تسنيم دراويش
في شارع الساحة وسط البلدة القديمة في نابلس، يقف سعيد قطب (21 عامًا) خلف عربته المتنقلة، يُقلب أقراص الفلافل بِحِرَفية. وإلى جانبه، تتدلى صورة تجمعه بوالده، الذي كان رفيقه الدائم في هذا المكان خلال رمضان. لكن هذا العام المشهد مختلف فالاحتلال غيّب الأب في سجونه، وترك لسعيد مسؤولية ثقيلة، يواجهها وحده، محاولًا أن يحافظ على إرث العائلة رغم الغياب.
يقول قطب في حديث ل” بالغراف”:”السنة الماضية كنا معًا هنا، وهذه المرة الأولى التي أفتح فيها البسطة وحدي. أتمنى لو كان معي، حتى في أبسط الأمور.”كلمات يعبر فيها عن فراغ عميق، ليس فقط في عائلته، بل في قلوب زبائنه الذين اعتادوا رؤيتهما معًا.
تعود قصة فلافل قطب إلى عشرات السنين، عندما بدأ الجد بتحضير الفلافل وبيعها، لتصبح نكهته الخاصة علامة فارقة لدى الزبائن. “منذ طفولتي كنت أراقب جدي وهو يعمل، أرافقه مع والدي وأنتظر اليوم الذي أتمكن فيه من مساعدتهما”، يقول سعيد. ومع مرور السنوات، ورث والده سر الوصفة وحرص على الحفاظ على هذا الطقس الرمضاني، حيث كان في كل عام ينزل إلى شارع الساحة في نابلس ليبيع الفلافل، وسعيد إلى جانبه يتعلم ويراقب.
لم يكن سعيد بحاجة إلى معرفة تفاصيل الوصفة السرية، فوالده كان هناك دائمًا، يحضرها بنفسه. لكن في عام 2019، تغير كل شيء، عندما اعتقل الاحتلال والده، تاركًا البسطة بلا صاحب. يتذكر سعيد تلك اللحظة القاسية، عندما بدا أن تقليد العائلة قد ينقطع قائلًا “كان عامًا صعبًا، أول رمضان بلا والدي، وأول رمضان بلا فلافل قطب. لم أكن مستعدًا لتحمل المسؤولية حينها”
لكن بعد خروج والده من الأسر، أصرّ سعيد على تعلم الوصفة بنفسه، مُدركًا أن البسطة لا يجب أن تغلق مهما كانت الظروف. وعندما أعيد اعتقال والده مجددًا في يوليو 2024، كان القرار قد اتُخذ مسبقًا: “لن أغيب عن المكان، ولن يُمحى اسم فلافل قطب من رمضان”.
قبل حلول الشهر الكريم، بدأ سعيد بتحضير أدواته، مستعدًا لفتح البسطة في الموقع ذاته، حيث اعتاد والده أن يكون وليحافظ على إرث العائلة رغم كل الغياب.
يبدأ سعيد عمله في وقت الظهيرة، ويستمر حتى نصف ساعة بعد أذان المغرب، حيث يظل الزبائن يتوافدون على بسطته لشراء الفلافل الطازجة. أما عملية تحضير العجين، فهي تحتاج إلى وقت طويل، إذ يجب تحضيرها مسبقًا في اليوم السابق لضمان جودتها. وفي هذا العمل، لا يكون سعيد بمفرده، بل تساعده والدته في تحضير العجين.
في بداية العام الحالي، جرب سعيد مرارة السجن لمدة 20 يومًا، ليكشف عن صعوبة الأوضاع داخل السجون قائلاً: “الأوضاع هناك صعبة جدًا ولا أتمنى أن يمر بها أحد” يضيف:” أشعر أن قلبي محبوس مع والدي طيلة وهو أسير، وأنا غير سعيد”.
ورغم معاناته بسبب غياب والده، إلا أن سعيد يواجه الزبائن بابتسامة، متمسكًا بتعاليم والده الذي كان دائمًا يقول له: “ابتسم في وجه الزبائن مهما كانت الظروف”. هذه الابتسامة، التي تعلمها منذ الصغر، أصبحت جزءًا من شخصيته، ويعتبرها وسيلة للتعبير عن الاحترام، كما علمه والده.
الزبائن يسألون.. والدعوات لا تتوقف
في شهر الدعاء يجد سعيد نفسه محاطًا بدعوات الزبائن الذين يلتفون حول عربته. مبينًا أن الزبائن يسألون عن والده يوميًا، ويدعون له بالفرج. والكثير ممن عرفوا جده يدعون له بالرحمة.
ورغم الأوقات الصعبة التي يمر بها، إلا أنه لا ينسى دعاءه الخاص في هذا الشهر الفضيل. وعند سؤاله عن دعوته الحاضرة في رمضان، أجاب قائلاً: “أدعو الله دائمًا أن يكون بعون أهل غزة، فهم من يستحقون الدعاء. وأدعو بالفرج للأسرى جميعًا وأن يعود أبي لنا”.
طبق فلسطيني لا يموت ولا يُسجن
في الوقت الذي يسعى فيه الاحتلال إلى انتزاع التراث الشعبي الفلسطيني وادعاء ملكيته، كزعمهم بأن الفلافل طبق إسرائيلي، يبقى الأحفاد متمسكين بما أورثه لهم الأجداد، ويعكسون ذلك في حياتهم اليومية. وهذا ما يجسده “سعيد” من خلال بسطته المتواضعة، حيث يقدم رسالة حية للشباب بضرورة التمسك بثقافتهم وتراثهم مهما كانت الظروف.
فبينما يواصل الاحتلال محاولاته لتشويه الحقائق، يبقى الفلافل صحنًا فلسطينيًا بامتياز لا يموت ولا يُسجن.