أحمد بسيوني
في سياق الاستعمار الاستيطاني، تتحول محاولات السيطرة على الشعوب الأصلية من الإبادة الجسدية المباشرة إلى سياسات تستهدف الهوية والذاكرة الجماعية. الفلسطيني اليوم يواجه محاولات إسرائيلية ودولية متواصلة لإعادة تشكيل هويته، ليس كشخص مرتبط بقضية تحرير وطني، بل كرمز فولكلوري عالمي يمكن ترويجه في المهرجانات الثقافية. الفلسطيني الذي يرقص الدبكة، يرتدي الثوب المطرز، ويحمل مفتاح العودة كشعارٍ فارغ من المعنى السياسي، هو النسخة المقبولة التي يريدها العالم. هذه الاستراتيجيات ليست جديدة؛ بل تتماشى مع نماذج استشراقية وصفها إدوارد سعيد بدقة في الاستشراق: “الغرب لا يرى الشرق كما هو، بل كما يريد أن يكون؛ أرضًا خصبة للاستغلال وحكايات رومانسية تُروى في الكتب. في هذا السياق، يصبح الفلسطيني موضوعًا للاستهلاك الثقافي، معزولًا عن سياقه السياسي والاجتماعي، مما يعزز محاولات محوه كنضال حي ومقاومة يومية.
التطهير العرقي: من النكبة إلى الإبادة الرمزية
شهد العالم عام 1948 أحد أبرز أشكال التطهير العرقي الحديث، حيث هُجر أكثر من 750,000 فلسطيني من أراضيهم، ودُمّرت مئات القرى في إطار مشروع صهيوني واضح لإحلال المستوطنين محل السكان الأصليين. كما يوثق المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه في كتابه التطهير العرقي في فلسطين: “لم تكن النكبة مجرد حادثة عابرة، بل كانت خطة ممنهجة لإزالة الفلسطينيين من خارطة الوطن.” ومع فشل محاولات الإبادة الجسدية الكاملة بفعل صمود الفلسطينيين، تحولت السياسات الإسرائيلية إلى استراتيجيات إبادة رمزية تستهدف تقويض الهوية الفلسطينية وإعادة تشكيلها بما يخدم رواية المستعمِر. هذا التحول يعكس فكرة الاستعمار الاستيطاني المستمرة التي يصفها باتريك وولف بأنها “عملية هيكلية وليست حدثًا”، حيث يُعاد تشكيل السكان الأصليين ثقافيًا ونفسيًا.
والإبادة الرمزية ليست مجرد محو للذاكرة، بل إعادة إنتاجها بما يخدم مصالح المستعمِر. هذه المحاولات تتجسد في سياسات إسرائيلية متعددة، أبرزها: أولًا؛ التعليم كأداة للإبادة الرمزية، حيث تسعى إسرائيل، خاصة في القدس، إلى فرض مناهج تعليمية تحذف الرواية الفلسطينية عن النكبة والنكسة، وتستبدلها بسرديات إسرائيلية. المناهج المفروضة تهدف إلى إنتاج جيل فلسطيني منفصل عن تاريخه الوطني، مما يعزز محاولات الاحتلال لتحويله إلى نسخة “مؤنْسنة” مقبولة دوليًا. ثانيًا؛ الثقافة كساحة صراع، يُعاد تشكيل التراث الفلسطيني ليصبح منتجًا ثقافيًا عالميًا بعيدًا عن دلالاته السياسية. الرقصات التقليدية، الأزياء المطرزة، وأغاني الحنين تُسوَّق كجزء من “التراث الإنساني”، بينما تُهمّش المعاناة اليومية تحت الاحتلال. وكما تُظهر دراسة للباحثة نورا عريقات، فإن هذا التوجه يعكس استراتيجيات طويلة الأمد لتفريغ الهوية الفلسطينية من محتواها النضالي وتحويلها إلى رمز فولكلوري. ثالثًا؛ النشاط الثقافي الدولي، تشجيع مشاركة الفلسطينيين في المهرجانات الدولية بشرط الابتعاد عن الخطاب السياسي هو جزء من عملية نزع السياق عن الهوية الفلسطينية. الفلسطيني في هذه السياقات يصبح مجرد “مؤدٍ” لتراثه، دون أن يُسمح له بالتحدث عن نضاله أو استرجاع حقوقه.
قطاع غزة: نموذج للإبادة البطيئة
في غزة، المحمية الأكبر في العالم، تتجلى الإبادة الرمزية في أقسى أشكالها. الحصار الذي يُفرض منذ أكثر من 17 عامًا لا يهدف فقط إلى خنق الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بل إلى إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني داخل القطاع. الحصار جعل غزة تعتمد على المساعدات الدولية التي تُقدَّم بطريقة تعزل الفلسطيني عن هويته النضالية. تُختزل المعاناة اليومية في أرقام إغاثية، تُستخدم لتعزيز صورة الاحتلال كمجتمع “متحضر” يقدم حلولًا إنسانية. وكما يوضح الباحث إبراهيم أبو لغد في دراسته حول حصار غزة، فإن هذه السياسة تهدف إلى خلق فلسطيني “مروض”، يقبل البقاء في إطار الواقع المفروض عليه.
النموذج الذي يُراد إسقاطه على الفلسطينيين اليوم يشبه إلى حد كبير مصير الشعوب الأصلية في الأميركيتين وأستراليا ونيوزيلندا. شعوب مثل الماوري، الذين كانوا جزءًا من مقاومة استعمارية شرسة، انتهى بهم الأمر في “محميات ثقافية”. هذه الشعوب أصبحت رموزًا تراثية تُستخدم في صناعة السياحة، معزولة عن تاريخها النضالي. الزائر لنيوزيلندا يُشاهد عروض “الهكا” التقليدية، لكنه لا يعرف شيئًا عن معاناة الماوري ضد سياسات المحو والاستعمار. لكن الفرق بين هذه الشعوب والفلسطينيين أن النضال الفلسطيني لا يزال حيًا ومقاومًا لمحاولات الإبادة الرمزية. الفلسطينيون يصرون على التمسك بسرديتهم كقضية تحرر وطني، لا كتراث إنساني فلكلوري. رغم المحاولات الحثيثة لمحو الهوية الفلسطينية، يبقى الشعب الفلسطيني صامدًا في وجه سياسات الإبادة الرمزية.
إحياء ذكرى النكبة والاحتفاء بالمقاومة ليست مجرد أحداث رمزية، بل أدوات لاسترجاع الذاكرة الجماعية وربطها بالواقع السياسي المستمر؛ كما قال فرانتز فانون: “الاستعمار لا يترك المستعمرات إلا عندما يُجبر على ذلك”. العالم يريد الفلسطيني أن يتحول إلى صورة أخرى من شعوب الماوري، لكن الفلسطيني يرفض ذلك. الهوية الفلسطينية ليست مجرد تراث، بل هي قصة مقاومة يومية ضد مشروع استعماري يسعى لمحوها. الفلسطيني اليوم لا يُجبر الاحتلال فقط، بل العالم، على رؤية حقيقته: شعب يناضل من أجل الحرية، لا للبقاء في متحف التراث.