هبة كتانة
قبل أيام قليلة فقط، كانت ولاء الطنجة تستيقظ على أصوات الأبواب الحديدية التي تُغلق خلفها، لكنها اليوم بين أهلها، تستعيد تفاصيل الحياة التي سُلبت منها، فبعد سنوات من الاعتقال، خرجت ضمن صفقة تبادل الأسرى في مرحلتها الأولى، تحمل في قلبها وجع التجربة، وقوة الصمود. وتروي في حديثها كيف مضت سنوات الأسر، وكيف استقبلت خبر الإفراج، وماذا يعني لها أن تبدأ من جديد خارج القضبان.
ولاء خالد الطنجة (28 عامًا) من مخيم طولكرم، شقيقة المعتقل الجريح محمد الطنجة، كانت من بين الأسيرات اللواتي أُفرج عنهن في الدفعة الأولى من صفقة التبادل خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، لكنها لم تبقَ طويلاً في الحرية، إذ أعيد اعتقالها بعد فترة وجيزة.
في حديثها عن يوم اعتقالها الأخير، تقول ولاء: “بتاريخ 12/03/2024، حوالي الساعة العاشرة صباحًا، لم أكن أعلم أن ذلك اليوم سيغير حياتي بأكملها، كنت في طريقي إلى طولكرم بعد عودتي من نابلس، عندما حاصرتني قوة خاصة من الاحتلال واختطفوني دون تفسير، وجدت نفسي مقيدة ومعصوبة العينين داخل مركبة تسير بسرعة، فيما كان الجنود يصرخون ويقولون: “إرهابية”. في تلك اللحظات، لم يكن الخوف من الاعتقال وحده ما يسيطر عليّ، بل القلق على عائلتي، كيف سيصلهم الخبر؟ هل سيدركون ما حدث لي؟
وتابعت أنها كانت في سيارة أجرة برفقة ابن خالها البالغ من العمر 16 عامًا، حينما تكلم معها قائد منطقة نابلس قائلًا: “يا مرحبا، إجيتي قبل ما أنا أجيلك، اليوم بدك تيجي معنا عالسجن عشان تشوفي أخوكي.” مضيفة أنهم قاموا بعدها بتعصيب أعين ابن خالها القاصر وتقييده، وقاموا بفعل ذات الشيء معها، مشيرة إلى أنهم تركوهم في العراء وسط البرد القارس دون طعام أو ماء حتى الخامسة فجرًا، قبل أن ينقلوهم لمعسكر جيش قريب.
بعد أيام من الاحتجاز، تلقت صدمة أخرى حينما أخبرها محاميها بأنها معتقلة إداريًا، وأن ملفها “سري”، مما يعني أنها لن تحظى بمحاكمة عادلة، ولن تعرف حتى التهمة الموجهة إليها، وعن هذه اللحظة بينت أنها في البداية، كانت تظن أنها ستخضع لمحاكمة وستخرج، لكنها سرعان ما أدرَكَت أنها عالقة في دوامة التمديدات حيث كلما اقترب موعد الإفراج، كان يتم تجديد الأشهر لها دون أي تفسير.
داخل السجن، لم تكن المعاناة تقتصر على الاحتجاز فقط، بل كانت هناك ضغوطات نفسية تحاول كسر إرادة الأسيرات، وخاصة الأسيرات الغزاويات اللواتي ما زلن يقبعن داخل سجون الاحتلال.
وعن معاناتها داخل الأسر، أكدت الطنجة أن الطعام في أغلب الأوقات كان عبارة عن عدس وحمص، وكأس شاي واحد فقط طوال اليوم، ما جعل الحياة في السجن أكثر صعوبة. لكن المعاناة لم تقتصر على الجوع والعطش، بل امتدت لتنكيل قوات الاحتلال بها وبزميلاتها الأسيرات، فتقول: ‘كانوا يسحبونني من شعري عند الفجر ويخرجونني إلى الساحة في الجو البارد، حيث نبقى لفترات طويلة في الهواء الطلق دون رحمة”.
وأضافت أنهم كانوا يجبرونهن على التمدد على الأرض، ثم يأمرون الكلاب بالمرور فوق ظهورهن، في مشهد مليء بالإذلال والتحقير، مبينة أن تلك اللحظات كانت من أصعب ما مرت به، مؤكدة أنهن كن يُثبتن على قوتهن وتماسكهن، لأنهن يعلمن أن هذه التجارب لن تكسر إرادتهن.
ومنذ السابع من أكتوبر 2023، ازدادت حدة التعذيب والقمع داخل السجون الإسرائيلية، حيث تؤكد الطنجة أنها ورغم أنها أمضت عامًا ونصف في اعتقالها الأول، إلا أن المعاناة في اعتقالها الأخير كانت أشد وطأة، فتقول “في حبستي الأولى، لم أتعرض لما تعرضت له هذه المرة بعد أكتوبر، كانوا ينقلونني إلى العزل الانفرادي مرات عديدة، حيث كانت الزنازين باردة وقاسية، وكنت أشعر أن البرد يتسلل إلى عظامي، ولا توجد أي وسيلة للتدفئة، تلك الظروف الصعبة لم تترك أثرًا جسديًا فقط، بل أثرت أيضًا على صحتي النفسية”
ورغم تحررها، إلا أن سيف الاعتقال ما زال مُسلطًا على رقبة ولاء، فالاحتلال لم يكتفِ بسنوات الأسر والتنكيل، بل وجّه لها تهديدًا مباشرًا بقولها أنها “إن ظهرتِ في أي فيديو على وسائل الإعلام، فسيتم اعتقالها مجددًا، لكن ولاء، التي اعتادت مواجهة القمع بالصمود، ترفض أن تعيش في الخوف.
الطنجة أوضحت أن أكثر ما يشغل بالها الآن، هو شقيقها محمد، المعتقل الجريح الذي ما زال يقبع خلف القضبان، مبينة أنها عاهدت نفسها أن تتناول نفس الطعام الذي يأكله محمد داخل السجن، حتى يشعر أنها معه، وحتى تعيش بعضًا مما يعيشه، وحتى لا تنسى أيضًا للحظة أن هناك من لا يزال يتألم خلف الأسلاك الشائكة.
ورغم كل هذه المعاناة، تبقى الطنجة مؤمنة بأن الصبر والصمود هما طريقها الوحيد، متمنية اليوم الذي ترى فيه شقيقها محررًا، كما رآها أهلها لحظة خروجها من الأسر.
ومع تنفيذ الصفقة بمرحلتها الأولى، ووفقًا لهيئة شؤون الأسرى والمحررين، تم الإفراج عن 67 أسيرة، ما خفّض عدد الأسيرات إلى 15 أسيرة، لكن المعاناة لم تنتهِ، فما زالت العشرات منهن محتجزات، يواجهن سياسات التنكيل والحرمان. أما المحررات، فيواجهن تحديات جديدة خارج السجن، حيث يُحاولن استعادة حياتهن التي جُمّدت قسرًا خلف القضبان.