمر إلى التحقيق مع المنظمين وفرض قيود عليهم، كما حدث مع أصحاب المكتبة العلمية في القدس”.
ورغم ذلك، أشار الشايب إلى وجود إصرار من الفنانين والمؤسسات الثقافية على مواصلة العمل الثقافي، باعتباره فعل مقاومة وصمود، رغم الانهيار الذي أصاب العديد من المؤسسات.
أما بثينة حمدان، فأكدت أن الاستهداف شمل البنية التحتية الثقافية أيضًا، مثل ما حدث في مخيم جنين من تدمير لمؤسسات مثل “مسرح الحرية” وفروع “الكمنجاتي”.
وأضافت أن هناك انتهاكات رقمية طالت الفنانين على مواقع التواصل، ومع ذلك استمر الإنتاج الثقافي، خاصة في المجال السينمائي، حيث خرجت عشرات الأفلام من غزة والضفة، بعضها شارك في مهرجانات دولية، من ضمنها فيلم حصد جائزة الأوسكار.
وحول التمويل، أوضحت حمدان أن التراجع بدأ قبل 7 أكتوبر، وهو أصلًا ضعيف في مجال الثقافة والفن، مشيرة إلى أن الدول الأجنبية غير معنية بوجود ثقافة ووعي فلسطيني، في مقابل استثمارات إسرائيلية ضخمة في مجال الثقافة لتكريس روايتهم.