يزن حاج علي
تحدث صحفيون فلسطينيون في ملتقى لمة صحافة الذي عُقد يوم الثلاثاء الماضي، عن التحديات التي تواجه الصحفي الفلسطيني المستقل، وحقوقه الغائبة في ظل ظروف سياسية واقتصادية صعبة ازدادت تعقيدًا خلال السنوات الخمس الأخيرة.
ومع اشتداد الأزمات التي تعصف بالمجتمع الفلسطيني، بدءًا من جائحة كورونا عام 2020 وصولًا إلى حرب الإبادة الجماعية التي شنها الاحتلال على قطاع غزة، يمرّ قطاع الإعلام الفلسطيني بمرحلة حرجة ومركبة، لا تهدد فقط قدراته العامة، بل تمس جوهر دوره المهني والوطني والاجتماعي. وفي ظل هذا الواقع، لم يعد التحدي الرئيسي متعلقًا فقط بحرية التعبير أو التغطية المهنية، بل تجاوزه ليتحول إلى أزمة بنيوية عميقة في النموذج الاقتصادي والوظيفي لقطاع الإعلام، بما فيه من مؤسسات وصحفيين، موظفين كانوا أم مستقلين.
أزمة اقتصادية مزدوجة: الانكماش المالي والإهمال البنيوي
أشار رئيس لجنة الصحفيين الاقتصاديين فراس طنينة في حديثه بالجلسة التي عُقدت في الملتقى، إلى جانب بالغ الأهمية في تشخيص الأزمة وهو الإنهيار الاقتصادي الذي ضرب المؤسسات الإعلامية منذ جائحة كورونا عام 2020، وتفاقم هذا الانهيار بعد الحرب الأخيرة، جعل من دعم الإعلام مسؤولية تقع على عاتق القطاع الاقتصادي الفلسطيني.
وأضاف طنينة قائلاً: “برغم أن الحديث عن “مسؤولية القطاع الخاص” أصبح من المفردات المتكررة في الخطاب الفلسطيني العام، إلا أن ما يُفتقد هنا هو إطار تشريعي ناظم يحدد هذه المسؤولية، ويحولها من حالة أخلاقية اختيارية إلى التزام قانوني واضح”.
التخلي عن الكادر الصحفي: مؤشر خطير على هشاشة المؤسسات
وخلال الجلسة، أكد طنينة أن عددًا كبيرًا من المؤسسات الإعلامية تخلّت عن موظفيها بعد الحرب، وهو ما يعكس أحد وجوه الأزمة، الذي تَمثل بفقدان الموارد وصولاً إلى قرارات مَست الأمان الوظيفي للصحفيين.
وفي هذا السياق، أشار إلى دور نقابة الصحفيين التي بدأت بالتنسيق مع وزارة العمل لدعم الصحفيين المستقلين، في محاولة للحد من آثار الأزمة، خاصة بعد تزايد أعداد من فقدوا وظائفهم.
التحول نحو الصحافة المستقلة: خيار الضرورة لا الرفاهية
غياب فرص العمل المحلي في قطاع الإعلام، كما أكدت الصحفية عزيزة نوفل، بات يدفع بالكثير من الصحفيين إلى اعتماد نموذج “العمل المستقل”. هذا التحول ليس بالضرورة خيارًا حرًا، بل غالبًا ما يكون نتيجة اضطرارية لتردي ظروف الإعلام المحلي، وغياب مؤسسات قادرة على استيعاب الصحفيين الجدد أو حتى الحفاظ على الموجودين.
ولفتت نوفل الأنظار نحو معادلة صعبة، مفادها أن الصحفي المستقل مُطالب بوضع خطة عمل ذاتية، تجمع بين اقتناص الفرص، وتطوير الذات، والبحث المستمر عن مصادر دخل بديلة. وهو ما يعني أن الصحفي المستقل لم يعد فقط منتجًا للمحتوى، بل تحول إلى “ريادي” صغير، يدير مشروعه الإعلامي الفردي، دون أي مظلة حماية مهنية أو قانونية أو مالية.
وبحسب نوفل، فإن الجهد الذي يبذله الصحفي المستقل أكبر بأضعاف من الصحفي العامل ضمن مؤسسة، ليس فقط على مستوى الإنتاج، بل في الجوانب التسويقية والعلاقات العامة والتفاوض على الحقوق.
الهشاشة القانونية وتغييب الحماية للمؤثرين والصحفيين
المصورة الصحافية عرين الريناوي تطرح بُعدًا آخر يرتبط بـ”الهوية الصحفية” و”الخطاب الإعلامي”، مشددة على أهمية أن يتحرر الصحفي من الخوف، وأن يُبقي عينيه على النجاح.
ومع تأكيدها على لذلك، لم تُغفل الجانب الأكثر إشكالية، وهو أنه لا توجد أي مؤسسة في فلسطين توفر الحماية للمؤثرين، رغم تصدرهم واجهة المشهد خلال الحرب الأخيرة.
هنا يتقاطع سؤال الحماية مع طبيعة الدور الجديد للمؤثرين والصحفيين المستقلين، الذين أصبحوا المصدر الأول للمعلومة، وصوت الشارع، وواجهة القضية الفلسطينية عالميًا، في حين لا يحظى هذا الدور بأي اعتراف قانوني، بل يقف على هامش المشهد، ما يجعل العاملين فيه عرضة للملاحقة أو الابتزاز أو حتى العنف، دون أن تكون هناك جهة قانونية تدافع عنهم.
وهنا يتقاطع سؤال الحماية مع طبيعة الدور الجديد للمؤثرين والصحفيين المستقلين، الذين أصبحوا المصدر الأول للمعلومة، وصوت الشارع، وواجهة القضية الفلسطينية عالميًا. هذا الدور لا يحظى بأي اعتراف قانوني، بل يقف على هامش المشهد، ما يجعل العاملين فيه عرضة للملاحقة أو الابتزاز أو حتى العنف، دون أن تكون هناك جهة قانونية تدافع عنهم.
وأكدت الريناوي أيضًا على الحاجة إلى وجود “لغة موحدة” و”خطاب جماعي” للمؤثرين خلال الأزمات، لضمان إيصال الصورة الحقيقية بكفاءة، وتعزيز التأثير الجماعي بدل التشتت الفردي.
بين العمل المؤسسي والاستقلالي: معادلة الأمان مقابل الحرية
الصحفي مصعب شاور يُسلط الضوء على جانب اجتماعي ومهني مهم: الفرق بين العمل ضمن مؤسسة، والعمل المستقل، لا يتعلق فقط بالرواتب أو ساعات العمل، بل يمتد إلى تأثير العمل على التوازن الشخصي والاجتماعي.
ويضيف أن الصحافة المستقلة تتطلب امتلاك مهارات متعددة، ليس أقلها التسويق الذاتي، وإدارة الوقت، وتحقيق التوازن بين الحياة الشخصية والمهنية، إلى جانب القدرة على إنتاج محتوى جذاب، منافس، قابل للتداول.
وفي ظل غياب أية مظلة تحمي الصحفي أو المؤثر الفلسطيني، يرى شاور أن العمل ضمن مؤسسات “رغم مشاكلها” على حد وصفه قد يوفر نوعًا من الأمان المهني والصحي، المفقود تمامًا في الصحافة الحرة.
الصحفيات الفلسطينيات بين فكي الأزمات: قمع الاحتلال وانهيار الداخل
على الطرف الآخر من المهنة، تقف الصحفيات الفلسطينيات في مواجهة نادرة ومعقدة، بين مطرقة الانتهاكات الإسرائيلية وسندان الانهيارات الداخلية في البنية الإعلامية. وبينما تفرض سلطات الاحتلال أدوات قمع ممنهجة تطال حرية الرأي، والجسد، تعاني الكثير من الصحفيات داخل الأراضي الفلسطينية من استغلال مهني، وحرمان اقتصادي، وغياب للتشريعات الحامية.
إن التحولات المتسارعة التي مر بها العمل الصحفي في فلسطين خلال السنوات الماضية، وصولًا إلى الانفلات الإسرائيلي في استهداف الصحفيين والصحفيات، كشف الستار عن أزمة مزدوجة، داخلية وخارجية، تمس جوهر المهنة، وتهدد استمراريتها، وتُبرز بشكل خاص الواقع المهني للصحفيات الفلسطينيات
من جهتها، تؤكد الصحفية حنين قواريق أن الأزمة لا تقف عند حدود الاستغناء عن الكوادر، بل تتجاوزها إلى استغلال بعض المؤسسات للصحفيين والصحفيات، عبر أجور متدنية، وحرمان من الإجازات، وانعدام التأمين الصحي، لا سيما للصحفيين الميدانيين الذين يواجهون مخاطر مستمرة.
إن الاستهداف الإسرائيلي المنظم للصحفيات الفلسطينيات، الذي تصاعد بشكل غير مسبوق بعد اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة عام 2022، والتي تحولت جريمتها، كما تصفها الصحفية جيفارا البديري، إلى “ضوء أخضر” تبعه قتل مئات الصحفيين في قطاع غزة.
تقول البديري إن الصحفيين والصحفييات في الضفة يعانون من صدمات نفسية مزمنة، في حين يعيش صحفيو غزة تحت وطأة الإبادة والتجويع والحرمان، مضيفة: “لم تعد الصحافة مهنة عادية”.
في السياق نفسه، تشرح الصحفية سالي مؤقت أن ما بعد أكتوبر 2023 شكّل تحولًا خطيرًا في التعاطي الإسرائيلي مع الصحفيات، وخاصة النساء. فهناك محاولات ممنهجة لطمس الحريات المكتسبة، وتهديدات مباشرة على الأرض، وتحريض من الجماعات الاستيطانية، بهدف طمس السردية الفلسطينية.
ورغم كل ذلك، تصر مؤقت على أن “كل وسائل القمع لا يجب أن تثنينا عن الاستمرار في التغطية”، معتبرة أن الصحفيات الفلسطينيات اليوم أصبحن في طليعة المواجهة الإعلامية ضد الاحتلال.
أما الصحفية راما يوسف، التي تعمل في القدس المحتلة، فتشير إلى شكل آخر من الانتهاكات: الإجبار على الحصول على “ترخيص إسرائيلي” للعمل، والضغط لتبني السردية الصهيونية مقابل حرمان المقدسيين من حقوقهم الأساسية. تقول راما: “نحن مهددون في أرزاقنا، في حين يُطلب منا أن نتبنى رواية الاحتلال!”.
صمود مزدوج في ظل ظروفٍ صعبة
إن هذه المعطيات المهنية في قطاع الإعلام الفلسطيني تُنتج واقعًا ثقيلًا على الصحفيين والصحفيات ، ويجعل من كل قصة، وكل تقرير، وكل تغطية ميدانية، أساسًا فعليًا من أساسات الصمود. فحين تكون المهنة محفوفة بالخطر، يصبح الصحفي الفلسطيني نموذجًا نادرًا لصمود مزدوج: صمود في وجه الاحتلال، وصمود في وجه التهميش والاستغلال الداخلي.
فمن جهة، يسعى الاحتلال إلى إسكات الصوت الصحفي عبر القتل، الاعتقال، والمنع من التغطية، والتحريض، ومن جهة أخرى، تقف بعض المؤسسات مُتفرجة بل ومستغِلة لطاقات الصحفيين والصحفيات، دون حماية وظيفية أو نقابية أو حتى نفسية.
هذه الازدواجية تُحتّم إعادة النظر في الدور النقابي، ومسؤولية المؤسسات الحقوقية، وضرورة بناء شبكات تضامن محلي ودولي خاصة بالصحفيين، تعترف بخطورة الميدان، وبأهمية الرسالة، وبضرورة صونها.