حنين قواريق
هنا في البلدة القديمة في نابلس لا تلد النساء أطفالاً…بل قنابل ملتهبة بوجه الاحتلال، فكلما جفت حارة قديمة أو زقة عريقة، روتها دماء الشهداء العَطِرة، وكلما عبست زهرة منسدلة على جدارها ضَحِك لها شهيد.
فبالرغم من الرصاص الذي ملأ أرضها، والدخان التي عبق بسمائها، إلا أنها لا تعرف عجزاً ولا انهزاماً، وتجود بأبنائها لتحتفظ بكرامة الوطن المسلوب.
إذ احتضنت البلدة القديمة عدداً كبيراً من المقاومين عبر التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967 وكانت الملاذ الآمن لهم، كاحتضان أحد المنازل للشهيد المهندس يحيى عياش مع اثنين من مساعديه اللذين استشهدا أثناء تغطيتهم على انسحابه عام 1994، بالإضافة للقيادي في كتائب شهداء الأقصى مؤيد الجميل الذي استشهد في اجتياح نابلس، وغيرهم ممن ترفعوا للعلا.
واقتحمت قوات الاحتلال البلدة في نيسان 2002 وأخضعتها لقصف وحصار شديدين، ومنعت مركبات الإسعاف من الوصول إلى المصابين، الأمر الذي خلف شهداء وجرحى.
وكذلك نراها اليوم بؤرة ارتكاز المقاومة فباتت عريناً للأسود الذين أصروا على مواصلة درب التحرير، وقادوا عمليات نوعية ضد الاحتلال بالرغم من صغر سنهم وقلة خبرتهم العسكرية، واكتسبوا دعماً شعبياً ضخماً, مشكلين مرحلة جديدة في الوعي الوطني للجيل الفلسطيني الصاعد، بعيداً عن الألوان الحزبية، رافعين راية واحدة “النصر أو الاستشهاد”.
لماذا تعد البلدة القديمة مُستَقراً جيداً للمقاومين؟
تتكون البلدة القديمة من ست حارات رئيسية (حارة الياسمينة، العقبة، الغرب، القريون، القيسارية، والحبلة)، وهي محاطة بسور من المباني القديمة ولها ست عشرة بوابة، فبإمكانك أن تلتمس طابعها المعماري الموروث من الحضارات العريقة التي تعاقبت على المدينة عبر الزمن وتركت فيها بصمته.
وهذه الطبيعة المعمارية للمباني المتلاصقة، والأحواش المتشابكة التي تتفرع من الحي الواحد، صعبت على الاحتلال مهمة اقتحامها، فسكانها أحياناً قد يضلون الطريق في شوارعها الضيقة، وإن تمكن من اقتحامها فيسهل على المقاومين مراوغتهم والتنقل بين الأسطح من شرقها إلى غربها بسهولة وفق ما قاله المؤرخ عبدالله كلبونة ل”بالغراف”.
وتابع: “بالإضافة لترابط السكان الذين يعتبرون المقاومين فرداً من أفراد عائلاتهم, ويحاولون حمايتهم بشتى الطرق، فقد وضع الأهالي سواتر قماشية أعلى الحارات حتى لا تتمكن طائرات الاستطلاع من رصد الشبان، وركبوا كاميرات مراقبة لرصد أي حركة مشبوهة، وعندما يتطلب الأمر يشتبكون مع الاحتلال في ساحة المواجهة بأبسط الوسائل المتاحة كالحجارة، ويبقون داعمين لهم حتى آخر رمق…خير مثال على ذلك الشهيدين حمدي شرف وعلي عنتر عندما كشفا تسلل قوة للاحتلال الإسرائيلي إلى المدينة وحاولا تنبيه الشبان، فما كان من الاحتلال إلا أن سلب منهما حياتهما، وترى كل شاب وطفل يعلق سلسلة على رقبته تحمل صور الشهداء لتأثرهم بهم، وفيه تأكيد على مساندتهم”.
وختم: “احتضنت البلدة القديمة مناضلين كُثُر في الانتفاضتين، لا سيما انتفاضة الحجارة التي كانت البلدة أولى من أشعل فتيل المواجهة فيها، فقد كانت مقراً لعقد الاجتماعات واتخاذ القرارات، وتم افتتاح مراكز لإسعاف الجرحى، وكانت بيئة خصبة لينطلق منها لاحقاً مجموعات مسلحة أبرزها “الفهد الأسود” التي أسسها ناصر البوز سنة 1989 “.
فأصبحت أيقونة المقاومة الشعبية، بجدرانها المزينة بصور الشهداء, وحجارتها الحزينة، إلا أنها تربت على كتف من أحبوها بنسيم هوائها الحر.