loading

عن الإضراب في فلسطين.. كيف تجمّدت ردّة الفعل الشعبية؟ 

سرى أبو الرب

لقد ابتكر الفلسطينيون، عبر تاريخهم، ممارسات عديدة لاحتضان المقاومة الشعبيّة والالتفاف حولها، ولطالما استخدم الفلسطينيّ الإضراب الشامل كأداة ووسيلة للمواجهة على امتداد مراحل سياسيّة مختلفة، كما شكّلت ردّة الفعل الشعبيّة آنذاك محطات مهمة في تاريخ النّضال الفلسطينيّ، وعكست تحولات وتطورات الوضع السياسيّ والاجتماعيّ. 

انطلقت مساء أول أمس الموافق 20 نيسان 2024، دعوات شبابيّة وفصائليّة للإضراب الشامل في مدن الضفة الغربية، لتصعيد المواجهة مع الاحتلال الإسرائيليّ وإعلان النفير العام، غضبًا على دماء شهداء فلسطين، في طولكرم وغزّة، تحديدًا بعد عملية عسكريّة شنها جيش الاحتلال الإسرائيليّ على مخيم نور شمس في طولكرم، ارتقى نتيجة لها 16 شهيدًا، وخلفت دمارًا كبيرًا في البنية التحتية للمخيم. 

في حديث مع إحدى الشابات المشاركات في المظاهرة التي دعت لها القوى الوطنيّة والإسلاميّة، في اليوم الموافق 21 نيسان 2024، في مدينة رام الله، وصفتها بأنها كما معظم المسيرات التي يتم تنظيمها والدعوة لها من قبل هذه القوى، كانت أعداد المتظاهرين ضئيلة جدًا، بحيث لم يتجاوز عددهم 100 شخص، بينما فئة كبيرة منهم من الصحفيين، بما يعادل صحفي مقابل كل شخصين، وفي حين أن المظاهرة لم تتعد أكثر من النصف ساعة، فإنّ معظم الوقت كان مكرسًا من أجل إجراء المقابلات مع قيادات الأحزاب التي دعت لها. 

وأضافت بأنه كان هناك بعض الأصوات الشابة، ممن هتفوا للكتيبة في طولكرم وطوباس وجنين، ولغزّة وأبو شجاع وللأسير الشهيد وليد دقّة وغيرهم، رغم معرفتهم بالخطر الذي يواجههم من إمكانية اعتقالهم وملاحقتهم سواء من قوات الاحتلال أو السلطة الفلسطينية، إلا أنها كانت هتافات متفرقة، غير واضحة ولا تعبر عن الغضب الذي يشعر به الشارع الفلسطيني على ما يحدث في الضفة وغزة وفي كل فلسطين.

وأفادت شابة أخرى، بأن المظاهرة لم تتعد كونها “رفع عتب”، سواء كان ذلك في عدد المشاركين، أو قوة الهتافات، أو حجم الغضب مع ما يجري في فلسطين، إلى جانب كونها مرّت على عجل، وكأننا نريد تأدية واجب لا أكثر ولا أقل، كما ترى أن هناك حالة من عدم الإدراك لفكرة الإضراب والتظاهر والهتاف والمشي خلف مسيرة ومن ثم العودة، أيّ أن هناك حالة من الشعور بانعدام الجدوى، لذا فإننا بحاجة لطريقة أخرى، لإعادة تعريف معنى الاعتصام المدني أو عن أن يكون الشعب بمثابة حاضنة للمقاومة.  

بالعودة إلى الحديث عن الإضرابات في فلسطين، فكان إضراب عام 1936 في مواجهة الاستعمار البريطانيّ، بعد ملاحظة الفلسطينيين ازدياد تفشي الصهيونية، وبسبب السياسة الجائرة التي اتبعها الحكومة البريطانية في فلسطين طوال 16 عامًا من الانتداب من أوائل الإضرابات التي خاضها الشعب الفلسطيني، وقاد هذا الإضراب الكبير الذي انطلق في نيسان 1936 واستمر لستة شهور إلى ثورة امتدت حتى عام 1939. 

وامتدادًا للحديث عن الإضرابات التي كانت جزءًا أساسيًا من انتفاضة الحجارة عام 1987، لم يكن الهدف منها التأثير على الجانب الاقتصادي للاحتلال فقط، بل كانت أيضًا وسيلة للتعبير عن الاستياء والرفض للوضع القائم، فاتخذت الإضرابات آنذاك شكلًا مختلفًا، فكانت تتضمن عصيانًا مدنيًا للتعبير عن رفض سياسات الاحتلال، ومواجهات مع قوات الاحتلال الإسرائيلي على نقاط التماس، إلى جانب مسيرات ومظاهرات حاشدة في مراكز المدن الفلسطينية على امتداد فلسطين التاريخية، وكانت النساء حينها تلعب دورا هامًا ومركزيًا في توزيع بيانات الانتفاضة وبيانات الإضرابات الشاملة لسهولة حركتهن مقابل الرجال. 

كانت تصدر النداءات أسبوعيًا وتبدأ بثلاث كلمات: نداء.. نداء.. نداء، ويليها “لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة” و “لا صوت يعلو فوق صوت شعب فلسطين”، يلخص بعد ذلك الموقف السياسي الموحد لفصائل القيادة الموحدة والبنود التي يجب الالتزام بها.  

شهدت الإضرابات في فلسطين خلال تلك الفترة، تطورًا وتسلسلًا من ناحية تنظيم العمل وسرّيته، مع ضمان انخراط شعبي واسع لكافة الأعمار والفئات التي كانت في مواجهة شاملة ومباشرة مع الاحتلال، وكان ضمن ذلك دعوات وجهت مباشرة للعمال والأطباء والأكاديميين والطلاب، ولأصحاب المحلات التجارية ولسائقي الحافلات، وكانت أطياف المجتمع كافة، تتفاعل معها وتنفذ البنود بحذافيرها باعتبارها ممثلة لصوت الناس في الشارع ومعبرًا حقيقيًا عنهم وعن همومهم.

في هذا السياق، يقول المحاضر في جامعة بيرزيت عبد الجواد عمر، أنه لطالما كانت الإضرابات تحمل عدة أبعاد، من ناحية الهدف والفائدة المرجوة منها، ففي الانتفاضات على سبيل المثال، وفي الانتفاضة الأولى على وجه التحديد، كان الهدف الأساسي من الإضرابات اختراق وكسر قرار السلطة العسكرية التي كانت قائمة في حينه، في محاولة لجعلها تدرك وجود قيادة أخرى وسلطة أخرى، هي سيادة الشعب الذي يقرر ما إن تستمر عجلة الحياة اليومية المعتادة أم لا، ومتى يجب أن تتوقف لتستمر بطريقة أخرى. 

مع توقيع اتفاقيات أوسلو في التسعينات، حدث تحول كبير في شكل الإضرابات في فلسطين. تمثلت هذه المرحلة في انتقال السلطة الفلسطينية إلى المناطق الفلسطينية، وتحول دور الاحتكاك المباشر مع الاحتلال، فبدأت الإضرابات تفقد تأثيرها المباشر على الاحتلال، نتيجة لغياب الاحتكاك المباشر مع قوات الاحتلال في الحياة اليومية، والتزام السلطة الفلسطينية بالاتفاقيات الموقعة.

في هذا الجانب يوضّح عبد الجواد عمر، أنّه وبعد قيام السلطة الفلسطينية، أصبحت إمكانية أن يكون الإضراب اختراقًا للسلطة العسكرية ليس أمرًا أو قضيّة جادة، بحيث أصبح للفلسطيني منظمة حكم ذاتي، وبالتالي فإن الإضراب لم يعد موجهًا بشكل أساسي نحو اختراق وزعزعة سلطة الحاكم العسكري، وإحدى اضطرابات الإضراب التي نشهدها في الشارع اليوم، هي أن الشارع لم يعد قادرًا على رؤية أثر الإضراب من هذه الزاوية.

هذا بالإضافة إلى سياسات الفصل القائمة، بين الفلسطيني والصهيوني اليوم في الضفة الغربية، وعدم وجود احتكاك يومي مباشر بينهم، باستثناء الطرق الالتفافية، فهذا يعني أن قدرة الناس والنشطاء على الحشد من داخل المدن أصبحت معطوبة، بمعنى القيام بالمظاهرات في الحيّز العام داخل مناطق الضفّة الغربية نفسها، إلا إذا كانت موجهة نحو السلطات القائمة في الضفة الغربية. 

أضف على ذلك، فإن الناس في الشارع لم تعد تشعر بحقيقة أن الإضراب قد يكون أداة فاعلة وذات مغزى في المواجهة مع المحتل، ويرافق ذلك الاشتباك على حدود المدن والمعدّة مسبقًا من قبل الاحتلال للمواجهة هي مناطق أكثر عرضة لارتقاء الكثير من الشهداء، دون الشعور بأن هناك أثر ملموس من خلال المواجهة نفسها إلّا في أبعادها الرمزية، ولربما أصبح هناك صعوبة من نواح متعددة، في التماس أثر جاد لأيّ فعل من الأفعال التي تنطلق من أساس وحشد شعبي. 

وأشار عمر إلى أن تفريغ الضفة الغربية ومناطق أخرى مختلفة من التنظيم الاجتماعي المنوط للقيام بهذا الدور، بسبب سياسات الاعتقال، وسياسة “باب الدوار” التي تتبعها السلطة الفلسطينية، واعتقال الناس الأكثر نشاطًا، من النشطاء أو القياديين الذين يمتلكون مواقع رمزية أو اجتماعية تجعلهم قادرين على القيام بهذا النوع من الحشد.  

وفي الختام، يؤكدّ عمر أنّه لا بدّ من التنبه إلى أمرين في هذا الجانب، يتمثل الأول في أن الإضراب ضروريًا كونه يحمل بُعدًا رمزيًا مهمًا، وكأن الحياة تتوقف لحظة ارتقاء الشهيد، وبُعدًا عاطفيًا، وكأنه لا يجب للحياة أن تستمر وكأن هذا الحدث لا يؤدي إلى تغيير واقعنا، والآخر في كونه يُستخدم في بعض الأحيان كأداة لتفريغ الناس من أي نوع من الفعل السياسي المباشر، كما وأنه يرى أن الإضراب في نهاية المطاف، هو فعل سلبي على مستوى البقاء في المنزل، وتعطيل مظاهر الحياة اليومية، دون أن ينطوي عليه أيّ فعل يصل إلى مستوى المواجهة المباشرة، أيّ أنه فعل يتفق عليه خصم المقاومة وغريمها، وكأنه نوع من أنواع توجيه الناس إلى إجازة، دون فعل تحشيدي عام.

 فمن الممكن أحيانًا أن نرى الإضرابات -وليس بالضرورة في كل مرة- على أنها إحدى أساليب مكافحة التمرد لدى الناس في الشارع وليس الحثّ عليها. 

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة