حلا خلايلة
خرج كريم يونس من السجن اليوم، تُرك على قارعة طريقٍ في مستوطنةٍ ما وقيلَ لهُ اذهب إلى المنزل وحدَك، أربعون عاماً قضاها في السجن، فشلت كل صفقات تبادل الثورة في تحرره، وكذلك مفاوضات المشروع الوطني.
كتب قبل خروجة بليلة واحدة: “أربعون عاما “ها أنا أُوشك أن أغادر زنزانتي المُظلمة، التي تعلمتُ فيها أن لا أخشى الظلام، وفيها تعلمتُ أن لا أشعرَ بالغربة أو بالوحدة، لأنني بين اخوتي، اخوةُ القيد والمعاناة، اخوة جمعنا قسمٌ واحد، وعهدٌ واحد”.
هذه كانت رسالة الأسير الحر كريم يونس (٦٥ عاماً)، الأخيرة من داخل سجون الاحتلال قبل أيام من تحرره من سجون الاحتلال بعد ٤٠ عاماً، تمنى الأسير الحر أن يكون الإفراج عنه برفقة إخوة دربه ورفاق النضال، ولكنه لك يستطع، محاولاً تجنب آلام الفراق ولحظات الوداع لرفاقه بالسجن ظناً منه أنه سيكمل العمر معهم، فكلما كانت تقترب الساعة كان يشعر بالخيبة والعجز، حين ينظر بعيون أحدهم وخاصة من تجاوز الثلاثة عقود.
كريم الثائر..
ولد الأسير الحر يونس الملقب بعميد الأسرى الفلسطينيين في الـثالث والعشرين من تشرين الثاني عام ١٩٥٨م، في بلدة عارة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٤٨م، وهو الابن البكر لعائلته، ثائر فلسطيني التحق بالمسيرة النضالية قبل الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧، وهو عضو اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني “فتح”.
تلقى تعليمه في المدرسة الابتدائية “عارة”، والمرحلة الإعدادية في “عرعرة”، والثانوية في “السالزيان” في مدينة الناصرة، والتحق بجامعة “بن غوريون” في بئر السبع لدراسة الهندسة الميكانيكية.
وكان كريم يحمل فكرا نضاليا شكل من خلاله مدرسة للأجيال التي دخلت وخرجت من الأسر، وهو ثابتٌ على مبادئه الأولى، في كل جوانب الحياة الاعتقالية، وأكمل دراسته داخل الأسر، وحصل على درجة البكالوريوس من جامعة القدس المفتوحة، والماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وكان مشرفاً على عملية التعليم الجامعي للأسرى وشجعهم لإكمال تعليمهم وأن يقفوا ضد محاولات الاحتلال في طمس هويتهم وثقافتهم.
عرفه زملاؤه بالطالب المجتهد المثقف الصبور، صاحب الصمود، الهادئ في طبعه، وصاحب الشخصية الجريئة الشجاعة.
بقي كريم المناضل الوفي لأبناء شعبه ورفاقه الأسرى على مدار أربعين عاماً، وكان شعاره الوحدة الوطنية، وعلى مدار أربعة عقود شارك في كافة المعارك التي خاضتها الحركة الأسيرة، ومنها الإضراب عن الطعام الذي يعتبر أقسى هذه المعارك، وكان آخرها إضراب عام 2017 الذي استمر لمدة 42 يومًا.
الاعتقال القاسي..
أثناء تواجده على مقاعد الدراسة وفي السنة الثانية اعتقل كريم في السادس من كانون الثاني عام ١٩٨٣، وكان يبلغ حينها ٢٣ عاماً على خلفية مقاومة الاحتلال، واتهم بعدة اتهامات منها الانتماء لحركة فتح، والانخراط بالعمل المسلح، وقتل جندي اسرائيلي.
ولاحقًا جرى اعتقال ابن عمه ماهر يونس، وسامي يونس، حيث أفرج عن الأسير سامي يونس في صفقة “وفاء الأحرار” عام ٢٠١١، وكان في حينه أكبر الأسرى سنّا، وتوفي بعد أربع سنوات من تحرره.
تعرض يونس لتحقيق قاسٍ وطويل، وحكم عليه الاحتلال بالإعدام في بداية أسره، ولاحقا بالسّجن المؤبد مدى الحياة، وجرى تحديد المؤبد له لاحقًا لمدة ٤٠ عامًا، لم يكن أهله يعلموا أين كان مكان اعتقاله في البداية إلى أن أخبرهم المحامي، وخلال فترة أسره تنقل في كافة سجون الاحتلال، ليصبح بهذا الحكم أقدم أسير سياسي فلسطيني، الذي لم تطاله أي من صفقات تبادل الأسرى.
في عام ٢٠١٣ في ذكرى اعتقاله الـ ثلاثين توفي والده يونس، أما والدته صبحية انتظمت في زيارته في معتقل “هداريم” الذي قبع فيه حتى آخر لحظاته، وانتظرته بلهفة وانتظرها بشوق ليعانقوا بعضهم خارج قضبان السجن، ولكن بعد ٣٩ عامًا من الانتظار وفي الخامس من أيار عام 2022، توفيت والدته التي عرفت بالأم الصابرة القوية التي انتظرته بالثواني والساعات، رحلت دون أنّ تحتفي بحريته.
ووجه كريم رسالة له بعد وفاة والدته، “أمي زارتني في السجن ما يقارب الـ ٧٠٠ زيارة، كانت تقاتل لتصلني إلى السجن، لم تكل رغم ما نثره المحتل من أشواكٍ في دربها، وبرغم الألم والفقدان إلا أنني شعرت بسعادة وفخر عندما علمت أنَّ الحاجة لُفت بالعلم الفلسطيني الذي غُرز أيضًا على أرض مقبرة قرية عارة”.
المؤلفات الأدبية..
أصدر كريم يونس كتابين من داخل السجن هما، الواقع السياسي في “إسرائيل” عام ١٩٩٠ وتناول فيه كافة الأحزاب السياسية الإسرائيلية، والصراع الأيديولوجي والتسوية عام ١٩٩٣.
الرسالة الأخيرة..
“سأترك زنزانتي، وأغادر لكن روحي باقيةٌ مع القابضينَ على الجمر المحافظين على جذوة النّضال الفلسطينيّ برمته، مع الذين لم ولن ينكسروا، لكن سنواتِ أعمارهم تنزلق من تحتهم، ومن فوقهم، ومن أمامهم، ومن خلفهم، وهم لا زالوا يطمحون بأن يروا شمس الحرّيّة لما تبقى من أعمارهم، وقبل أن تصاب رغبتهم بالحياة بالتكلفِ والانحدار، سأترك زنزانتي، والأفكار فجأة تتزاحم، وتتراقص على عتبة ذهني وتشوشُ عقلي فأتساءل محتارًا على غير عادتي إلى متى يستطيعُ الأسير أن يحمل جثته على ظهره، ويتابع حياته والموت يمشي معه، وكيف لهذه المعاناة، والموت البطيء أن يبقى قدرهُ إلى أمدٍ لا ينتهي، في ظل مستقبلٍ مجهول، وأفق مسدود، وأمل مفقود وقلقٌ يزداد مما نشاهدُ، ونرى من تخاذلٍ، وعدم اكتراث أمام استكلاب عصاباتٍ تملك دولة، توحشت، واستقوت بخذلان العالم، على شعب أعزل، حياته تُنهش كل يوم دون أن يشعر أنّ جروحه قد لا تندمل، وأن لا أمل له بحياةٍ هادئة، ومستقرة، ومع ذلك بقي ندًا، وقادرًا على الاستمرار”.
“سأترك زنزانتي، وأنا مدركٌ بأن سفينتنا تلاطمها الأمواج الدولية، من كل صوبٍ وحدب، والعواصف الإقليمية تعصف بها من الشّرق والغرب، والزّلازل المحلية، وبراكين عدوانية تكاد تبتلعها، وهي تبتعد، وتبتعد عن شاطئ حاول قبطانها أن يرسو إليه قبل أكثر من ربع قرن، سأترك زنزانتي، مؤكدًا أنّنا كنّا ولا زلنّا فخورونَ بأهلنا، وبأبناء شعبنا أينما كانوا في الوطن والشّتات، الذين احتضنونا، واحتضنوا قضيتنا على مر كل تلك السنين، وكانوا أوفياء لقضيتنا، ولقضية شعبنا، الأمر الذي يبعثُ فينا دائما أملاً متجددًا، ويقينًا راسخًا بعدالة قضيتنا، وصدق انتماءنا، وجدوى وجوهرِ نضالنا”.
“سأترك زنزانتي، رافعا قبعتي لجيل لا شك أنه لا يشبه جيلي، جيل من الشّباب الناشط والناشطات الذين يتصدرون المشهد في السّنوات الأخيرة، جيل من الواضح أنهم أقوى وأجرأ، وأشجع، والأجدر لاستلام الراية، كيف لا وهم المطلعون على الحكاية، والحافظون لكل الرواية، والحريصون على تنفيذ الوصايا، وصايا شعبنا المشتت المشرد، بانتزاع حقه بالعودة، وتقرير المصير، فطوبى لهذا الجيل الصاعد، برغم أجواء التهافت”
“سأتركُ زنزانتي، بعد أيام قليلة، والرّهبة تجتاحني باقتراب عالم لا يشبه عالمي، وها أنا أقترب من لحظةٍ لا بد لي فيها إلا وأن أمر على قديم جروحي، وقديم ذكرياتي، لحظة أستطيع فيها أن أبتسم في وجه صورتي القديمة، دون أن أشعر بالندم، أو بالخذلان، ودون أن اضطر لأن أبرهنَ البديهيّ الذي عشتهُ، وعايشته على مدار أربعين عامًا، علني أستطيع أن أتأقلمَ مع مرآتي الجديدة، وأنا عائد لأنشد مع أبناء شعبي في كل مكان نشيد بلادي نشيد الفدائي…..نشيد العودة والتّحرير”.