سماح صالح
المشهد الأول: عندما يصبح الموت خلفية
لفتني منشور إحدى مشاهير الإنستغرام واصفة ابنها ورفاقه بـ “العصابة” تعقيبًا على صورة لاحتفالية ميلاد أحد الأصدقاء. الأطفال مجتمعون مع إشارات النصر، تتوسطهم كعكة لا بدّ أنها تعكس أحد رموز الرأسمالية الحديثة التي يتعلق بها الأطفال، وفي الخلفية تلفاز يبثّ لقناة الجزيرة الإخبارية مشاهد لعائلات في زمن الإبادة، وهناك العديد من الأعلام منها “قطر، السعودية، والبرازيل، وإسبانيا، وغيرها” ربما كانت بمناسة كأس العالم أو لأي سبب آخر.
استوقفتني الصورة خاصة بعد أن كنت قد أنهيت جولتي الصباحية في قراءة الأخبار ومتابعة العديد من الفيديوهات التوثيقية حول الانتهاكات الإسرائيلية التي ترعبني. شعرت في تلك اللحظة بتناقض كبير وجنوني يحتل حياتنا في المجتمع الفلسطيني خاصة حينما مررت على أكثر من حساب لهؤلاء المشاهير، بعدما كنت قد تشبّعت بجرعة كبيرة من الأخبار.
كنت أتابع بغضب أولئك المشاهير، تحديدًا في ظل منشوراتهم حول الأعراس والاحتفالات، والتفاخر بشراء كماليات فارهة، ووضع الميك آب بجلسات فارغة من أي مضمون غير الترويج الاستهلاكي. هذا ليس مجرد “تناقض”، إنّه أداة احتلالية لصنع طبقة فلسطينية معزولة عن واقع شعبها وكأنها داخل فقاعة، فالصورة التي استوقفتني بتناقضاتها والتلفاز يعرض أخبار الجزيرة تعكس كيف أنّ الإبادة هي “خلفية” لحياتنا وليست هي مركزها.
هذه الممارسات ما هي إلا “تطبيع يومي”، في ظل الإبادة المستمرة، وتكيّف مع العنف الإستعماري الإسرائيلي؛ على اعتبار أن القصف والاعتقالات واستباحة الأراضي هي “أحداث روتينية” أصبحت مملة لهم، بالرغم من قيام بعضهم بنشر خجول في بعض الأحيان.
أعترف أني أحاول عدم متابعة هؤلاء نظرًا لكمية الفراغ والتفاهة التي أشعر بها أثناء التصفح، ولشعوري بالغضب والاستغراب الدائم، لكن أنا كما الكثيرون وقعت بفخ العادة السيئة التي قد تزداد حدة عندما أشعر برغبة لمعرفة ما يدور في البلد، خاصة عندما أكون بعيدة، وربما قد يكون دافعي معرفة اهتمام فئة الشباب وهم طلابي في الجامعة وبهذا أعرف عالمهم وما يدور به لتسهيل تواصلي معهم.
أنا لا أتابع بنظرة بريئة أو زبونة سهلة ولكن بعين الباحث الناقد الفضولي، خاصة أنّني من الأشخاص المهتمين بالحياة اليومية والكتابة عنها في تخصصي. السوشيال ميديا هنا في واقعنا الفلسطيني ليست بريئة، بل ساحة معركة بين من يريدون الحياة كما تروق لهم، ومن يصرّون على أن الحياة نفسها يجب أن تُحرّر أولاً. في زمن الإبادة لا توجد كعكة بريئة، فكل شمعة تشعلها هذه النخبة، هي شمعة تطفئها عن عمد في وجه غزة.
في مشهد متكرر لطفل من غزة يبحث ويركض ويبكي للحصول على الطحين أو آخر يموت جوعًا، يمرّ أمامي بعده مشهد لطفل يعيش في رام الله يختار بين خمس نكهات من البوظة في ستوري والدته. شعرت وقتها بالجنون: كيف لنا أن نفعل هذا؟ وكيف يستطيعون التجاهل؟ وقتها فكرت كيف يكون شعور المتابعون من الأطفال عند مشاهدة هذه الحياوات المليئة بالصخب والبذخ.
المشهد الثاني: “بدنا نعيش”.. ولكن أي حياة هذه؟
في الوقت الذي تُعلن فيه الأونروا عن تعليق مساعدات الغذاء لمليون فلسطيني في غزة بسبب نقص التمويل، تنشر إحدى “المؤثّرات” الفلسطينيات “فيديو فعاليات عيد ميلادها” من تحضيرات وإطلالات فاخرة وعطور بأسعار خيالية. هذا ليس “نمط حياة”، بل ضربٌ من الغباء الأخلاقي.
ففي الواقع، هناك موظفون حكوميون لم يتقاضوا رواتبهم منذ فترة طويلة وأغلبهم لا يعرف كيف يشتري الطعام لعائلته، أما “هي” فتنفق مبالغ مهولة على حفلتها وديكوراتها وكعكة عيد ميلادها. الكثير من التعليقات التي تظهر على هذه البوستات من المتابعين، وعادة ما تُحذف بسرعة، مثل “إنتِ عايشة معانا ولا في دبي؟”، هذه التعليقات لها معنى كبير يعكس الفجوة الاقتصادية والمجتمعية والأخلاقية في زمن الإبادة.
في أحيان أخرى قد تردّ وتحاول تبرير الحفلات بالقول “بدنا نعيش”، أو “تفكروش فرحتنا كاملة احنا أكيد بنفكر في أهلنا بغزة”. الفكرة هي أنّك تستطيعين أن تعيشي كما شئتِ، لكن دون هذا الصخب والتباهي عبر منصاتكم المختلفة في أوقات يكون البعض فيها لا يجد قوت يومه.
تناقضات كبيرة تظهر في هذا العصر المجنون والمجرم من الإبادة ومن الاستباحة لكل مجالات الحياة، كما يفعل هؤلاء وحتى يمارسونه، ففي عرض “الستوريات” ويومياتهم تقوم إحداهن بمشاركة خبر وصورة لاستشهاد عائلة بكاملها، وتتلوها بإعلان لنوع من العطور التي تقوم بالترويج له أو لأي منتج آخر؛ يشعرني نشرها لهذه الأخبار والصور من الواقع الحقيقي كأنها تقوم بالتكفير ولتقول لنا بطريقة غير مباشرة “اغتسلت من ذنبي بصورة لشهيد أو لطفل يعاني من المجاعة، من ثمَّ بإمكاني أن أمارس حياتي بشكل عادي”.
ربما يحاول المشاهير إيصال رسالة ضمنية لنا بأنهم يحبّون فلسطين وينتمون لها، لكن ليس على حساب أناقتهم واحتفالاتهم وشكلياتهم وجيوبهم.
كيف يصبح الثراء خيانة؟
تتباهى إحداهن بمشاركة مجموعة من الحقائب متنوعة الماركات باهظة الثمن والمقاطعة أصلًا التي قامت بشرائها مؤخرًا. بدافع الفضول، قمت بالبحث عن سعر الحقيبة التي كانت من ماركة “لويس فويتون” التي يبلغ متوسط أسعارها ما يقارب (3,500$) الذي يُعادل راتب موظف حكومي عادي لـ7 أشهر متتالية. بينما كانت أخرى تشارك حفل زفافها وتحضيراتها له في تكلفة تتجاوز (50,000$) وهذا قد يعادل إعادة بناء منزلين مدمرين في غزة.
لنتخيل مشاعر المشاهدين وردود أفعالهم، البعض قد ينتابه الشعور بعدم الرضى عن حياته مقارنة مع مشاهدة نمط الحياة الذي يبثّونه لنا والمليء بالحفلات والسفر والتسوق والرفاهية. فهل يفكر هؤلاء من هُم مشاهديهم وما هي مشاعرهم؟ أم أن هذا لا يعنيهم، وجُلّ ما يسعون له هو فقط الحصول على عدد من المشاهدات والشهرة من أجل فرص إعلانية جديدة؟
لو فكّرنا بالموظف المتابع مثلًا، الذي لم يتلق راتبه منذ فترة طويلة من الزمن وعليه التزامات مادية بالكاد يستطيع الاستجابة لها، قد يشعر بالفشل نتيجة فقره وعدم قدرته على تحسين حياته ولا يفكر أنه بسبب سياسات الاحتلال في التعامل مع المقاصة والتقييدات المالية المختلفة المفروضة على المواطن الفلسطيني، وبالتالي يقع في دائرة اللوم الذاتي والشعور بعدم الفائدة لكل ما يقوم به. أما تلك الفتاة التي اصبحت تكره حياتها لأنها لا تستطيع الحصول على نفس نموذج الحياة الباذخة ولديها شعور دائم بالنقص وبالغضب والحقد على محيطها لعدم مقدرتهم على توفير هذه الكماليات والرفاهية لها.
هل يعرف هؤلاء أن 68٪ من متابعيهم هم من فئة الشباب والمراهقين، وأشخاص أعمارهم تحت ال ٢٥ عامًا، وهذا الجيل هو المعرّض للتأثّر بنمط هذه الحياة وتكوين هويته وطموحاته.
نتيجة لهذه المشاهد المكررة وفكرة أن السوشيال ميديا والمتابعين يجعلون منك إنسانًا آخر يعيش في هذا العالم الخيالي، أصبح العديد يحاول أن يكون ضمن فئة المشاهير في إنتاج غباء تطوعي والتركيز على تفاهات الأمور كإستراتيجية للهروب من الفقر ومن مواجهة الواقع السياسي المؤلم.
إنّ الضحك القسري أو نشر الفوضى هو محاولة يائسة للسيطرة على حياتهم، فعندما يعجز الشخص عن تغيير واقعه (بطالة، احتلال، فقر) يختزل فكرة نجاحه في إثبات وجوده بأي طريقة ممكن حتى لو بالسخافة.
بحسب دراسة معهد أكسفورد للإنترنت (2023)، فإن أقل من 4% من المؤثرين عالمياً يحقّقون دخلاً يتجاوز خط الفقر المحلي (Oxford Internet Institute, 2023). الوضع في فلسطين ليس مختلفًا، فبحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (2023)، فإن أقل من 5% من العاملين في المجال الرقمي يحقّقون دخلاً ثابتًا، بينما يعتمد 82% على وظائف تقليدية كمصدر دخل أساسي.
النظام الرقمي مصمّم خصيصاً لإبقاء الغالبية في دوامة الفقر، حيث تُستنزف طاقات الشباب في إنتاج محتوى تافه، بينما تستفيد المنصّات وحدها من عائدات الإعلانات. المفارقة الأكثر قسوة أن هذه “الفرص الوهمية” تزيد الفقر عُمقًا: فبدل البحث عن عمل حقيقي أو تطوير مهارات ملموسة، يعلق الشباب في سباق محموم خلف سراب الشهرة، الذي لا يلبث أن يتبدّد مع أول أزمة منصات أو تغيير في الخوارزميات.
وهكذا تتحول السوشيال ميديا من أداة تحرّر محتملة إلى سجن رقمي جديد، تُكرّس التبعية الاقتصادية تحت غطاء زائف من “ريادة الأعمال الإبداعية”.
الختام
لا تتوقعوا مني أن أقدم وصفات جاهزة أو حلولًا سريعة. السؤال الحقيقي هنا ليس: هل نغضب؟ بل: ماذا نفعل بهذا الغضب؟ ما نراه ليس مجرد تناقض، بل تطبيع ناعم مع الانهيار في قوام مجتمعنا الفلسطيني. المحتوى السطحي والتفاخر الاستهلاكي ليس بريئًا، بل يخدم منظومة تسعى لتحويل شبابنا إلى مستهلكين صاخبين بدل أن يكونوا مبدعين منتجين. لكن البديل ليس الصمت، بل تنظيم الغضب وتحويله إلى فعل.
يمكننا البدء بـ “حملات مقاطعة ذكية”، ودعم المؤثرين الذين يروّجون لعدالة القضية الفلسطينية، أو أولئك الذين يعملون على مشاريع مجتمعية حقيقية. هؤلاء يحتاجون للدعم، وربما للتدريب في مهارات الترويج والتواصل الرقمي، وهنا يأتي دور المؤسسات الإعلامية والمجتمعية في تبنيهم وتمكينهم.
ليست المسافة بين غزة ورام الله هي ما يُفجع، بل المسافة بين ضمائرنا وأفعالنا. في اللحظة التي تصبح فيها دماء الأطفال خلفية لصور السلفي، وأنين الأمهات مجرّد ضجيج تغطية موسيقى الحفلات، نُدرك أن الاحتلال الأخطر ليس فقط من يسرق الأرض، بل من يسرق الروح.
لن ننتظر النصر ليصنع عدالته. المقاومة الأصعب اليوم هي أن نرفض أن نكون شموعًا تُضاء لكعكة، بينما غزة تحترق، والتاريخ لن يحاسبنا على عدد اللايكات أو المشاهدات، بل على عدد المرّات التي وقفنا فيها في وجه الظلم والجنون والتفاهة… وصمدنا.