د. ياسمين تمام
المقدمة :
بعد مرور عام على أحداث السابع من أكتوبر، استمرت إسرائيل في تنفيذ استراتيجية عسكرية تهدف إلى تقويض المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. من بين أبرز ملامح هذه الاستراتيجية كان فصل شمال غزة عن القطاع، في محاولة لعزل المقاومة في الشمال وتكثيف الحصار على المدنيين. لم يكن هذا التقسيم مجرد إجراء تكتيكي، بل جزءًا من خطة شاملة تهدف إلى إضعاف المقاومة من خلال فرض حصار محكم والحد من وصول الإمدادات.
كانت توقعات الاحتلال الإسرائيلي أن يؤدي هذا التقسيم إلى انهيار سريع للمقاومة الفلسطينية، متبوعًا بسيطرة سلسة على القطاع. استراتيجية مبنية على الحصار الخانق والتفتيت الجغرافي. لكن، وبعد مرور عام كامل، صُدم العالم بالنتائج. بدلاً من الانهيار، واجهت إسرائيل مقاومة أكثر شراسة وتحديًا. المقاومة الفلسطينية لم تصمد فحسب، بل استطاعت توجيه ضربات موجعة ومؤلمة للقوات الإسرائيلية، مما كشف عن فشل ذريع للاستراتيجية العسكرية التي اعتمد عليها الاحتلال لتحقيق أهدافه.
لم يقتصر التقسيم والحصار على إضعاف المقاومة، بل زادا من المعاناة اليومية لسكان القطاع. القصف المستمر لا يستهدف فقط المناطق المكتظة بالسكان، بل طال أيضًا خيم النازحين التي كانت ملاذًا للهاربين من نيران الحرب، مما أدى إلى مقتل النساء والأطفال. في مشاهد مأساوية، أسفرت الغارات عن جثامين متفحمة وأشلاء متناثرة، حيث تسببت القذائف في اندلاع الحرائق وسط الأماكن المأهولة. كما أن خروج المستشفيات عن الخدمة جعل الأوضاع الصحية في حالة انهيار، فلا علاج للجرحى ولا ملاذ للمرضى. نقص الإمدادات الغذائية والطبية، وانعدام المساعدات الإنسانية في الشمال، عمّق من هذه المأساة. الحصار الخانق جعل الحياة في غزة أشبه بـكابوس يومي، حيث يدفع المدنيون الثمن الأكبر بين مطرقة الحرب وسندان الفقر، في ظل أزمة إنسانية تتفاقم بلا حلول تلوح في الأفق
يعد تقسيم قطاع غزة خطوة بارزة في الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، حيث يمثل محاولة منهجية لعزل المقاومة الفلسطينية. بدأت إسرائيل تنفيذ خطة تقسيم القطاع عبر فصل المناطق الشمالية عن مدينة غزة، وهو أسلوب جديد في الحصار الجغرافي. وقد اكتمل حصار المنطقة الشمالية، خصوصًا محافظة شمال غزة التي تضم مخيم جباليا والعطاطرة وبيت لاهيا وبيت حانون. هذا التقسيم تم عبر تنفيذ محور نتساريم، الذي عمل على فصل محافظتي غزة وشمال غزة عن باقي القطاع.
إداريًا، يتكون قطاع غزة من خمس محافظات: شمال غزة، غزة، الوسطى، خانيونس، ورفح. الحصار الحالي يركز على المنطقة الشمالية لمحافظتي غزة وشمال غزة، يسعى الاحتلال إلى تكرار سيناريو محور نتساريم الذي يعود إلى عام 1972، حيث قامت القوات الإسرائيلية بقيادة شارون بعمليات عسكرية في مخيم جباليا، مما أسفر عن تدمير واسع وتهجير للسكان. الآن، يخصص الاحتلال قوة عسكرية كبيرة لهذه العملية، مما يعكس أهميتها في استراتيجيته.
لكن، بالرغم من هذه المحاولات المتواصلة والتدمير الواسع والتهجير القسري، يظل السؤال مطروحًا: هل يمكن لهذه العمليات أن تقضي على المقاومة؟ تشير الوقائع حتى الآن إلى أن المقاومة لا تزال قوية وصامدة أمام هذه المحاولات. ومع تصاعد الضغوط، أظهرت الفصائل الفلسطينية قدرة فائقة على التكيف، واستجابت للتحديات من خلال تطوير استراتيجيات جديدة وفعالة لمواجهة الاحتلال.
رغم الضغوط الكبيرة التي نجمت عن هذا التقسيم، أظهرت المقاومة الفلسطينية قدرة ملحوظة على التكيف. استجابت الفصائل الفلسطينية لهذه الاستراتيجية الإسرائيلية عبر تطوير تكتيكات عسكرية جديدة، مستفيدةً من المعرفة المحلية والفهم العميق للطبيعة الجغرافية للقطاع. على سبيل المثال، نفذت المقاومة عدة عمليات نوعية استهدفت نقاط تجمع القوات الإسرائيلية، مما أسفر عن خسائر بشرية ومادية كبيرة في صفوفهم. ايضاً تم توظيف drones والطائرات المسيرة لجمع المعلومات الاستخباراتية وتنفيذ الهجمات بدقة، وهو ما زاد من فعالية العمليات العسكرية. وبفضل هذه الاستراتيجيات المتطورة، نجحت الفصائل في استعادة بعض من قوتها، مما أعطى دفعة معنوية للسكان ودعمًا أكبر لجهود المقاومة. تظهر الوقائع أن هذه القدرة على التكيف قد أثبتت فعاليتها، حيث تستمر المقاومة في مواجهة الضغوط العسكرية والسياسية، معززةً أمل الشعب الفلسطيني في تحقيق حقوقهم الوطنية.
تحت وطأة الحصار المفروض، يجد المدنيون أنفسهم في مواجهة قاسية مع تداعيات الحياة اليومية. يؤثر التقسيم على وصولهم إلى المواد الأساسية مثل الطعام والدواء، حيث تقلصت كميات الإمدادات الغذائية والدوائية بشكل كبير حيث تتجلى معاناة النازحين في قصص مؤلمة تعكس قسوة الواقع. فقد الكثيرون منازلهم بسبب القصف المستمر، مما أجبرهم إلى البحث عن مناطق آمنة لكن لا توجد مناطق آمنة في قطاع غزة؛ حتى المناطق التي يُعلن عنها من قبل الاحتلال الإسرائيلي على أنها آمنة، تتعرض للقصف المستمر باستخدام أحزمة نارية، مما يفاقم من معاناة السكان. هؤلاء النازحون ليسوا فقط فاقدين لمنازلهم، بل يعانون من فقدان الأمل والأمان، وبعض الحالات الإنسانية المؤثرة تشمل عائلات تمزقها الحروب، وأطفال يعيشون في ظروف غير إنسانية، مما يزيد من الضغط النفسي والاجتماعي على جميع أفراد المجتمع.ءؤي
لم يتحرك المجتمع الدولي بشكل جاد تجاه الوضع الإنساني المتفاقم في غزة. على الرغم من أن بعض المنظمات الدولية تصدر بيانات تدين القصف والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان وتطالب بإدخال المساعدات الطبية والغذائية إلى شمال غزة، الا ان الاحتلال الإسرائيلي يواصل رفضه في ظل الظروف القاسية التي يعاني منها القطاع وشمال القطاع بالتحديد.
وسط مشاهد مروعة حيث الأطفال يحترقون، وأشلاء النساء والشيوخ تتناثر، والملاجئ تُقصف بلا هوادة، يُدرك الجميع حجم الصمت الخانق الذي يحيط بالمشهد. هذا الصمت، سواء كان عربيًا أو إسلاميًا أو دوليًا، يبدو كأنه حاجز لا يمكن كسره، يقف عاجزًا أمام معاناة شعب كامل. ورغم كل هذا الدمار، لا تزال الأصوات التي تنادي بالعدالة قليلة وغير مؤثرة.
عندما تُقصف خيام النازحين وتُدمر مراكز الإيواء، يبدو وكأن الإنسانية نفسها تُختبر. هناك صمت دولي يصعب تفسيره، كأن العالم بأسره يغمض عينيه عما يجري. الأقلام قد تعجز حقًا عن التعبير عن مدى هذه الفظائع، ولكن ما يعمق الشعور بالعجز هو غياب التحرك الفعلي، حتى في وجه كل هذه الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان.
ما يجري في غزة اليوم ليس مجرد معركة عسكرية، بل هو اختبار لقيم العدالة والإنسانية في العالم بأسره. إن الصمت القاتل الذي يخيم على هذه الكارثة يُظهر الحاجة الملحة لرفع الصوت وفتح النقاش حول ما يجري، لتكون الإنسانية هي البوصلة التي تقودنا نحو تغيير حقيقي.
خلاصة القول : إن هذه السياسات والمخططات التي يتبناها نتنياهو وحكومته قد تؤدي إلى مزيد من تدهور الأوضاع الإسرائيلية. فكلما زادت الضغوط العسكرية واستمرت الخسائر، كلما تعمق الشعور بالإحباط والفشل داخل المجتمع الإسرائيلي. إن الاستمرار في استخدام القوة العسكرية بشكل غير مدروس سيعزز من قدرة المقاومة الفلسطينية.
وفي ظل تصاعد المقاومة ونجاحاتها المتزايدة، قد تجد إسرائيل نفسها في مواجهة تحديات جديدة. فبدلاً من استعادة السيطرة، فإنها قد تزداد عزلة، مما يؤثر سلبًا على الأمن القومي الإسرائيلي. يترافق هذا مع تزايد المخاوف من تصاعد الاحتجاجات الداخلية والمطالبات بتغيير السياسة، مما يشير إلى أن الاستراتيجيات الحالية لن تؤدي إلا إلى تفاقم الأوضاع، سواء على مستوى الساحة الفلسطينية أو على الصعيد الإسرائيلي الداخلي.
في نهاية المطاف، يبقى السؤال مطروحًا: هل ستستمر حكومة الاحتلال الإسرائيلي في السير على نفس الطريق الوعر، أم ستسعى إلى نهج جديد يعكس وعيًا أكبر بتعقيدات الواقع الفلسطيني؟ هل يمكن للواقع المرير في غزة أن يُغيّر من موقف المجتمع الدولي والعربي، أم أننا نعيش في حالة من الإنكار حين نتحدث عن الأمل في ظل دعم الولايات المتحدة لحكومة إسرائيلية تُمعن في انتهاك حقوق الإنسان، مُتجاهلةً المآسي التي تحل بالمدنيين والأبرياء؟ كيف يمكننا أن نعطي صوتًا للأمل بينما تتواصل مشاهد الدمار والقتل، مما يثير تساؤلات عميقة حول إنسانيتنا وواجبنا الأخلاقي تجاه ما يحدث في العالم؟
كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يقف صامتًا أمام مآسي إنسانية تتكشف يوميًا، في حين تتعزز سياسات القتل والتدمير؟ إن هذا الصمت يطرح تساؤلات جوهرية حول الإنسانية والعدالة، ويجعل الأمل في تغيير حقيقي يبدو بعيد المنال. إن الحل الواقعي يكمن في ضرورة وقف الحرب والتوجه نحو صفقة تبادل الأسرى.