loading

محمد زيتون.. أخذ حرفة القش من جدته

تسنيم دراويش

في قلب قرية نحف الجليلية برز الحرفي محمد زيتون كمحافظ على تراث نسيج القمح الذي كاد أن يندثر، بعد أن دفعه رفض جدته لإعطائه طبقًا من القش إلى تعلم هذه الحرفة النادرة،  فلم يكتفِ بإتقان الفن بل قام بتعليمه لأكثر من 2000 شخص، ليُعيد إحياء رموز ثقافية فلسطينية قديمة ويمزجها بتأثيرات من ثقافات أهل الشام، مُعيدًا بذلك التداخل الحضاري بين المنطقتين في تصاميمه الفريدة

يقول زيتون في حديث ل” بالغراف” أنه لم يكن يتخيل أن يعمل في الفن لكنه اكتشف أن الفن كان مدفونًا بداخله، فمنذ صغره وهو يحب اقتناء القطع القديمة، مضيفاً أنه في أحد أيام بحث عن تلك القطع التراثية، حاول الحصول على طبق قش من جدته، إلا أنها رفضت رفضًا قاطعًا، إضافة لمحاولته شراء طبق من سكان القرية لكن كل محاولاته هذه باءت بالفشل.

هذا الرفض أثار فضول زيتون لمعرفة سبب تمسك الناس بتلك الأطباق ليكتشف لاحقًا أن جدته كانت على حق؛ فهذه الأطباق ليست مجرد أدوات، بل لها قيمة خاصة إذ صنعتها لها والدتها ضمن جهاز عرسها، وبعضها كان من صنع يدها عندما كانت شابة ومع تقدمها في العمر لم تعد قادرة على إعادة صنعها، مؤكدًا أنه أدرك حينها أن ما كان يراه لم يكن مجرد طبق، بل تحفة فنية تحمل في طياتها قصة وتراثًا، مشددًا على أن رغبته بشراء الطبق تغيرت إلى تعلم كيفية صنعه بنفسه.

بدأ زيتون بالتواصل مع النساء الفلسطينيات لسماع قصصهن عن الأطباق ليدرك أن هذه القطع الفنية تعكس تأثر المرأة الفلسطينية بالطبيعة وحياتها اليومية، إضافة لتعرفه على الرموز والدلالات المختلفة لكل طبق، قبل أن يطلب من والدته أن تعلّمه هذه الحرفة، وبعد محاولات عديدة أتقنها ليكتشف أن شغفه الحقيقي يكمن في إعادة إحياء هذه الحرفة بأي وسيلة ممكنة.

شرع زيتون بصنع الأطباق لتخرج نُسخ طبق الأصل عن الأطباق التي كانت تصنعها النساء الفلسطينيات منذ القدم، حيث نجح بإعادة إحياء الطبق الفلسطيني التقليدي بجميع تفاصيله، فهو  يبدأ بزراعة وحصاد القمح الفلسطيني الأصلي، لأن القمح المتوفر في الأسواق اليوم مهجن إضافة لأن قشه غير مناسب للنسيج، مضيفاً أنه بعد الحصاد يختار القش المناسب ويفصله عن السنابل، ثم يقسمه إلى قسمين،  “قسم يحتفظ بلونه الأبيض ليستخدم في صناعة الأطباق اليومية التي يوضع فيها الخبز، والقسم الآخر يصبغه بالطريقة التقليدية باستخدام أصباغ طبيعية مستخلصة من النباتات والزهور والتوابل”، مشيرًا إلى أن هذه الأطباق المزخرفة كانت تُستخدم في المناسبات والأفراح، مثل وضع بدلة العريس وعطره.

يمتاز زيتون بقدرته على دمج الثقافات المتنوعة في أعماله الفنية ما يعكس تأثير التبادل الثقافي بين أهل الجليل والشام، فكل قطعة يصنعها تحمل في طياتها قصة خاصة وأبرزها طبق “نص الدنيا”، والذي يعبر عن تداخل الأشكال الهندسية الفلسطينية واللبنانية، مفيدًا أن أجداده كانوا يسافرون إلى الشام للتجارة، وفي إحدى رحلات إمرأة فلسطينية من الجليل إلى مدينة صيدا اللبنانية قامت بشراء طبق قش بتصميم مميز، حيث استوحت من هذا التصميم وأضافت إليه لمسات فلسطينية، لينتج عنه تحفة فنية أسمتها “نص الدنيا”، تعبيراً عن الرحلة التي قطعتها لصنعه.

إلى جانب إعادة إحياء التراث الفلسطيني الأصيل، أضاف زيتون لمساته الخاصة على بعض الأطباق لتتناسب مع العصر الحديث فصنع أطباقًا تعكس معاني وقصصاً مختلفة، مثل “طبق يجسد بداية الحياة بعد الطوفان في قصة النبي نوح عليه السلام، حيث صور الحمامة التي جلبت غصن الزيتون وهي إشارة إلى نهاية الطوفان وبداية الحياة الجديدة”.

ولم يقتصر إبداعه على صناعة الأطباق فقط، بل توسع لإنتاج “الكراسي، الطاولات، الحصر، ومشط الحصاد، وغيرها من القطع” التي تُصنع من القش، حيث أعاد إنتاج كل ما كان يُصنع من القش في الثقافة الفلسطينية، وفي بداية صنعه لها كان يراها أغلى من أن تُباع مؤمنًا بأنها لوحات فنية لا تُقدر بثمن، متأثرًا في ذلك بفكرة جدته التي كانت تحتفظ بتلك القطع التراثية، ولكن نظرته تغيرت بعد مشاركته في أول معرض له حيث جذبت إحدى المسنات الفلسطينيات انتباهه.

وأكد زيتون أن  تلك السيدة تركت كل المعروضات واتجهت مباشرة نحو أطباق القش الخاصة به، وطلبت شراء طبق لأنه أعاد إليها ذكريات جدتها وصباها، وعندما اقتنته دمعت عيناها، وأخبرته أن هذا الطبق أعاد إليها الحياة، ومن تلك اللحظة لاحظ شغف الناس الكبير تجاه التراث الفلسطيني، ورغبتهم في إعادة إحياء تلك الحرف القديمة ما منحه دفعة معنوية كبيرة للاستمرار في مشروعه، بالإضافة إلى الدعم المادي الذي حصل عليه من مبيعاته.

وبفضل هذا الدعم تمكن زيتون من إنشاء متحف خاص بالتراث الفلسطيني في قريته نحف، وأطلق عليه اسم “متحف القش نحف” نسبةً إلى قريته الجليلية الجليلة، حتى بات المتحف منصة لاستقبال الزوار وتنظيم ورشات عمل ومحاضرات تهدف إلى دعم التراث والحفاظ عليه للأجيال القادمة، وخلال عشر سنوات علّم محمد أكثر من 2000 شخص حِرفة نسيج قش القمح ومعظمهم من النساء، وكل واحدة منهن ساهمت بطريقتها في حفظ التراث، بعضهن  صنعن قطعهن الخاصة، بينما أخريات أسسن مشاريعهن الخاصة ونجحن في بيع المنتجات التراثية.

أثبت زيتون بمشروعه هذا أن الحرفة هذه ليست حكرًا على النساء فقط، فالرجال أيضًا يستطيعون الإبداع فيها بجدارة، موضحًا أن الفن لم يكن يومًا حكرًا على النساء فمنذ القِدم كان للرجال دورًا بارزًا في الحرف اليدوية، حيث كانوا ينسجون السلال من أغصان الزيتون ويساهمون في تجهيز القش مع النساء، موجهًا دعوته للشباب الذين يرغبون في تعلم الحرف الفلسطينية بالاستفادة من معرفة وخبرات كبار السن، مطالبًا إياهم بالعودة إلى الأجداد والاستماع إلى قصصهم وحكاياتهم، وأن يذهبوا للقرى والتجمعات الفنية لتغذية إبداعاتهم، وأن يتعلموا هذه الحرف الأصيلة قبل اندثارها

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة