يزن حاج علي
صباح أمس، وفي إطار حرب الإبادة المستمرة، ارتكب الاحتلال مجزرة عقب قصف مجمع ناصر الطبي عقب قصف المجمع لأكثر من مرة حيث ارتقى في القصف الأول الصحفي حسام المصري مصور تلفزيون فلسطين ورويترز، قبل أن يعيد الاحتلال ويقصف المستشفى مرة أخرى ليرتقي على إثره 4 صحفيين آخرين”مريم أبو دقة، محمد سلامة، وأحمد أبو عزيز، ومعاذ أبو دقة طه”. إضافة لاستشهاد الصحفي حسام دوحان برصاص الاحتلال وهو بداخل خيمته في منطقة المواصي بخانيونس جنوبي القطاع.
بهذه الجريمة، ارتفع عدد الشهداء الصحفيين في قطاع غزة منذ اندلاع حرب الإبادة الجماعية عام 2023 إلى 246 شهيداً، مُشكلين امتدادًا لمن سبقهم من شهداء الصحافة الفلسطينية التي كانت هدفًا دائمًا للاحتلال، في معركة الحقيقة التي تحاول “إسرائيل” طمسها بسياقها الاستعماري منذ تأسيسها.
استهداف الحقيقة.. نهج من قبل حرب الإبادة
منذ أن هجرت العصابات الصهيونية الفلسطينيين في النكبة عام 1948، كانت وسائل الإعلام الإسرائيلية تسعى لتثبيت الرواية الصهيونية التي استندت عليها دولة الاحتلال في تأسيسها على أراضي فلسطين التاريخية، وهي مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، في محاولة لإخفاء حقيقة جريمة التطهير العرقي التي ارتُكبت ضد الفلسطينيين في ذلك العام.
في غضون ذلك، وبالتوازي مع تأسيس منظمة التحرير ككيان سياسي للفلسطينيين في الشتات، بدأت الصحافة الفلسطينية تشق طريقها، لتوصل صوت الحقيقة إلى الرأي العام الدولي، ولتُلفت أنظار العالم إلى صورة اللجوء والكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني بسرقة أرضه وطرده منها من قبل العصابات الصهيونية التي باتت دولةً على أشلاء شعب كامل وأنقاض حياته وممتلكاته.
كان الشهيد غسان كنفاني، من أوائل الصحفيين الفلسطينيين الذين أمسكوا بزمام المبادرة لإيصال صوت القضية الفلسطينية وثورتها إلى العالم، في حين كان العالم بأسره يرى النشاط المقاوم الفلسطيني نشاطًا عدوانيًا، نجح كنفاني ومن معه من الصحفيين آنذاك بقلب المعادلة وإرساء الحقيقة بشكلٍ فعال، أثر على الرأي العام العالمي، وفند الرواية الصهيونية التي احتكرت وسائل الإعلام العالمية منذ النكبة عام 1948، فيما تعكس إحدى المقابلات المصورة مع غسان كنفاني، قوة حجته ومهارته الإعلامية في إبراز الوجه الحقيقي للفلسطيني اللاجئ، الذي أصبح ثائراً.
لم يُمهل الاحتلال كنفاني طويلاً، حتى اغتاله في شهر تموز عام 1972، بعد أن فخخ عناصر من جهاز “الموساد” الإسرائيلي سيارته التي انفجرت به فور صعوده بها، تلا ذلك محاولات عدة نفذها “الموساد” ضد صحفيين وكُتاب فلسطينيين حول العالم، مُعلنة دولة الاحتلال شن حربها بشكلٍ رسمي ضد الرواية الفلسطينية.
وبعد اغتيال كنفاني بشهورٍ قليلة وتحديدًا بتاريخ 10 نيسان 1973، اغتال “الموساد” الشهيد كمال ناصر، رئيس مجلة “فلسطين الثورة” وأحد المشرفين على الإعلام الموحد في منظمة التحرير، مع رفيقه القائد كمال عدوان، مسؤول مكتب الإعلام في منظمة التحرير الفلسطينية، إضافة للشهيد محمد يوسف النجار.
بعد ذلك، واصلت دولة الاحتلال بأجهزتها الاستخباراتية، مهاجمة رواد الصحافة والفكر الفلسطيني حول العالم بالاغتيالات والتضييقات، كاغتيال رئيس مكتب إعلام منظمة التحرير في باريس، الشهيد عز الدين القلق، وسعيد حمامي الذي اغتيل في ذات بالعاصمة البريطانية لندن، بعد إطلاق النار عليه، من قبل عناصر الموساد.
خلال تلك الأعوام، كانت المعارك تتصاعد يومًا بعد يوم بين الثورة الفلسطينية وجيش الاحتلال في لبنان، حيث كانت طائرات الاحتلال تشن الغارات الجوية بشكلٍ يومي، وبشكلٍ إجرامي طال كافة الأطياف من الشعبين الفلسطيني واللبناني، وكان من ضحايا هذه الغارات مصورين فلسطينيين عملوا في التصوير الصحفي والسينمائي، كالشهيد المصور عبد الحافظ الأسمر الذي استشهد عام 1978.
ولعل اقتحام جيش الاحتلال لمركز مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في بيروت أثناء اجتياح صيف عام 1982، ونهب محتوياتها، أحد أبرز المشاهد التي أكدت تركيز الاحتلال على إخماد صوت الحقيقة وإخفاء أي رواية تكشف أكاذيبه، حيث دمر في ذلك الاجتياح عشرات المكاتب الإعلامية الفلسطينية واللبنانية.
أما في الضفة الغربية، قتلت مخابرات الاحتلال الصحفي حسن الفقيه، عام 1985، بعد نشره لقائمة بأسماء أشخاص تورطوا بتسريب الأراضي للاحتلال.
استهداف مباشر داخل الأراضي المحتلة
بعد اجتياح بيروت وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بسنوات قليلة، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، لتكون أول مواجهة جماهيرية مباشرة ضد الاحتلال داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
في تلك الفترة، لعبت الصحافة دورًا مهمًا ومحوريًا، وساهمت في نقل صورة النضال الفلسطيني إلى العالم، وفي توثيق معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، ونجحت في ذلك بشكلٍ كبير، من خلال وسائل إعلام عربية وأجنبية عديدة.
وساعدت التغطية الصحفية، خصوصًا من وسائل الإعلام الأجنبية، في كسر التعتيم الإعلامي الذي حاول الاحتلال فرضه، حيث نشرت صور ومقاطع فيديو لأطفال ونساء يواجهون جنود الاحتلال بالحجارة، مما أثار تعاطفًا عالميًا، إضافة لمشاهد منع التجول وهدم منازل الفلسطينيين في قطاع غزة، والضفة الغربية.
ومارس الاحتلال الإسرائيلي خلال الانتفاضة الأولى سلسلة من الانتهاكات والانتهاكات الممنهجة ضد الصحافة، بهدف منع نقل الحقيقة وتقييد التغطية الإعلامية التي كانت تفضح ممارساته ضد الشعب الفلسطيني، حيث اعتدى على الصحفيين أثناء تغطيتهم الإعلامية بإطلاق الرصاص وقنابل الغاز باتجاههم، فضلاً عن ملاحقتهم بالاعتقالات، ومنع مراسلين الوكالات الأجنبية والعربية من دخول الأراضي الفلسطينية لتغطية أحداث الانتفاضة.
وما إن اندلعت الانتفاضة الثانية عام 2000، حتى عادت الصحافة الفلسطينية في صدارة تغطية أحداث الانتفاضة، التي تعامل معها الاحتلال بإجرام غير مسبوق، في حين طالت جرائمه الصحفيين بشكلٍ مباشر، عبر استهدافهم بالقصف الجوي وإطلاق النار عليهم.
كان الشهيد الصحفي عزيز التنح، من الوكالة الفلسطينية للأنباء “وفا”، أول الشهداء الصحفيين خلال انتفاضة الأقصى، إذ ارتقى يوم 28 تشرين أول/أكتوبر 2000، إثر إصابته برصاصة بالرأس أطلقها عليه جنود الاحتلال أثناء عمله الصحفي في مدينة بيت لحم، ليفتتح جيش الاحتلال حقبة جديدة من حُقب الإجرام، مُستهدفاً بها الصحافة الفلسطينية، حتى باتت البندقية الإسرائيلية تواجه الكاميرا الفلسطينية بشكلٍ فعلي.
خلال سنوات الانتفاضة، كثف جيش الاحتلال من مهاجمة الصحفيين ووكالات الصحافة الفلسطينية بمختلف المناطق الفلسطينية، كقصف مبنى المركز الفلسطيني للإعلام في مدينة نابلس عام 2001، واستشهد بالقصف الصحفيين محمد البشتاوي وعثمان قطناني، إضافة لتدمير مبنى هيئة الإذاعة والتلفزيون في مدينة رام الله عام 2002، أثناء اجتياح المدينة.
وتوالت استهدافات الاحتلال للصحفيين الفلسطينيين خلال الحروب التي شنها على قطاع غزة منذ عام 2008 حتى حرب الإبادة، فلا تكاد تمر أسابيع قليلة دون خبر اعتقال صحفي فلسطيني أو إصابته أثناء التغطيات الإعلامية.
ولعل حادثة استشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة عام 2022، إحدى أبرز المشاهد التي نُقشت بالدم في الذاكرة الفلسطينية، بعد أن أطلق جنود الاحتلال النار عليها، ومنعوا إنقاذها بإطلاق النار على كل من حاول الاقتراب منها.
وفي حديث خاص أجراه بالغراف مع أستاذ الإعلام في جامعة بيرزيت صالح مشارقة، قال فيه إن الاحتلال تاريخيًا يُعاقب الصحفيين الفلسطينيين لأسباب عدة، منها كشفهم عبر عملهم عن جرائم الاحتلال ومخططاته، في حين يدرك الاحتلال خطورة كشف صورته الحقيقية أمام العالم، وفضح جرائم التطهير العرقي التي يرتكبها بحق الفلسطينيين.
وأضاف مشارقة أنه ومنذ عام 1967 حاربت دولة الاحتلال الصحافة الفلسطينية بكل ما أوتيت من قوة، عبر ملاحقة الصحفيين داخل الأراضي الفلسطينية بالاعتقال، والاغتيالات خارج فلسطين، والتضييق المشدد على حرية العمل الصحفي، فيما كانت الصحافة الفلسطينية منبرًا للوطنية وللمناداة بالحرية للشعب الفلسطيني، حتى باتت الصحافة الفلسطينية وسيلة من وسائل مناهضة الاحتلال، وقد برز ذلك جليًا في السبعينيات والانتفاضة الأولى.
إبادة ممنهجة ضد الصحافة الفلسطينية
وأوضح مشارقة، أنه ومنذ بدء حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة، منذ تشرين أول/أكتوبر 2023، اختلفت طريقة الاحتلال باستهداف الصحفيين الفلسطينيين، بشكلٍ مُمنهجاً وأكثر إجراماً، عن طريق برمجة آلية داخل جيشه ومخابراته وتشكيل لجنة أُطلق عليها “خلية إضفاء الشرعية”، والتي كان مهمتها ملاحقة الصحفيين الفلسطينيين واعتقالهم، وتبرير اغتيالهم في قطاع غزة.
وأردف قائلاً: “كنا نحن في الجانب الفلسطيني نؤكد للعالم أن ما يحدث في قطاع غزة من استهداف للصحفيين، ليس عشوائيًا، ولا يتم تحت عنوان القصف العشوائي، بل عن طريق متعمدة واستخدام وسائل دقيقة كالقناصة، أو بعد عمليات تحريضٍ على استهدافهم وقتلهم”.
وأكد مشارقة أن دولة الاحتلال انتهكت كافة المعاير والمواثيق الدولية، بملاحقتها للصحفيين خلال الحرب، من خلال مراقبتهم واختراق هواتفهم، ثم استهدافهم وهم على رأس عملهم ويرتدون الزي الرسمي للصحافة، وداخل سيارات البث الصحفي، وقد تكرر ذلك عدة مرات.
وعن دور وسائل الإعلام العالمية والعربية إزاء ما يحدث من استهداف مستمر للصحفيين، قال مشارقة إن ما هو مطلوب منها، جعل قضية الصحفيين الفلسطينيين على رأس أولوياتها وعلى رأس تغطيتها الإعلامية، إضافة إلى رفع مستوى الحديث عن هذه القضايا مع مسؤولين دوليين مع السعي للمشاركة بفعاليات تضامنية مع الجسم الصجفي الفلسطيني، وملاحقة دولة الاحتلال دوليًا حتى لا تفلت من العقاب.
الصحافة في الميدان.. حيث الاعتداءات لا تتوقف
الصحفي الفلسطيني عمرو مناصرة الذي يقف على رأس التغطية الإعلامية في محافظة جنين منذ سنوات، وفي حديث خاص ل” بالغراف”، أكد لنا أن استهداف الاحتلال للصحفيين الفلسطينيين ليس وليد هذه المرحلة، وغير مرتبط بحدث معين، غير أن الأحداث التي طرأت خلال السنوات الأخيرة في الضفة الغربية قبل بدء الإبادة على قطاع غزة، باتت التغطية الصحفية بها مختلفة، في قلب المواجهات والاشتباكات، وتعامل جيش الاحتلال في خضمها بوتيرة أعلى من العنف باستهداف مباشر للصحفيين، وقد تجلى ذلك باستشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة.
وقال مناصرة أنه تعرض لاعتداءات مباشرة وإصابات نتيجة استهداف جنود الاحتلال له منها إصابة بقنبلة غاز، وإصابة بالرصاص الحي، مع مجموعة أخرى من الصحفيين الذين تم إطلاق النار عليهم بشكل مباشر من قبل جنود الاحتلال.
وتابع بأنه وبعد بدء حرب الإبادة على قطاع غزة، كثف جيش الاحتلال من انتهاكاته ضد الصحفيين كالتفتيش الدقيق وتفتيش هواتفهم، إضافة لتعطيل التغطية الإعلامية.
وعن مفاهيم الحماية الدولية للصحفيين، نفى مناصرة وجوده بشكلٍ كلي، وانعدامه على أرض الواقع خاصةً للصحفيين الفلسطينيين، وأثبت ذلك استهداف الاحتلال للصحفيين في قطاع غزة والضفة الغربية، دون وجود محاسبة فعلية لجيش الاحتلال.
وأضاف مناصرة بأن استهداف الاحتلال للصحفيين يأتي ضمن خطة ممنهجة؛ لإخفاء الحقيقة، ومنع إيصال الصورة الحقيقية لإجرام الاحتلال للعالم.
في الختام، لا يمكن الفصل بين مكونات المعركة الدائرة ضد الاحتلال منذ يومه الأول في حربه على الشعب الفلسطيني، هذه الحرب التي وصلت إلى ذروتها كحرب وجود، يفتك الاحتلال بها بالفلسطينيين بوسائل مختلفة، فيما تسرق عصاباته الاستيطانية الأراضي في الضفة الغربية، وتمارس جرائم التهجير القسري ضد التجمعات البدوية، لتبقى الحقيقة محور هذه المعركة والصحافة الفلسطينية رائدتها في وجه آلة الإبادة.