loading

الوجه الآخر للسجون الإسرائيلية: حين يصبح القمع والمرض سلاحًا لقتل الأسرى

د. ياسمين تمام

بعد السابع من أكتوبر، لم تعد السجون الإسرائيلية مجرد زنازين، بل تحوّلت إلى مقابر مغلقة تحكمها العزلة والقهر، حيث يُترَك الأسرى الفلسطينيون لمصير بطيء من العذاب المستمر، بلا دواء ولا أدنى حقوق إنسانية، في ظل غياب الرقابة الدولية وانعدام المساءلة. التعذيب لم يعد يقتصر على العزل الانفرادي والحرمان من الزيارات، بل أصبح الإهمال الطبي والتجويع المتعمد أدوات حرب تُستخدم لكسرهم جسديًا ونفسيًا حتى الإنهاك.

التقارير الواردة من داخل المعتقلات تكشف عن كارثة إنسانية مروّعة، حيث يتفشى مرض الجرب (Scabies)  بين الأسرى، في ظل انعدام الرعاية الصحية ورفض الاحتلال تقديم العلاج اللازم. ولا يقتصر الأمر على الإهمال الطبي، بل يمتد إلى منع الأسرى من الحصول على الملابس والأغطية اللازمة لمقاومة البرد، إضافةً إلى سياسة التجويع الممنهجة، حيث لا يُقدَّم لهم سوى فتات الطعام الذي بالكاد يُبقيهم على قيد الحياة. في زنازين ضيقة ومكتظة، يتحول الألم إلى رفيق دائم، والمرض إلى سلاح آخر يُضاف إلى قائمة الانتهاكات المتعمدة.

وسط هذه المشاهد المروعة، يُطرح السؤال الأهم: كيف يتعامل العالم مع هذه الجرائم؟ الصمت الدولي هو العار الأكبر، حيث يكتفي العالم ببيانات باردة بينما يُترك آلاف الأسرى يواجهون الموت البطيء دون أي تحرك جاد. عندما يكون الأسير إسرائيليًا، تهتز المنظمات الحقوقية، تُعقد الاجتماعات الطارئة، وتتصدر قضيته نشرات الأخبار، بينما يُترك الأسرى الفلسطينيون لينزفوا بصمت خلف القضبان.

 فهل أصبحت العدالة تُمنح وفقًا لجنسية الأسير؟ وهل باتت حقوق الإنسان امتيازًا لفئة دون أخرى؟ هذه الأسئلة وحدها تفضح المعايير المزدوجة التي تحكم المشهد الدولي اليوم.

لكن مع كل هذه الانتهاكات، يبرز وجه آخر للقمع، أكثر خفاءً، وأشد فتكًا: المرض كسلاح للقتل البطيء. لا يقتصر هذا الإهمال المتعمد على حرمان الأسرى من العلاج، بل يتخذ شكلًا أشد خطورة حين يتحول المرض إلى سلاح ممنهج للقمع والتنكيل. في انتهاك صارخ لكل القوانين الدولية، تفشَّى مرض الجرب (سكابيوس) في عدة سجون، منها ريمون، مجدو، نفحة، والنقب، حيث يتعمد الاحتلال ترك الأسرى في بيئة موبوءة، بلا علاج، وبلا أدنى مقومات الوقاية. العزل القسري، الزنازين المكتظة، وانعدام النظافة، كلها عوامل حولت المعتقلات إلى مستنقعات للوباء، في ظل تجاهل متعمد لكل الالتزامات القانونية التي تفرضها اتفاقية جنيف بشأن معاملة الأسرى.

وإن كانت هذه المعاناة تطال جميع الأسرى، فإن بعض الحالات تكشف الوجه الأكثر قسوة لهذه السياسات، مثل ما يعيشه الأسير بلال تمام

بلال، المحكوم بالسجن ثلاثين عامًا، يعيش مرحلة متقدمة من المرض، حيث تفاقمت إصابته بالجرب إلى حد ينذر بالخطر، في ظل غياب أي تدخل طبي فعَّال. وفقًا لشهادات الأسرى المفرج عنهم، يعاني من تقرحات شديدة وحكة مستمرة تفاقمها الظروف المزرية داخل الزنازين، حيث تنعدم النظافة تمامًا، ولا تتوفر له أي أدوية أو علاجات. يُترَك ليصارع الألم في عزلة قسرية داخل قسم يعجّ بالأسرى المرضى، بينما الطعام المقدم لهم بالكاد يصلح للاستهلاك البشري، والفراش لا يعدو كونه قطعًا مهترئة لا تقي من البرد أو انتقال العدوى

هذا ليس مجرد إهمال، بل سياسة عقابية ممنهجة تستخدم المرض والتجويع كأدوات قمع، في ظل صمت دولي يُشرعن هذه الجرائم التي ترقى إلى جريمة حرب وفق القانون الدولي. كيف يمكن للعالم أن يتحدث عن حقوق الإنسان بينما يُترك الأسرى الفلسطينيون ليواجهوا الموت البطيء خلف القضبان؟

وسط هذه الممارسات الوحشية، يلتزم المجتمع الدولي صمتًا أقرب إلى التواطؤ، متجاهلًا كل التقارير الحقوقية التي تفضح استخدام الاحتلال للإهمال الطبي كسلاح قاتل ضد الأسرى الفلسطينيين. المنظمات الأممية ترفع شعارات حقوق الإنسان، لكنها تتحول إلى مؤسسات عاجزة عندما يتعلق الأمر بضحايا الاحتلال. أين تلك المؤتمرات الطارئة؟ أين الإدانات الصارخة؟ أين العدالة التي يدّعون الدفاع عنها؟ أم أن القوانين تُفصَّل وفق هوية الضحية؟

إن ما يجري داخل السجون ليس مجرد إهمال طبي، بل عملية قتل بطيء ممنهجة، تُنفَّذ بغطاء دولي مخزٍ، حيث يتم ترك الأسرى فريسة للمرض والعذاب دون أدنى تدخل. كل دقيقة صمت هي رصاصة إضافية في جسد العدالة، وكل تهاون دولي هو إذنٌ غير معلن للاحتلال بمواصلة جرائمه دون حساب. فإلى متى يبقى العالم متفرجًا على هذه المذبحة الصامتة؟!

ختامًا: صرخات خلف الجدران.. فهل من مجيب؟

في قلب الزنازين المعتمة، حيث يُمحى الإنسان ويُترك للموت البطيء، يواجه الأسرى الفلسطينيون أبشع أشكال القهر والتنكيل. ليست مجرد معاناة، بل سياسة مدروسة تُنَفَّذ بأيدٍ تعرف جيدًا كيف تقتل دون أن تطلق رصاصة. الجوع، المرض، العزل، والإهمال الطبي ليست أخطاءً عرضية، بل أدوات إعدام بطيء تُمارس بدمٍ بارد.

بلال تمام ليس رقمًا في قائمة الأسرى، بل شاهد على هذه المأساة، جسد ينهشه المرض في زنزانة مغلقة، وصرخة مكتومة في عالم أصمّ. محروم من العلاج، من الشمس، من أبسط حقوقه كإنسان، يواجه مصيره بينما يشيح العالم بوجهه بعيدًا. فإلى متى سيبقى الأسرى الفلسطينيون رهائن لهذه المقابر المغلقة؟ وإلى متى يبقى العالم متواطئًا بصمته؟ قد تغلق الأبواب عليهم، لكن أصواتهم ستظل شاهدة، وستظل قضيتهم نارًا تحرق كل من اختار أن يتجاهلها.

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة