loading

غزة ما بعد “أكتوبر”..دمار ثقافي هائل وادب الحرب يوثق

جيفارا سمارة

“كنت أكتب لأنجو…في الخيمة لا تدري أيّ موت ينتظرك ولا من أين سيأتيك..فربما ما تخطه الان هو آخر كلمة لك في الدنيا، تكتب عن نفسك وعن كل غزّي يعيش جحيم الإبادة”، كلمات وصف بها الكاتب ووزير الثقافة السابق د. عاطف أبو سيف حال المثقف الغزّي.

الجحيم في غزة تضاعف منذ أن غادرها أبو سيف في مارس 2024، حتى صار لكل غزي في القطاع جحيمه الخاص.. مفقودون بعشرات الآلآف، شهداء وجرحى بمئات الآلآف، مدن وبلدات كاملة انطفأت أضواؤها، فلا شيء في الأفق إلا بحر من ركام مما كانت منازل ومستشفيات ومراكز إيواء ومؤسسات دولية، الكل مشرد ومعطش..الجحيم تحور ليتجاوز المكان، صار زمنًا يقاس بعدد الأيام التي تناول فيه الغزي آخر كسرة خبز، فأصبح الجوع وحشًا يعذب الأطفال حتى الأموات، ويقتل الإباء والامهات جوعا وحسرة.

العدوان على غزة نكبة توازي أو تفوق نكبة عام 1948، نكبة وثّق أبناؤها جحيمها من أمثال غسان كنفاني، أحد أبرز من كتب عن اللجوء والمخيم، ومحمود درويش الذي صوّر الوطن والمنفى والذاكرة الجمعية، وسميح القاسم شاعر المقاومة، وإميل حبيبي صاحب الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، وتوفيق زيّاد الشاعر والسياسي الذي جمع بين العمل الوطني والأدب، وفدوى طوقان التي مثّلت صوت المرأة الفلسطينية في الوطن والمنفى، ومريد البرغوثي صاحب رأيت رام الله. أسماء كثيرة وثّقت النكبة شعرًا وأدبًا وفنًا ورواية ومسرحًا، فعرف العالم النكبة منهم، وعرفوا هم بها.

وإن كانت تجربة النكبة توازي أو تزيد أو تقل عن الإبادة الجارية في غزة بحق الإنسان هناك، فإن لها ذات التبعات التي كانت عقب عام 1948 من أدب النكبة واللجوء والمقاومة، فلغزة ما بعد أكتوبر أدب الحرب وأدب اليوميات.

 ومن أبرز هذه التجارب كتاب إياد أبو سيف وقت مستقطع للنجاة (2024)، الذي تُرجم إلى 16 لغة، ويوثّق يومياته خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عدوان غزة، متنقلاً من الشمال إلى رفح مع ابنه، حيث سجّل تفاصيل القصف، والفقد، والجوع، والبرد، لتكون شهادة تاريخية وإنسانية عن الحياة تحت الإبادة، وقد نُشرت نصوصه في كبريات الصحف العالمية.

أبو سيف: الثقافة والإعلام عرتا بشاعة الاحتلال

يقول أبو سيف لـ”بالغراف”: “الحرب، بلا أدنى شك، أزالت كل مقومات البنية التحتية الثقافية؛ من مسارح ومكتبات ودور عرض وسينما، بعضها يفوق عمره عمر كيان الاحتلال.

 لكن جوهر هذا الصراع، من الناحية الثقافية، يكمن في الرواية والسردية، وهو ما أبدع فيه الصحفيون والفنانون والأدباء والشعراء، والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، فكل ما نشهده اليوم من حراك عالمي مناهض للاحتلال وجرائمه، هو ثمرة جهودهم وتضحياتهم.”

ويضيف: “أنا، كأحد أبناء غزة، أؤكد على ضرورة عدم تأجيل إعمار هذه البنية الثقافية، لما أثبتته من دور محوري في الصراع مع الاحتلال، وهو ما يتضح من اهتمام وطني فلسطيني، مدني ورسمي، وحتى دولي، في هذا المجال.”

ويشير أبو سيف إلى أن “كل هذه المعاناة ستنعكس أدبًا وشعرًا وفنًا عالي القيمة، يفضح ويوثق الأهوال التي تعرض لها شعبنا من إبادة وقتل وتشريد وتجويع، في واحدة من أبشع الجرائم التي شهدتها البشرية.”

من رحم المعاناة برزت الثقافة لتقاوم وتوثق

يقول عضو الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والأدباء، الشاعر عبد السلام العطاري، لـ”بالغراف”: “أصبح العمل الصحفي والثقافي، يلعب اليوم دورًا أساسيًا في توثيق هذه الإبادة والجرائم ضد الإنسانية. ورغم أن المتعارف عليه أن أدب الحرب يزدهر بعد انتهائها بسنوات، فإن غزة اليوم تمثل استثناءً، إذ شكلت المآسي والمجازر مادة غنية للكتابة والعمل الصحفي، وحتى لمحتوى وسائل التواصل الاجتماعي.”

ويضيف: “حجم الأهوال دفع إلى بروز حوافز الكتابة اليومية للتوثيق، وهي إسهامات أجّجت الرأي العام العالمي، بأقل الإمكانات؛ من أعمال فنية بكاميرات هواتف ذكية بسيطة، لجنود يعملون خلف الخطوط بالقلم وعدسات التوثيق. وكان أول هؤلاء الجنود الشاعر عمر أبو شاويش، أول شهداء الحركة الثقافية.”

ويتابع العطاري: “أصبحت غزة اليوم تفيض بأعمال أدبية توثق، من بينها أعمال نعمة حسن، وناصر رباح، ويوسف القدوة، وفايز أبو عون، وشجاع الصفدي، وجواد العقاد، ومحمد بسيسو، ومصطفى درويش، وغيرهم كثير.”

الغول: صمود المثقفين ودعمهم هو السبيل للحفاظ على الرواية والسردية الوطنية

يشير الروائي يسري الغول إلى أن الفلسطينيين بنوا منظومة ثقافية واسعة صمدت رغم ظروف الاحتلال، مركّزين على التراث الفني والأدبي عبر الأجيال، لتصبح رسالة ثقافية توحد الفنون والآداب، مؤكدًا أن الاحتلال يستهدف النخب الفلسطينية من الأدباء والفنانين والصحفيين، بغضّ النظر عن أعمارهم، بهدف تغييبهم وإبادة الثقافة، إضافة إلى استهداف المباني التاريخية والمتاحف والمساجد والكنائس والنصب التذكارية والحدائق العامة، لضرب الهوية الفلسطينية وإلغاء ذاكرة الأجيال القادمة.

ويلفت الغول إلى أن الاحتلال لم يقتصر على استهداف الأشخاص، بل عمد إلى تدمير المكتبات العامة والخاصة، دور النشر، المطابع، ومراكز الثقافة والفنون، بما يضمن منع أي نشاط ثقافي مستقبلي، محاولاً محو التاريخ وإعادة كتابة الواقع الفلسطيني وفق رؤيته الاستعمارية. ويؤكد أن هذا التدمير الشامل للهوية الثقافية يشكل تهديدًا مباشرًا لوجود الأمة، ويكشف عن عقلية دولة تسعى لإبادة الذاكرة الوطنية والهوية الفلسطينية.

وفي سياق مواجهة هذه الحرب الثقافية، يقول الغول: “إن الثقافة الفلسطينية هي الجين الوراثي للهوية الوطنية، وأن صمود المثقفين ودعمهم مادياً ومعنوياً هو السبيل للحفاظ على الرواية والسردية الوطنية، فالعمل الجمعي والمؤسسي، عبر الجمعيات والنقابات والمؤسسات الرسمية والأهلية، يمثل الدرع الذي يصد محاولات الاحتلال لتدمير الحاضر وإبادة المستقبل، مؤكدين أن الثقافة هي المقاومة الحقيقية والجوهر الذي يبقي فلسطين حية في ذاكرة شعبها والعالم”.

واستشهد على الاقل 47 من الكتاب والفنانين، منهم الشاعر سليم النفار، والفنانة إيناس السقا، والفنان محمد الكحلوت، والكاتب عبد الرحمن حجاج. 

فيما أكد مكتب الاعلام الحكومي في غزة تدمير أكثر من 200 موقع ثقافي وتراثي وأثري عمرها أطول من عمر الاحتلال بقرون وعقود ممتدة، بعضها يعود لقبل 1400 عام و800 عام، وهي إحصائية قبل عام، أي ان الرقم قد يكون اعلى بكثير، بما في ذلك مسرح رشاد الشوا، ومسرح هولست، وقرية الفنون والحرف، والاتحاد العام للمراكز الثقافية، ومتحف قصر الباشا، ومتحف البادية، ومتحف العقاد، ومتحف مدينة خانيونس، حيث تقدر وزارة الثقافة الفلسطينية أن مجمل خسائر القطاع الثقافي خلال العدوان الأخير على قطاع غزة بلغت 3.4 مليون دولار، وفقًا للتقديرات الأولية.

كما تم تدمير العديد من المواقع التراثية والتاريخية، بما في ذلك متحف القرارة الثقافي، الذي كان يحتوي على أكثر من 3500 قطعة أثرية وتاريخية. تم تدمير المتحف بشكل كامل، بما في ذلك هيكله وأثاره. 

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة


جميع حقوق النشر محفوظة - بالغراف © 2025

الرئيسيةقصةجريدةتلفزيوناذاعةحكي مدني