loading

الشهداء مجهولي الهوية.. حين يُقتل الفلسطيني مرتين

أ. منتهى ربايعة

استوقفني كثيرًا خبرٌ نُشر في الرابع والعشرين من أكتوبر عام 2025 عند الثانية واثنتين وعشرين دقيقة بعد الظهر، حين أعلن مدير عام وزارة الصحة في غزة، الدكتور منير البرش، أنّه تمّ دفن أربعةٍ وخمسين شهيدًا مجهولي الهوية في مقابر جماعية، بعد أن عجزت الطواقم الطبية والأهالي عن التعرّف إلى ملامحهم أو العثور على أي دليلٍ يدلّ على هويتهم. كان الخبر قصيرًا في صيغته، لكنه حمل في طيّاته فاجعةً تتجاوز الأرقام. فأن يُدفن الإنسان بلا اسم، يعني أن يُموت مرتين، مرةً حين يُقتَل، ومرةً حين لا يُعرف من هو.

في لحظةٍ واحدةٍ تجمّعت المأساة الفلسطينية كلّها في هذا الخبر، فالموت هنا لا يكتفي بإنهاء الحياة، بل يتجاوزها إلى محو الهوية، وإلى تحويل الجسد الفلسطيني إلى أثرٍ صامت، يُدفن دون أن يُقال اسمه، ودون أن يعرف أهله إن كانوا قد فقدوه حقًا أم ما زال الأمل يتشبث بعودته.

من السنن الكونية أن الموت لا يتكرّر، فكل إنسان يُمنح موتًا واحدًا كما يُمنح حياةً واحدة. هكذا علّمنا النظام الطبيعي للأشياء، وهكذا يظنّ البشر في كل مكان. غير أن الفلسطيني يعيش خارج هذا القانون الكوني، ففي أرضٍ تزدحم بالمقابر أكثر من المدارس، يموت الفلسطيني مرتين.

 الأولى حين يرتقي جسده تحت القصف أو بين زخات الرصاص، والثانية حين يُمحى اسمه وتُسرق ملامحه ويُدفن في مقبرةٍ كتب على شواهدها: مجهول الهوية. هنا، يصبح الموت فعلًا سياسيًا بامتياز، لا يكتفي بإنهاء الحياة، بل يواصل مهمته في محو الذاكرة، في إلغاء الوجود، في تحويل الإنسان إلى رقمٍ في بيان لوزارة الصحة.

في الفكر الإنساني، يُنظر إلى الموت بوصفه نهايةً للجسد، لا للهوية. فالجسد، في كل الثقافات، هو الوعاء الذي يحمل الاسم والذاكرة والعلاقة بالعالم. لكن في الحالة الفلسطينية، لم يعد الجسد مجرد شكلٍ ماديٍّ للحياة، بل صار وثيقةً تُختصر فيها الذاكرة الجماعية للشعب، ومرآةً لتاريخه ومعاناته. وحين يُمزَّق هذا الجسد تحت القصف، أو يُعاد في كيسٍ أسود بلا ملامح، لا تكون الخسارة جسدية فحسب، بل خسارة لرمزٍ من رموز الوجود نفسه.

إن عملية التعرف على هوية الشهيد المجهول، ليست عملًا إنسانيًا عابرًا أو مهمة طبية، بل فعل مقاومةٍ ضد المحو. فكل وجهٍ يُعاد تمييزه، وكل اسمٍ يُستعاد من النسيان، هو إعلانٌ بأن الفلسطيني لم يُقتل تمامًا، وأن ذاكرته أقوى من الفناء. هكذا يقاوم الفلسطيني موته الثاني، لا بالسلاح هذه المرة، بل بالتسمية، بالتوثيق، وبالإصرار على أن يبقى له وجهٌ واسـمٌ ومكانٌ في الذاكرة.

للشهيد في المخيال الفلسطيني مكانةٌ القداسة، فهو ليس مجرد من رحل، بل من تجاوز الموت ليصير شاهدًا على معنى الحياة. اسمه يُكتب على الجدران، وصورته تُزيّن الشوارع، وملامحه تُستعاد في وجوه الأطفال الذين يُسمَّون على اسمه. عائلته لا تراه غائبًا، بل مخلّدًا في فكرةٍ أكبر من ذاته في الوطن الذي ضحّى لأجله، وفي الوجدان الجمعي الذي يمنحه الخلود الرمزي. وهكذا، لا يكون الدفن نهايةً للشهيد، بل ولادةً جديدةً له في الوعي الجمعي، يصبح رمزًا، ويُروى كحكايةٍ تتوارثها الأجيال.

حتى الأسير الشهيد، المحتجز جثمانه في ثلاجات الأسر، يبقى مصيره معلومًا. جسده وإن غاب، فإن هويته حاضرة.

 اسمه يُتردد دومًا ،وصورته تُرفع في المسيرات. أي أن تجميد الجسد لا يجمّد المعنى الرمزي للشهيد، بل يبقى الأسير الشهيد حيًّا في الوعي، ينتظر فقط لحظة العودة إلى تراب وطنه ليُدفن كما يليق بالأبطال. هذه المعرفة تمنح العائلة توازنًا بين الفقد والإيمان، بين الحزن واليقين، فتستطيع أن تحزن في وضوحٍ وتفخر في صدق.

أما الشهيد مجهول الهوية فهنا حكاية أخرى، كما أنها أحد أوجوه المأساة الفلسطينية الأكثر قسوة. فهو لا يُغيب جسده فحسب، بل يغيب معه اليقين. عائلته لا تعرف متى فقدته فعلاً، ولا أين انتهت رحلته، ولا في أي قبرٍ وُضع جسده. يعيش أهله في مساحة رمادية بين الحياة والموت، لا يملكون الشجاعة لإعلان الحداد لأن الأمل ما زال يتنفس في قلوبهم، ولا يستطيعون انتظار عودته لأن المنطق يخبرهم أنه رحل. في كل يومٍ جديد، ينهضون على السؤال ذاته: هل ما زال حيًّا؟ أم كان واحدًا ممن دُفنوا دون اسم؟

في هذه الحالة المعلّقة، يفقد الموت معناه النهائي، ويتحوّل إلى وجعٍ ممتدٍّ لا نهاية له. فحين يُمحى الاسم، يُحرم الشهيد من جنازته، ومن لحظة الوداع التي تمنح الفقد شكله الإنساني. يغيب التأبين، ويغيب الاعتراف الاجتماعي بالشهادة، فيبقى الميت والموتى معًا خارج دائرة الاعتراف.

 وهكذا، يُقتل الفلسطيني مرتين: مرةً حين ينهار جسده تحت القصف، ومرةً حين يُسقط الغياب اسمه من الذاكرة، فيموت بلا وجهٍ، بلا قبرٍ معروف.

تعود صعوبة التعرّف على كثيرٍ من جثامين الشهداء في غزة إلى واقعٍ مأساوي تتداخل فيه عوامل إنسانية وتقنية قاسية. فنقص الإمكانيات في المستشفيات التي تعمل في ظروفٍ ميدانية شبه منهارة، والأجهزة الطبية معطّلة، والمختبرات تفتقر إلى المواد اللازمة لإجراء فحوصات الحمض النووي أو المطابقة الجينية التي تُستخدم عادة لتحديد الهوية. ومع تزايد أعداد الشهداء وامتلاء ثلاجات الموتى خلال حرب الإبادة، تُضطر الطواقم إلى دفن الجثث سريعًا قبل تحللها، ما يجعل بعضهم يُدفنون بلا اسمٍ أو دليلٍ يُعيدهم إلى ذويهم.

ويضاف إلى ذلك أن كثيرًا من الجثامين تُنتشل من تحت الأنقاض بعد أسابيع وربما شهور من القصف، وقد غيّرت النار والركام ملامحها، أو تمزّقت بفعل الأسلحة، أو تحلّلت أو نهشتها الكلاب. وبعضها يُعاد من الاحتلال بعد احتجازه، وقد بدت عليه آثار التعذيب والتشويه التي تمحو الملامح وتطمس العلامات الفردية. بهذه الصورة، يفقد الجسد الفلسطيني ليس حياته فحسب، بل ملامحه التي تميّزه، واسمه الذي يمنحه الاعتراف. وهكذا، يتحوّل التعذيب والتحلل ونقص الفحوص إلى أدواتٍ أخرى في حربٍ تهدف إلى محو الإنسان من ذاته، ودفنه مرتين: مرةً في الأرض، ومرةً في النسيان.

ختامًا، في غزة لم تنتهي الحرب إذن؛ بل بدأت بعدها مواجهات أخرى أشد ضراوة مع الاستعمار: حرب التعرف على هويات الشهداء، واستعادة الأسماء من بين الركام. هناك، لا يُقتل الفلسطيني مرة واحدة، بل مرتين، مرة حين يتوقف قلبه، ومرة حين يُمحى اسمه من ذاكرة الأرض.

هؤلاء الشهداء المجهولون لا يغيبون لأنهم بلا هوية، بل لأنهم يحملون هويةً أوسع من الاسم والملامح، هوية الوطن الذي صار جسدًا واحدًا من الجراح. في كل قبرٍ بلا شاهد، تنام حكاية لم تُكتمل، وفي كل كيسٍ أسود يُدفن جزءٌ من ذاكرة جماعية تصرّ على المواجهة والبقاء.

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة


جميع حقوق النشر محفوظة - بالغراف © 2025

الرئيسيةقصةجريدةتلفزيوناذاعةحكي مدني