loading

السحر الأسود على الشاشات: كيف تحوَّل “التحليل السياسي” إلى سلاح لتشويش الوعي في زمن غزة

عبد الله زماري

يغطي الدخان والدمار قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، من بين الدخان والدمار ظهرت على شاشات الفضائيات ومنصات التواصل الإجتماعيّ، جحافل جديدة من “المحللين السياسيين”. يطلون علينا بوجوه واثقة، ويتم تقديمهم بألقاب براقة، وخطاب سلس يَعدُ بفك شيفرة الأحداث، والتنبؤ بالقادم، لكنْ، تحت وهج الأضواء، ووراء طوفان الكلمات، تكمن كارثة حقيقية: “الشعوذة السياسية”، آفة العصر التي تستنزف وعي الجمهور وتُشوِّه إدراكه لواقع معاناة شعب بأكمله.

ما هي “الشعوذة السياسية”؟

هي ظاهرة تزايدت كالنار في الهشيم خلال السنتين الأخيرتين، خاصة مع تصاعد وتيرة العدوان على غزة، وتتمثل الظاهرة، في انفجار عدد “الخبراء” و”المحللين” غير المؤهلين علمياً أو مهنياً بما يكفي، والذين يغرقون الفضاء الإعلامي بكمٍّ هائل من التفسيرات المتناقضة، والنظريات المؤامراتية، والتنبؤات، والتحليلات السطحية القائمة على الانطباعات والأجندات، لا على الوقائع والمعلومات الموثوقة، وهو ما قاد ليس للإيضاح، بل للإرباك والاستقطاب والتضليل – أحياناً بقصد، وأحياناً بدافع البحث عن الشهرة أو المصلحة.

أحداث غزة: ساحة العرض الرئيسية

في سياق عدوان الإحتلال الوحشي على غزة، تصل خطورة هذه الظاهرة إلى ذروتها:

1.  تشويه معنى المقاومة والاحتلال: يظهر “عرّافي التحليل” ليُدخلوا الجمهور في متاهات النقاش حول “مشروعية” دفاع شعب مُحاصر عن نفسه، أو “حكمة” رد فعل مقاومة تحت القصف، وكأن ثمة معادلة أخلاقية أو قانونية بين الجلاد والضحية. هذا التشويش يُساهم، ولو بشكل غير مباشر، أحياناً، في تطبيع جرائم الاحتلال.

2. التركيز على التكتيكات وإغفال الجوهر: يغرق المحللون الجمهور في تفاصيل معارك افتراضية، وتوقعات عن صواريخ وعبوات، وقراءات لنوايا الزعماء، متناسين الجوهر: إبادة جماعية، تدمير منهجي، مجاعة مُحقّقَة، وانتهاك صارخ لكل مواثيق الإنسانية، يُحوِّلون المأساة إلى “لعبة استراتيجية” على الشاشة.

3.  صناعة الأوهام والوعود الكاذبة: تنتشر تحليلات تتنبأ “بانتصار قريب” أو “تدخلات خارقة” أو “صفقات مفاجئة”، تُلهب المشاعر وتُطفئ جذوة الغضب الفاعل، وتُغري الجمهور بالانتظار السلبي بدلاً من المطالبة بفعل حقيقي أو مساءلة حكوماته، كما حولت بعض التحليلات التعاطف الإنساني عبر العالم وكأنه هدف وإنجاز، في حين ما يحتاجه الشعب الفلسطيني حقيقةً هو تأييد عالمي لحقوقه السياسية بإنهاء الإحتلال واقامة دولته المستقلة وتقرير مصيره.

4.  التضليل الممنهج والتبرير المقنَّع: يظهر من يلوون الحقائق لتبرير التردد الدولي، أو يختلقون سرديات لتبرير صمت الصامتين، أو يروجون لروايات تخدم الرواية الإسرائيلية تحت غطاء “الموضوعية” و”رؤية الطرفين” في مواجهة بين ظالم ومظلوم.

5.  الاستنزاف العاطفي والمعرفي: طوفان الآراء المتضاربة والمعلومات (المُختلطة بالكثير من الأُمنيات والغيبيات) يُسبب إرهاقاً معرفياً وإحباطاً عاطفياً للجمهور، يُشعر المشاهد بالعجز والارتباك، فينسحب من متابعة الحدث الجوهري أو يفقد القدرة على تمييز الحقيقة، وهذا بالضبط ما تريده آلة التضليل الصهيونية وحلفاؤها.

لماذا هذا “السحر” خطير؟

لأنه لا يقتصر على تشويش الصورة فحسب، بل يُشوِّه الوعي الجماعي للجماهير، بمختلف أرجاء الوطن العربي، كما   يُضعف التضامن الفاعل، بأن يحوّل التعاطف مع غزة من دافع للضغط السياسي، إلى تركيز على العمل الإغاثي، ومتابعة سلبية للصراعات اللفظية على الشاشات.

   تُقوّض هذه الشعوذة، الثقة في الإعلام ككل: عندما يختلط العمق بالسطحية، والفكر الجاد بالإستعراض، تفقد الوسائل الإعلامية مصداقيتها، حتى تلك التي قد تكون فعلاً، تقدم تغطية مهنية.

   وأخيرًا، يُسهِّل التلاعب بالرأي العام، فالجمهور المُشتت والمُربَك أسهل اختراقاً وتوجيهاً لخدمة أجندات سياسية معينة، أو حتى لتقبل رواية الإحتلال، عبر هذه المنصة أو تلك.

كيف نكسر التعويذة؟

هناك إجراءات أساسية، تقوم بها أيها المواطن الجمهور، من أبرزها:

1.  التشكيك الدائم: لا تُسلّم بصحة أي تحليل لمجرد ظهور صاحبه على شاشة فضائية أو حصوله على آلاف المتابعين.

 اسأل: ما هي مصادر معلوماته؟ ما هي خبرته المثبتة؟ هل له أجندة واضحة؟

2.  التمسك بالثوابت: الاحتلال ظلم، العدوان على الشعب الفلسطيني جريمة، حق الدفاع عن النفس مقدس، لا تسمح للشعوذة اللفظية أن تُزحزح هذه الحقائق الراسخة.

3.  الأولوية للوقائع لا للتكهنات: ركز على ما يحدث على الأرض، أعداد الشهداء، الخسائر وصور الدمار، شهادات الناجين، تقارير المنظمات الحقوقية الدولية (هيومن رايتس ووتش، منظمة العفو، الأمم المتحدة، والمنظمات الفلسطينية المتخصصة)، هذه هي اللغة التي لا تحتاج إلى “تحليل” ملتوٍ، أو فزلكات وتفخيمات كلامية.

4.  دعم الإعلام المهني: إبحث عن وسائل الإعلام والمراسلين والمحللين المعروفين بدقتهم ونزاهتهم وتركيزهم على نقل المعاناة الإنسانية والانتهاكات، وليس على التكهنات السياسية غير المبنية على الوقائع الصلبة، إبتعد عن الإحالة إلى الغيبيات، وترجمة الأمنيات إلى خطط، ونتائج كلامية.

5.  المحاسبة والمطالبة بالمساءلة: على المؤسسات الإعلامية أن تتحمل مسؤوليتها في فرز الغث من السمين، ووضع معايير واضحة لمن يظهر على شاشاتها كمحلل، ووقف استضافة من يروجون للأكاذيب أو يضللون الرأي العام تحت ستار الخبرة غير المتحققة، ومن ضمن المساءلة والمحاسبة عليك أن تحافظ على وعيك تحت سيطرتك، بالابتعاد ومقاطعة المنصات والشاشات التي تحاول تهكير وعيك لصالح “سياساتها التحريرية”.

في النهاية، وفي زمن غزة، حيث يُسفك الدم الفلسطينيّ على مدار الساعة، والجرائم تُرتكب في وضح النهار، وأمام عدسات الكاميرات، موثقة بالصوت والصورة وأحياناً على البث المباشر، لم يعد لدينا رفاهية الاستماع إلى “سحرة التحليل ومشعوذيه”، فشعوذتهم ليست ترفاً فكرياً، بل سلاحاً في حرب الوعي التي تخوضها آلة الإحتلال وأدواتها لتبرير جرائمها وإسكات صرخات الضحايا، وعينا الجماعي هو خط دفاعنا الأول، لنجتهد في حمايتهِ من التزييف والتهكير، لنرفض أن يكون مشهد غزة مجرد “مادة دسمة” لاستعراضات المحللين. 

الحق واضح كالشمس، ومعاناة أهل غزة واقع ملموس لا يحتاج إلى من يحلله بقدر ما يحتاج إلى من يُنقذه ويُدافع عنه، فلنُغمِض إذن أعيننا، ونصُمّ أذاننا عن ضجيج الشعوذة وغبارها، ونفتح قلوبنا وعقولنا على صرخات الحق وأناته القادمة من تحت الأنقاض.

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة