يزن حاج علي
قُبيل حرب الإبادة الجماعية التي شنها الاحتلال على قطاع غزة في تشرين أول/أكتوبر 2023، ساهمت الأغاني والأناشيد الوطنية في صياغة المشهد والوعي في الضفة الغربية، بعد تصاعد المقاومة في مخيمات الضفة الغربية.
جاءت هذه الأغاني كشكلٍ من أشكال حفظ الإرث النضالي، وتشكيل هوية للجيل الجديد من الشباب الفلسطيني، الذي تعرض لعمليات كي وعيٍ ممنهجة خلال العقد الأخير، ولتكمل ما بدأ به تاريخ الأغنية الوطنية الفلسطينية، منذ الثورة الكبرى ضد الانتداب البريطاني في ثلاثينيات القرن الماضي.
وفي الواقع كانت هذه الأغنية، تخرج من ميدان الفعل، ومسرح الأحداث، لتقوم بدورٍ مهمٍ في التوعية والتحريض وصناعة أيديولوجية الثورة والفداء، فكيف بدأت الأغنية الوطنية الفلسطينية؟، وما هو الدور الحقيقي الذي قامت به؟، وما التحولات التي مرت بها على امتداد مراحل القضية الفلسطينية؟
من أهازيج الأعراس إلى الدعوة لحمل السلاح
كانت الأهازيج جزءًا لا يتجزأ من التراث الفلسطيني المتناقل عبر الأجيال، وكانت هذه الأهازيج تنتشر في الأعراس، والمواسم الدينية، وفي الأنشطة الزراعية السائدة، غير أن ثمة تغيرات قد بدأت تطرأ على المشهد، مع تصاعد خطر المشروع الصهيوني من جهة، وسياسة الانتداب البريطاني من جهة أخرى.
في تلك الفترة، نشط الشهيد الشيخ عز الدين القسام، القادم من سوريا والذي بدأ بدوره في عملية إصلاح اجتماعي داخل الشعب الفلسطيني والتحريض للثورة ضد المشروع الصهيوني، وبالتوازي مع ذلك بدأ بتحضير المجموعات المسلحة، التي ستقود الثورة بعد استشهاده عام 1935.
كان الشاعر الفلسطيني نوح إبراهيم، أحد المقربين من الشيخ، وقد سُمي لاحقاً بـ”تلميذ القسام”، قد بدأ في كتابة قصائده التي عبرت عن التطلعات الوطنية الثورية، وكانت الأغنية الشعبية الشهيرة “من سجن عكا” من كلماته، وقد رثى بها شهداء ثورة البراق الثلاثة “عطا الزير، محمد جمجوم، وفؤاد حجازي”، والتي غنتها فرقة العاشقين.
ورثى نوح إبراهيم القسام بقصيدته التي تحولت إلى أهزوجة شعبية، وقال في مطلعها:
“عز الدين يا خسارتك رحت فدا لأمتك مين بينكر شهامتك يا شهيد فلسطين عز الدين يا مرحوم موتك درس للعموم اه لو كنت تدوم يا رئيس المجاهدين إقروا الفاتحة يا إخوان على روح شهدا الأوطان وسجل عندك يا زمان كل واحد منا عز الدين”
ومن الأهازيج التي انتشرت بالتزامن مع الثورة الكبرى:
“كنا نغني في الأعراس جفرا عتابا و دحية
واليوم نغني برصاص عالجهادية الجهادية
واتغير صوتي يا ولاد صار أعلى مية المية
يا بلادي يا احلا بلاد انتي روحي وعينية”
وجاءت بعض الأغاني التي وثقت معارك المقاومة في حرب النكبة، كمعركة “كفار عتصيون” ، التي أثخن بها الثوار الفلسطينيون في العصابات الصهيونية، فردد الناس أغنية شعبية قيل فيها:
“على كفار عصيون صار المنادي
يوم عبوس يوم شر واستطاره
حسين عمر بنتخي مثل زيدان
صبيان لعب اليوم عجَّ الغبارة
والحاج ناجي بنتخي أول القوم
يوم عبوس يوم هذا النهاره”.
الثورة الفلسطينية المعاصرة والانطلاق الجديد
ما إن انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965، حتى انطلقت معها الأغنية الوطنية من جديد، كنتيجة للتغير الجديد في نسيج الشعب الفلسطيني بمختلف أماكن تواجده، فيما أطلقت حركة فتح إذاعة صوت العاصفة كإذاعة رسمية للثورة، وقد بثت من خلالها عشرات الأغاني.
كانت أغنية “طل سلاحي من جراحي” أبرز تلك الأغنيات، و “طالعلك يا عدوي طالع”، أما معركة الكرامة فكان لها وقعها الخاص، عندما حققت الفصائل الفلسطينية والجيش الأردني الانتصار على جيش الاحتلال، وقيل في المعركة أغنية شهيرة جاء بها:
“وحدنا الدم يا كرامة .. وحدنا الدم
والشمل التم يا كرامة .. والشمل التم
في حبال النار فدائية .. بين الأغوار فدائية
عاجبين الأرض العربية .. وحدنا الدم
لحرب التحرير الشعبية .. وحدنا الدم.”
وكان الدور الأبرز آنذاك، لإذاعة صوت العاصفة، التي انطلقت عام 1968 بعد الانتصار في معركة الكرامة، ولعبت هذه الإذاعة دوراً رياديّاً في إنتاج أغانٍ ثوريّةٍ نضاليّةٍ تعبويّةٍ كانت تؤديها فرقةٌ غنائيةٌ خاصةٌ لمنظمة التحرير الفلسطينية، تُسمى بـ”الفرقة المركزية”، حيث ساهمت في تعبئة الفدائيين وبثّ روح الحماس.
وكان الفلسطيني مهدي سردانة، خريج جامعة القاهرة، والملحّن المصري عبد العظيم محمد أهم الملحّنَيْن لأغاني وأناشيد الإذاعة.
وحملت الأغنية الوطنية الفلسطينية آنذاك، رسائل سياسية وجماهيرية مرافقة لأحداث مفصلية، كالعمليات العسكرية للفدائيين، وبعض الأحداث الجارية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، كأغنية “طوق يا طوق” والتي صدرت تعقيباً على الإجراءات المشددة التي فرضها جيش الاحتلال على منطقة الخليل، أثناء البحث عن الخلايا العسكرية التي قادها الشهيد باجس أبو عطوان، في أواخر الستينيات، حيث تقول الأغنية:
“طَوِّقْ يا عَدُّو طَوّقْ .. مَدينِتْنا وقَريِتْنا وِشارِعْنا وِحارِتْنا ..”واسجِنْ أَهِلْنا وشتَّتْ .. يمينَ الله، يمين اللهعَنِ الثَوْرَةْ ما نِتْخَلَّى .. وَلا بِنْحيدْ.. يَمينَ الله“
وفي تلك الفترة، سطع نجم الشاعر الفلسطيني أبو عرب، الذي لا زال صدى صوته ومواويله يتردد بعد أن رحل بسنوات.
فرقة أغاني العاشقين
من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، وتحديدًا عام 1977، انطلقت فرقة أغاني العاشقين، لتستكمل مسيرة الأغنية الثائرة، بالتوازي مع المنعطفات التي مرت بها القضية الفلسطينية، وبدأت بإنتاج الأغاني المصورة وبعض أغاني المسلسلات التي أُنتجت آنذاك، كمسلسل “عز الدين القسام”.
وقاد الفنان اللبناني – السوري، حسين منذر الفرقة وأنتج منها العديد من الأغاني التي لا زالت محفورة في الذاكرة الفلسطينية، كأغنية “اشهد يا عالم علينا وعلى بيروت”، والتي صورت أحداث الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 والمجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال هناك.
وبعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بسنوات، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، والتي جاءت كأضخم مواجهة جماهيرية ضد الاحتلال داخل فلسطين المحتلة، وكما هي العادة، رافقت الأغنية الوطنية الحدث بكافة تفاصيله وتجلياته.
بدورها، أنتجت فرقة العاشقين العديد من الألبومات الغنائية، كألبوم “أطفال الحجارة”، و “مغناة الانتفاضة”.
بالتزامن مع ذلك، انطلقت فرقة اليرموك التي حملت أغنياتها طابعاً وطنياً – إسلامياً، جسدت من خلالها أحداث الانتفاضة، كأغنية: ” أشعلناها بإيدينا”، والتي يُقال في مطلعها:
“ثمنية ١٢، أشعلناها بإدينا
والعالم كله عم يتفرّج علينا
يا فلسطين لأجلك على الجمر مشينا
والنصر قرب يا يمّا واتعدينا
يا ثورة قومي ..في غزة قومي
في نابلس قومي .. في القدس قومي
في الأقصى قومي”
وبعد اشتداد الانتفاضة، وعسكرتها برزت ظاهرة المطاردين داخل قطاع غزة والضفة الغربية، فيما بات هؤلاء المطاردين بين الشهادة والأسر، وكان من أبرزهم الشهيد يحيى عياش، الذي أعقب استشهاد عام 1996 شريط: “عياش والوطن” الذي حمل في ألحانه وكلماته سيرة الشهيد ورثاءٍ له، وهو من إنتاج مؤسسة روابي الفنية – الفلسطينية في مخيمات الشتات في لبنان.
جاء عام 1998 ليحمل معه أحد الأناشيد الوطنية التي تناقلت عبر الأجيال ليومنا هذا وهي “فتنت روحي يا شهيد” والتي غناها الفنان السوري أيمن الحلاق، حيث حملت لحناً وجدانياً لواقعة الاستشهاد في النفوس وعظمة صورة الشهيد، حتى باتت ترافق حدث الاستشهاد حتى يومنا هذا.
انتفاضة الأقصى والتحولات
رافق انتفاضة الأقصى التي اندلعت عام 2000 مجموعة من الأغاني والأناشيد الوطنية، فيما طغى البعد الحزبي على الأغنية الوطنية الفلسطينية، فكانت أبرز هذه الأغاني “شيعوا للكتائب” وهي من أبرز أغاني الانتفاضة التي ارتبطت بكتائب شهداء الأقصى، الذراع العسكري لحركة فتح، فيما لا تزال هذه الأغنية حاضرة بقوة في الذاكرة الشعبية الفلسطينية.
خلال الانتفاضة أصدر الفنان الفلسطيني علاء الجلاد مجموعة من الأغاني التي وثقت الحالة الوطنية في طولكرم، فيما كانت هذه الأغاني على شكل مرثيات للشهداء الذين ارتقوا، وعلى رأسهم الشهيد رائد الكرمي.
أما حركة حماس فبات لها إنتاج فني مستقل يواكب تطورات المواجهة مع الاحتلال، وقد انطلق هذا الإنتاج من لبنان عبر فريق الوعد الذي أنتج سلسلة ألبومات بعنوان: “أطياف الاستشهاد”، ثم العديد من الأناشيد الأخرى.
وبالعودة إلى أرشيف الأغاني الوطنية في الانتفاضة الثانية، لا يمكن إغفال أغاني الفنانة الفلسطينية ميس شلش التي كان لها بالغ الأثر في تصوير الأحداث الجسيمة كاجتياح مخيم جنين عام 2002 والمجزرة المروعة التي ارتكبها الاحتلال به، وجسدت ذلك عبر ألبومها “جنين”.
بعد الانتفاضة وظهور الانقسام الفلسطيني، تفككت ظاهرة الأغنية الفلسطينية وتم تغيبها في دوامة الانقسام من جهة، وعملية كي الوعي التي طرأت من جهة أخرى، ليتم إحيائها مرةً أخرى، وذلك ما سيتم توضيحه في مادة أخرى.