تسنيم دراويش
من بين ظلال عرائش العنب الذي يقطر شهداً وأصالة، ومن بين عيون مياه مدينتها التي تفيض خيراً وعزيمة، من مدينة خليل الرحمن خرجت السيدة عائشة أبو اسنينة، واختارت أن لا تترك أرضها التي ورثتها عن والدها الشهيد بالرغم من الصعاب المحيطة بها، ولكن وبعد السابع من أكتوبر أصبح الوصول إلى أرضها مهمة صعبة للغاية وقد تكون مستحيلة أحياناً.
عقب الأزمة الإقتصادية التي رافقت جائحة كورونا بدأت قصة أبو اسنينة مع الزراعة، حيث تراجع عمل زوجها في قطاع الجلود، فتقول إنها أدركت حينها أنه عليك أن تمتلك أكثر من عمل لتعيش حياة كريمة في هذا البلد، ولأنه كان من الصعب عليها أن تعود للعمل في مجال دراستها كفنية مختبر، قررت أن تبدأ مشروعها الخاص بزراعة الخضراوات.
تحرص أبو اسنينة على التعريف بتاريخ قطعة الأرض الخاصة بالمشروع، وكيف ورثتها عن والدها الذي استشهد في مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف عام 1994، وكأنها بحديثها هذا ترسل باقات الامتنان مُتوجة بشيء من الفخر لروح الشهيد وإرثه، أو أنها –دون أن تدري– تربط ثلاثتهم معاً (الأب الشهيد، والأرض، والمشروع )، ليصبحوا جزءاً واحداً غير قابل للتجزئة أو التخلي .
استطاعت أبو اسنينة الحصول على تمويل بسيط استغلته، مع ما لديها من مدخرات خاصة، لبناء بيت بلاستيكي تبلغ مساحته “250متر” فقط، كان صغيراً ولكن حلمها بتوسيع مشروعها كان كبيراً، ومع مرور الوقت استطاعت تحقيق حلمها فقامت بتوسيع البيت البلاستيكي حتى أصبحت مساحته تقارب الدونم، وذلك بمساعدة زوجها الذي تعتبره الداعم الأساسي لها، واصفة إياه برفيق دربها بالعمل والنجاحات فهو معها خطوة بخطوة بكل شيء
“الماء” تلك المشكلة الكبرى التي تواجه المزارعين، ولأن أبو اسنينة دائماً ما تبحث عن الحلول لمشاكلها، فقامت بعمل بئرين أحدهما شادر بلاستيكي والآخر محفور في الأرض، تجمع من خلالهما مياه الأمطار من فوق البيت البلاستيكي، وذلك كحل لمواجهة هذه المشكلة
لعائشة نفس توّاقة فتؤكد أنها كلما أرادت شيئاً ساعدها الله في الوصول إليه، وكلما وصلت إلى هدف وجدت لنفسها هدفاً آخر، حيث بدأت بتربية الأسماك في البركتين الموجودتين أصلاً، واحدة وضعت فيها سمك زينة والأخرى سمك المشط، وتأمل مع نهاية هذا الصيف أن تبيع أول ناتج من الأسماك، كما أنها تستخدم جزءاً من مياه البركتين كسماد لنباتاتها وذلك لغناه بالنيتروجين.
“رحلة الدوران حول الكوكب”، بهذه الكلمات وصفت عائشة معاناتها للوصول إلى أرضها، فمنذ بداية الحرب، زادت الفواصل بينها وبين الأرض، فقبل الحرب لم تكن تحتاج سوى لخمسة دقائق في السيارة للوصول من بيتها في ضاحية البلدية إلى مزرعتها في منطقة قلقس، أما اليوم فتضطر لسلوك طرق بديلة ومسافات طويلة، جزءًا منها عبر الطريق الالتفافي بكل ما فيه من مخاطر.
تقول قواعد الرياضيات إن أقصر مسافة بين نقطتين هي الخط المستقيم، أما قواعد الواقع الذي يفرضه الاحتلال، فتقول إن على الفلسطيني المشي أقصى مسافة بين نقطتين وذلك بالدوران والالتفاف حول النقطة المنشودة قبل الوصول إليها، لتذهب ساعات طويلة من عمره وأحيانا عمره ذاته على هذه الطرق والحواجز.
أبو اسنينة أفادت أنها مع الحرب تضطر للمرور من جانب معسكر للجيش، فتمر بذهنها سيناريوهات مختلفة كأن يدهسها أو يقتلها أحد المستوطنين، فهم لا يحتاجون لحجة حتى يطلقوا النار، مضيفة أنها في كل مرة تنطق الشهادة وتشعر بأنها عادت للحياة بعد عودتها من الأرض، وذلك رغم محاولتها قدر المستطاع تقليل أيام ذهابها للمزرعة، إلا أنها تضطر للذهاب يومياً، كون محصول الخيار حالياً يحتاج للقطف يومياً، ولأن الطريق الالتفافي يوم السبت يكون محفوفاً بالمخاطر والأزمات.
وفي محاولة منها للتماشي مع الواقع المرير قامت ببناء غرفة صغيرة لنفسها رغم تضييقات الاحتلال على البناء في تلك المنطقة، حيث تذهب إليها برفقة زوجها عصر يوم الجمعة وتنام فيها، واصفة النوم بها بأنه نومة لا يعلم بها سوى الله، مشيرة إلى أنهم فجر السبت يقومون بقطف الخيار، لتبدأ بعد ذلك رحلة طويلة للوصول إلى السوق المركزية وتسويقه.
ورغم كافة الصعوبات التي تواجهها فإنها تؤكد على اتصالها بالأرض ومواصلة عملها وبأنها لن تتوقف فهذا ليس فقط بمشروعها فقط بل حياتها، مبينة بأن يومها لا يكتمل دونه وستبقى تصل إليه وتغرس وتُنتج رغم الصِعاب المحيطة
هذه هي قصة عائشة، وهي دون أن تعلم، تمثل العلاقة الأزلية بين الفلسطيني وأرضه، منحتها أرض والدها الشهيد مفتاحاً لحياة لم تتوقعها، وهي بدورها تمنح أرض الشهيد حياة متجددة رغم كل الصعوبات التي يضعها الاحتلال أمامها، ولسان حالها يقول ما قاله محمود درويش: نحن باقون لأننا أصحاب الأرض وأنتم مجرد “مارون بين الكلمات العابرة”.