loading

حين يصمت المدفع.. ماذا بعد؟

محمد الشريف

انتهت حرب غزة أخيراً، لكن سؤال ماذا بعد؟ لا يشبه أي سؤال آخر، لأنه يخرج من قلب الركام ومن غبار البيوت التي سُويت بالأرض ومن بين صرخات الأمهات اللواتي ما زلن يبحثن عن جثامين أبنائهن تحت الأنقاض.

 فغزة اليوم ليست مجرد مدينة بل ذاكرة متخمة بالرماد والدم، ومكان تتنفس فيه رائحة البارود حتى بعد توقف القصف، وتظل فيه السماء رمادية حتى في أصفى الأيام، ولك أن تتخيل انطفاء صوت المدافع فجأة وانقشاع الدخان، ليعلو أذان الفجر للمرة الأولى منذ شهور دون أن يقطعه دوي انفجار أو صراخ أطفال صاروا يختبئون غريزياً عند كل صوت مرتفع، لكنك رغم هذا الصمت لا تعرف إن كان أخوك الذي فُقد تحت الأنقاض قد رحل إلى الأبد أم أنه ما زال حياً في مكان ما، ولا تدري إن كان جثمان ابنك سيعود يوماً ليوارى الثرى، ولا تعرف أين اختفت عائلة شقيقتك التي نزحت ولم تعد ترد على مكالماتك.

انتهت الحرب أو بدت كذلك وارتفعت رافعات الإنقاذ، ولكن هذا الهدوء لا يعني نهاية الألم بل بدايته الحقيقية، واللحظة التي تلي الحرب ليست استراحة بل اختبار لما تبقى في النفوس من قدرة على الحياة ولما تبقى في الأيدي من قوة على البناء.

 ولا يكفي أن نعلن انتهاء المعركة إذا كان الناس لا يزالون تحت الأنقاض أو عالقين في دائرة البحث عن المفقودين، فبحسب تقديرات أممية ما يزال أكثر من أحد عشر ألف إنسان في عداد المفقودين دون أثر أو هوية، بعضهم مدفون تحت الخراب وبعضهم الآخر متناثر على جنبات طرق القطاع، كما يغيب قسرياً الآلاف من الفلسطينيين خلف القضبان معتقلين دون معلومات أو محاكمات، لكن المرعب في هذا الغياب أنه يترك العائلات معلقة على أمل لا يموت، حيث تبحث عن قبر تودع فيه عزيزاً أو خبر يعيد بعض التوازن الداخلي، لأن الجراح النفسية لا تبدأ بالالتئام مع توقف القصف بل مع بداية الصمت، حيث تطفو كل الأسئلة المؤجلة وتظهر أشباح الغياب في وجوه الناجين.

إن الواقع الذي تواجهه غزة بعد الحرب يتجاوز مشهد الدمار المرئي، فالخراب الذي نراه في الصور لا يختزل حجم الانهيار، إذ تشير تقارير أممية إلى تدمير أكثر من 79 ألف وحدة سكنية بالكامل بشكل كامل، وتضرر ما يزيد عن 291 ألف وحدة أخرى بدرجات متفاوتة، والحقيقة أن هذا الدمار لم يترك مجالاً للشك أن الحياة كما كانت لم تعد موجودة أو ممكنة وفق الواقع الحالية، وأن العودة ليست إلى ما كان بل إلى لا شيء، كما أن أكثر من 90% من المباني المدرسية تضررت أو دُمرت، ومعها تحولت مدارس كانت مأوى إلى رماد، ولم يبق سوى بضعة تساؤلات حول كيف نعيد التعليم؟ بأي أدوات؟ ولأي جيل؟

المشهد الاجتماعي سيكون مثقلاً بالأسئلة المعقدة، كيف نتعامل مع من فقد عقله بسبب الرعب المتكرر؟ كيف نعيد الطمأنينة لأطفال لم يعرفوا معنى الأمان؟ كيف نجعل الفرح ممكناً من جديد من غير أن يبدو خيانة لدماء الشهداء؟ وماذا عن الأحياء التي تغيرت والناس التي تبدلت، فهناك من فقد كل عائلته وهناك من بقي وحيداً يجر ثقلاً لا يُحتمل، وهناك من مد يده ليحصل على المعونة وهو الذي لم يسأل الناس شيئاً يوماً، ومن كان ذا مال وبنين وعاد بلا مال ولا بنين، والحقيقة إن هذه الأسئلة الملحة وما يرتبط فيها من محاولات لإعادة لُحمة المجتمع ستحتاج إلى ما هو أكثر من بناء البيوت، حيث ستحتاج إلى حوار داخلي ومساحات للحزن المشترك وجهود دعم نفسي جماعية تساعد الناس على البوح لا على الكتمان، فالكتمان يخلق قنابل موقوتة في المستقبل.

الحرب لن تترك أثرها على الحاضر فحسب بل على الأجيال القادمة أيضاً، فأطفال اليوم هم جرح الغد المفتوح وكثيرون منهم سيحملون صدمة نفسية طويلة الأمد وستتغير علاقتهم بالعالم وبمدارسهم وبمعنى الانتماء ذاته، كما أن إعادة فتح المدارس لن تكون عملية تقنية بل فعل مقاومة ضد محاولة تحويل جيل كامل إلى ضحية دائمة، وسيكون للفنون أيضاً دور أساسي في إعادة الإعمار المعنوي، وتفاصيل صغيرة كالرسم والموسيقى والمسرح، كلها ستصبح أدوات لترميم الروح الجماعية لتحويل الذاكرة من عبء خانق إلى طاقة مقاومة خلاقة.

أما اقتصاد غزة، فسيحاول الوقوف مجدداً بعد شلل شبه كامل ووسط يقين بأن ما تبقى منه ليس كثيراً، إذ إن عملية الإعمار لن تكون مجرد مشروع هندسي لإعادة المباني، بل مشروعاً وطنياً شاملاً لإحياء دورة الحياة بكل مكوناتها، فالمصانع بحاجة إلى أن تُبنى من جديد والشركات مطالَبة بلملمة سجلاتها واستعادة موظفيها المشتتين إن بقيت أصولها أصلاً، كما أن الأسواق يجب أن تعود إلى العمل وهو ما يستلزم خلق فرص عمل حقيقية تُمكن الناس من بناء مستقبل لا يظل مرهوناً بالإغاثة، ولكن كل ذلك يظل مشروطاً باستقرار سياسي فعلي وضمانات تمنع تكرار الكارثة مع أول تصعيد جديد.

وعلى الرغم من أن الأرقام قد تبدو صادمة، إلا أنها لا تعكس وحدها حجم الفقد؛ فقد استحوذ قطاع الإسكان على 72% من مجمل الخسائر التي تجاوزت 29 مليار دولار، بينما تكبدت البنية التحتية للخدمات الأساسية كالمياه والصحة والتعليم خسائر تُقدر بنحو 19% من الإجمالي، وسجل قطاع التجارة والصناعة وحده خسائر مباشرة بلغت 5.9 مليارات دولار، وذلك حتى منتصف عام 2024، وفق تقرير مشترك صادر عن البنك الدولي والأمم المتحدة.

وبينما كانت غزة تُواجه جحيم الحرب، لم تعش الضفة الغربية المجازر ذاتها، وعلى الرغم من أن الناس هناك ظلوا في حالة استنفار مع تصاعد الاعتقالات اليومية وعنف المستوطنين المتفاقم والإغلاقات التي صارت واقعاً دائماً يثقل الكاهل صباح مساء، إلا أن لحظة انتهاء الحرب ستكون متنفساً لأهل الضفة لكنها أيضاً ستضعهم أمام سؤال صعب، فكيف يمكن تحويل التضامن العاطفي الذي شهدته فترة الحرب إلى مشروع عملي يعيد وصل ما انقطع بين الضفة وغزة؟ وكيف يمكن أن تكون الضفة سنداً حقيقياً لغزة في معركة إعادة البناء بدل أن تبقى متفرجة أو مقيدة؟

سياسياً، تفتح نهاية الحرب مرحلة جديدة تتطلب استجابة شاملة من جميع المكونات الوطنية، فالتطورات الحالية تفرض إعادة النظر في آليات العلاقة بين القوى السياسية والمجتمع والسعي نحو نموذج أكثر تكاملاً في الحكم والمساءلة، بما يعكس تضحيات الناس وتطلعاتهم، ويتطلع الفلسطينيون اليوم إلى صياغة عقد اجتماعي يعزز الوحدة ويجمع الرؤى المختلفة ضمن مشروع وطني جامع، وعلى الصعيد الدولي، سيستمر الضغط عبر مؤتمرات إعادة الإعمار وشروط الجهات المانحة والمسارات التفاوضية المتوقعة، ما يجعل من هذه اللحظة فرصة سياسية فارقة يمكن تحويلها إلى بداية لمسار جديد، لا مجرد توقف مؤقت قبل عودة التصعيد.

إن توقف الحرب ليس خاتمة الحكاية بل بدايتها الحقيقية، بدايةً من إعادة جمع ما تناثر من حياة الناس، وأيضاً إعادة بناء المدن والقلوب معاً، وهذه لحظة فاصلة بين زمن البقاء وزمن البناء، وبين مرحلة انتظار الموت ومرحلة استعادة المعنى، وما بين الركام والأمل سيقف الغزيون أمام السؤال الأكبر، هل يمكن أن تتحول هذه النهاية إلى ولادة جديدة، لا إلى مجرد هدنة في حرب لا تريد أن تنتهي؟

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة


جميع حقوق النشر محفوظة - بالغراف © 2025

الرئيسيةقصةجريدةتلفزيوناذاعةحكي مدني