د. ايهاب بسيسو
في ظل الحالة الوطنية الشعبية المتصاعدة والتي تستند إلى إرث شعبي بالغ الدلالات، يمتد على كل الخارطة الفلسطينية المحتلة منطلقاً من ذروة التحدي والصمود الوطني في القدس – العاصمة …
يمكن قراءة المشهد الفلسطيني برؤية محتملة وجديدة تتمثل في الانفتاح المقصود على الحالة الشبابية بكل أشكالها والخروج من حيز التموضع أو الانغلاق أو التمترس خلف ملامح سياسية فصائلية تبدو اليوم أقل توهجاً عما كانت عليه خلال عقود ماضية …
بدا الانتماء والالتزام الفكري ضرورة ثقافية في خضم انطلاق العمل الوطني الفلسطيني المعاصر بعد نكبة ١٩٤٨ حيث شكل المدخل الأبرز للتأثير في الحراك الشعبي ضمن مفردات الايديولوجيا المختلفة، القائمة على التحرر والعدالة الاجتماعية والثورة ضد الاستعمار.
ولقد نجحت الحركة الوطنية الفلسطينية في أن تكون قوة جذب عالمية انطلاقاً من قوة الشباب الفكرية والوطنية آنذاك في مختلف المجالات الفكرية والنضالية وكذلك حيوية وثورية الفضاء السياسي الفلسطيني الذي كان قادراً على استيعاب هذا الزخم الوطني وتوظيفه شعبياً رغم تعقيدات الحالة العربية والدولية وهو ما تجلى بوضوح بعد حصار بيروت عام ١٩٨٢، خلال تجرية الانتفاضة الشعبية الفلسطينية والتي انطلقت عام ١٩٨٧.
غير أن المشهد السياسي الفلسطيني ما لبث أن شهد تراجعات تدريجية بسبب عوامل سياسية عدة، تداخلت فيها العوامل الاقليمية والدولية والمحلية والتي أفرزت حالة من القلق الشعبي العام الذي عبر عن نفسه بأكثر من شكل خلال فترة التسعينات من القرن العشرين مروراً بحالة الانقسام الحاد في ٢٠٠٧ والتي أفرزت بدورها حالة من الثنائية السياسية الحادة التي كانت السبب الرئيسي في إفشال الكثير من المبادرات الوطنية من أجل المصالحة واستعادة التكامل الوطني عبر خطوات وآليات تنفيذية عملية كما بدا في إفشال تجربة عمل حكومة الوفاق الوطني وتجميد الانتخابات الفلسطينية العامة ضمن حالة مؤسفة من تأبيد الانقسام في جولات إعلامية مكررة عبر مختلف المدن والعواصم العربية.
هذا المشهد المأزوم والمتدحرج خلق مع الوقت حالة متصاعدة من الاحتقان السياسي الشعبي الذي عبر عن نفسه من خلال حراكات شعبية وطنية لعل أبرزها كان في القدس – العاصمة خلال عام ٢٠١٧ وهو ما عرف بانتفاضة البوابات التي هبت فيها القدس بمختلف أطيافها الشعبية والدينية والوطنية ضد سياسية الاحتلال بإقامة بوابات اليكترونية عند بوابات المسجد الأقصى، ثم انتفاضة الشيخ جراح في القدس العاصمة عام ٢٠٢١ وما بينهما من حالة شعبية فلسطينية نشطة في جبل صبيح في قرية بيتا جنوب نابلس والخان الأحمر قضاء القدس ومسافر يطا في الخليل إضافة إلى الفعل الشعبي في الأغوار الفلسطينية ضد السياسات الاستيطانية الاستعمارية …
كل تلك الهبات الشعبية كانت تمثل في ثناياها إرهاصات لولادة مشهد جديد قادر على تصويب الأجندة السياسية في سياق مقاومة شعبية، تتخذ من المفهوم الوطني الشامل ركيزة أساسية تتجاوز المفهوم التقليدي للحركة والحزب والتنظيم …
وهذا ما يدفع للقول بأن المشهد الوطني الحالي في كل من جنين ونابلس على وجه الخصوص يشير بوضوح إلى إرهاصات متممة ومحتلمة لولادة حركة وطنية عابرة للمساحات المحددة للفصائل والحركات السياسية بشكلها وأدائها الراهن …
هذه الإرهاصات قد تكون السبب في تحفيز حالة من العمل الوطني من جديد وانبعاث حالة شبابية تقدم مفهوماً جديداً للوطنية القادرة على مواجهة السياسات النيوليبرالية التي يعتمدها الاستعمار في جعل فلسطين مساحة لاختبارات الوهم من خلال المزاوجة بين سياسة العصا والجزرة في تفريخ “نخب” مدجنة وفق سياسات “التنمية الوهمية” ضمن مخططات المعازل البشرية والتفتيت الجغرافي.
إن النظر إلى الحالة الفلسطينية الحالية باعتبارها مخاضاً لمرحلة قادمة قد لا يخلو من الرمزية ودلالة التاريخ ففي نابلس تحديداً وفي حوش العطعوط على وجه الخصوص، استقر مقاتل فلسطيني في ستينيات القرن الماضي، عرف باسم أبو محمد ليعمل على تشكيل مجموعات فدائية ضد الاحتلال، بعد حرب ١٩٦٧.
لم يكن أبو محمد سوى الراحل الشهيد ياسر عرفات والذي مع رفاقه في حركة فتح والقوى الوطنية الفلسطينية، انطلقت المقاومة الفلسطينية المعاصرة في ستينينات القرن العشرين.
إن رمزية وتاريخ حوش العطعوط ومكانة حارة الياسمينة ومدينة نابلس في الذاكرة الوطنية يدفع منطقياً إلى ربط التواريخ ببعضها وإعادة قراءة الظروف السياسية المحيطة بالعمل الوطني بين زمنين يفصل بينهما أكثر من نصف قرن من التجربة، بكل ما تخللها من نجاحات وإخقاقات وتحديات …
يمكن في هذا السياق استخلاص الدلالات الشعبية لمفهوم ودور الحاضنة كما رآه ذلك الرجل الأربعيني آنذاك، ياسر عرفات والذي كان يدرك بأن الانسجام بين الخطاب والفعل الوطني أقصر الطرق لتكوين التفاف شعبي حول الفعل النضالي، يشكل المظلة الآمنة للعمل الوطني.
بعد أكثر نصف قرن من ذلك التاريخ، يعود حوش العطعوط برمزيته ليشكل مدخلاً ملائماً لقراءة المشهد الراهن، فحالة “عرين الأسود” في نابلس تدل بشكل واضح على مسألة هامة وهي سلامة نبض القاعدة الشعبية وطنياً لدى مختلف القوى الوطنية التي تشكلت على مدار العقود الماضية من فكرة أن الالتفاف الشعبي حول الفعل السياسي هو منهج ورؤية يعتمد بشكل صريح على الوضوح وينفر بشكل غريزي من أشكال التلاعب والفهلوة والبهلوانية السياسية.
لذا وفي ضوء استمرار هذا التمدد والنمو الشعبي لمفهوم الحاضنة الشعبية يمكن الإشارة إلى أن مفهوم الانتماء الفلسطيني تحرر من العديد من الانغلاقات السياسية والوظيفية واتسع مجدداً ليكون المرآة لمختلف المدارس الفكرية والسياسية من أقصى اليسار اشتراكية وماركسية مروراً بمدارس الفكر القومي والعروبي وصولاً إلى الوسطية الليبرالية والفكر السياسي الإسلامي …
هذا الفضاء التكاملي الواقعي الميداني يعيد جوهر الأمور إلى نصابها التحليلي والمنطقي، وربما يقدم خلاصة جديدة لقراءة الواقع السياسي على مدار العقود الماضية في ظل تأثر الحركة الوطنية الفلسطيينة تاريخياً بمختلف الظروف السياسية والمدارس الفكرية اقليمياً ودولياً، منذ مطلع القرن العشرين وصعود القطب الاشتراكي واتساع رقعة الحرب الباردة ونمو نشاط النهضة العربية سياسياً وفكرياً في سياق الانفتاح على تجارب حركات التحرر من الاستعمار في كل من افريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب ووسط آسيا …
وهذا ما قد يدفع إلى الوقوف مجدداً أمام جملة من الشعارات الوطنية منها شعار “فتح أم الجماهير” والذي حين انطلق لم يكن شعاراً وهمياً أو فضفاضاً أو فائضاً عن حاجة التعريف السياسي لدور الحركة الوطنية في علاقتها العضوية مع الجماهير بل كان الشعار الذي تنضوي في سياقه رؤية الانتماء الواسع لفلسطين دون جعل الطائفة والدين والفكر السياسي عائقاً أمام دور الجماهير في صياغة بيان الحرية، وهذا ما ساهم بشكل فعال في منح منظمة التحرير الفلسطينية الرؤية الوطنية الشاملة والحيوية الفكرية والسياسية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.
إذاً والاستناد إلى ما سبق، يمكن فهم دلالة التاريخ والمكان مجدداً ضمن معانٍ فكرية ورمزية بالغة الأهمية في سياق حلقات وطنية متواصلة تتعاقب في مسيرة الحرية الفلسطينية دون أن تنقطع حلقات التجربة أو يُهزم فيها الشعب أو يستسلم لأي شكل من التحديات القائمة …
إنها الإرادة المتصلة بفهم التاريخ والمحمولة على صفاء الرؤية الوطنية بالحرية …
والرؤية الوطنية تتواصل جيلاً بعد جيل ولا تعلن الهزيمة أو تموت …