جيفارا سمارة
يستوطن الضفة قرابة 800 ألف متطرف، يُعرّف معظمهم عن نفسه بأنه يهودي متديّن، يستند في شريعته وعلاقاته مع محيطه الذي يستعمره إلى نصوص توراتية وردت بالتحديد في سفر التثنية (20:16-17): “وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب، إلهك نصيباً فلا تستبقِ منها نسمة، بل تحرمها تحريماً” (والتحريم هنا يعني الإبادة أو الإهلاك التام)، وسفر صموئيل الأول (15:3): “فالآن اذهب واضرب عماليق، وحَرِّموا (أهلكوا) كل ما له، ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً”.
اقتباسات أعاد رأس الهرم السياسي في الكيان (نتنياهو، والذي تعني ترجمة اسمه “عطاء الله”) التأكيد عليها ليلة 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ قال: “سنحقق نبوءة إشعياء، سنكون سبباً في تحريم شعبكم، وسنحقق النصر”.
انتهى كلام نتنياهو الذي يرى نفسه “عطاء الله” في النبوءة (إشعياء 9:6): “يولد لنا ولد، وتكون الرياسة على كتفه…”، حيث يتكرر وعد الله بعطاء خاص هو المسيا (المخلِّص)، الذي سيكون عطاءً إلهياً ليقيم العدل وينهي الظلم.
مواقف وتصريحات استندت جنوب أفريقيا إليها دليلاً على نية الكيان ارتكاب الإبادة الجماعية، وذلك في الدعوى القضائية التي قدّمتها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتاريخ 29 كانون الأول/ديسمبر 2023، مواقف شملت معظم الطاقم الرسمي للكيان، أبرزها ما كشفته حديثاً شارون هاليفي زوجة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق هرتسي هاليفي، خلال مقابلة “بودكاست”، إذ قالت إن زوجها الذي وصفته بـ”المتديّن” كان يحرص على أخذ “التيفيلين” (تمائم أو لفافة صغيرة مكتوب عليها آيات من التوراة) ويرتديها في المهمات الخطرة.
لكن أخطر ما قالته زوجة رئيس الأركان، أنه قال لها في الساعات الأولى من صباح 7 أكتوبر: “ستُدمَّر غزة”. وهو ما يعكس خطة مدبَّرة مسبقاً وضعها الكيان لمجازر الإبادة في القطاع، متذرعاً بـ”طوفان الأقصى” لتنفيذها.
ذرائع لم تكن بعيدة عما جرى في قرية المغير المستهدفة بمشاريع استيطان هدفها الأساس تهجير مواطنيها. ففي صبيحة 20 آب/أغسطس الجاري، هاجم أحد المستوطنين -الذين يواصلون اقتحام القرية بشكل شبه يومي- أحد مواطنيها، ودار بينهما عراك، هرب على إثره المستوطن فانقلبت مركبته الصغيرة، ما تسبب له بجروح طفيفة، لتتحول لاحقاً الرواية الإسرائيلية إلى أن المواطن هاجم المستوطن بمسدس ثم انسحب من المكان.
وكغزة تماماً، خرجت الخطط المسبقة المرسومة للقرية، وكان أول من كشف النقاب عنها المستوطن الإرهابي “الحنان غارنر”، حيث ظهر في فيديوهات معلناً أن المغير ستُحاصر وتُجرف أراضيها وتُدمَّر مزارعها، وأن هذا سيكون مجرد البداية، وأن الجيش والمستوطنين سيفعلون بالقرية ما فُعِلَ في غزة.
إذ بدأ المستوطنون المتديّنون هجومهم مستندين إلى النصوص التوراتية كحال مسؤوليهم، فوجدوا شرقي القرية أتاناً (أنثى الحمار) مع صغيرها، فأطلقوا النار على الأتان وقتلوها، وطعنوا صغيرها بسكين في رقبته (سفر صموئيل الأول 15:3).
وقال رئيس المجلس القروي أمين أبو عليا لـ”بالغراف” قائلاً: “على مدى 3 أيام من الحصار المطبق، مُنع خلالها دخول أي طواقم صحفية أو طبية، ما دفع مواطنة كانت تعاني آلام المخاض إلى مغادرة القرية مشياً على الأقدام لمسافات طويلة خارج القرية، كما أغلقوا المخبز والدكاكين والصيدلية ومنعوا التجوال، وعملت جرافات الاحتلال والمستوطنين على تجريف مساحات واسعة، واقتلعوا ما يقرب من 10 آلاف شجرة، معظمها من الزيتون، بينها أشجار يتجاوز عمرها 100 عام. واعتقلوا 14 مواطناً واعتدوا بالضرب المبرح على العديد من أهالي القرية”.
وأضاف: “استولوا على مركبات قانونية وغير قانونية بعد أن كسروا كثيراً منها، وأجبروا أصحابها على دفع 600 شيقل مقابل استعادتها، في أعمال قرصنة حقيقية، فيما تمت مصادرة المركبات غير القانونية بالكامل، كما سرق الجنود أموالاً ومصاغات ذهبية، وعندما علموا أن النساء يخبئن الذهب والمال في ملابسهن، جلبوا مجندات للتأكد من سرقة كل شيء”.
لكن أخطر ما كشف عنه أبو عليا أن جرافات الاحتلال، التي واصلت عملها بعد أيام الحصار الثلاثة، رسمت حدوداً جديدة للقرية على شكل طرق استيطانية، قلصت بموجبها مساحة القرية من 43 ألف دونم إلى 950 دونماً فقط.
كلام أكده مدير عام التوثيق والنشر في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، أمير داوود، لـ”بالغراف”، قائلاً: “إنه يأتي في إطار مخطط استيطاني قديم يتعلق بالقرى الواقعة غرب شارع “ألون”، وللمغير تحديداً خصوصية أن معظم أراضيها تقع شرق الشارع، ومنذ عام 1967 والاحتلال يتحيّن الفرصة لتفريغ شرق الشارع، ومع هذه المجازر والمعمعة القائمة، شكّلت الفرصة الذهبية لفعل ذلك، وحصر الوجود الفلسطيني غرب الشارع، وكأن الشارع هو آخر نقطة لأي وجود فلسطيني لمنع دخول هذه الأرض وفلاحتها”.
وسُمّي الشارع نسبة إلى الجنرال الإسرائيلي يغئال ألون الذي وضع خطة “ألون” للاستيطان في الضفة. يُستخدم الشارع أساساً لخدمة المستوطنات وربطها ببعض، ويمتد من شمال شرق رام الله مرورًا بالأغوار، ويخترق أراضٍ واسعة بهدف السيطرة على شريط الأغوار وإقامة مستوطنات/مواقع عسكرية فيه باعتباره “حزاماً أمنياً”، يُظهِر حدوداً فاصلة بين الضفة الشرقية (الأردن) والمناطق الفلسطينية على المنحدرات الغربية، كمنطقة عازلة ذات طابع “أمني” واستيطاني.
وتستند حركة الاستيطان في العقلية الصهيونية إلى المساهمة في تعزيز القدرات الدفاعية، كون معظم المستوطنات تقع على التلال وتشرف على الطرق المؤدية إلى عمق الكيان، ضمن خطوات متسارعة شهدتها الضفة خلال العامين الماضيين، بعد إلغاء صلاحيات “الإدارة المدنية” بشكل شبه كامل، وإنشاء مديرية تسوية الأراضي، وتحويل تصاريح البناء في المستوطنات إلى تصاريح أسبوعية، وتوسيع نطاق إنشاء المزارع الاستيطانية، وإعلان مناطق فلسطينية مختلفة كأراضي دولة، كما يفترض أن تحل عقبة يواجهها المستوطنون في طريق توسيع المستوطنات والبؤر، وهي قضية “الأراضي الفلسطينية الخاصة” التي أثبت أصحابها ملكيتهم لها منذ عهد الحكم الأردني في المحاكم الإسرائيلية، ومنعوا مشاريع التوسع الاستيطاني عليها.
ووفق المحامي الفلسطيني صلاح موسى، توجد فوارق بين “السيادة” و”الضم” و”فرض القانون الإسرائيلي”. وقال في تصريحات سابقة: “إن فرض القانون الإسرائيلي على مستوطني الضفة يعني خضوعهم للقوانين المدنية الإسرائيلية، وخروجهم من تحت سلطة الحاكم العسكري ووزير جيش الاحتلال، وهو أمر مخالف للقوانين الدولية كون المستوطنات مقامة على أرض محتلة”.
وتابع: “الضم دائماً يكون لأراضٍ احتُلّت عسكرياً، والمنطقة (ج) تحديداً فإن إعلان الضم قرار سياسي يحتاج لأن يتحول إلى قرار قانوني، وهذا يتم من خلال السلطة التشريعية “الكنيست”، التي صادقت عليه بالفعل ليلة الأربعاء 23 تموز/يوليو 2025 بالقراءة الاولى، ما ينتج عنه فرض للسيادة، وانهيار السلطة الفلسطينية وخضوع أكثر من 3 ملايين فلسطيني في الضفة لحكم مباشر لما يسمى بـ”الإدارة المدنية” (برئاسة سموتريتش)، ويصبح فلسطينيو الضفة سكاناً (وليس مواطنين) بلا حقوق، ولا يحق لهم حتى التنقل بحرية من مدينة إلى أخرى من دون تصاريح أمنية من جيش الاحتلال”.
وبتاريخ 28 حزيران/يونيو 2024، وفي سياق إعادة السيطرة على المناطق المصنفة “ب”، قررت حكومة الاحتلال سحب صلاحيات الإنفاذ من السلطة الفلسطينية ومنح “الإدارة المدنية” تخويلاً ببدء “الإنفاذ” في ما يتعلق بالبناء الفلسطيني في كل المناطق “ب”.
وبلغة الأرقام، فإن ضم مناطق “ب” و”ج” للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، يعني أن ما تبقى من مناطق “صلاحيات” للسلطة في الضفة هي مناطق “أ” التي تمثل حوالي 18% من إجمالي مساحة الضفة، أي أن ما تبقى للفلسطينيين من إجمالي مساحة فلسطين التاريخية ينحصر في 3.7% فقط، خاصة مع إعادة احتلال قطاع غزة وتدميره.
وكشفت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان عن تحويل ممنهج لمجموعة من البؤر الاستعمارية الكبيرة حول مستعمرة “عيلي” المقامة على أراضي المواطنين في قرى الساوية واللبن وقريوت المجاورة لقرية المغير، إلى أحياء كبيرة تتبع المستعمرة.
وقد صادقت حكومة الاحتلال مؤخراً على مخططات هيكلية ضخمة لتوسيع مستعمرة عيلي لاستكمال مخططات فصل وسط الضفة عن شمالها، عبر التكتل الاستعماري الممتد بين مستعمرتي شيلو وعيلي والبؤر المحيطة بهما، في المنطقة الفاصلة بين محافظتي رام الله ونابلس. وذلك عبر حزام استيطاني يرتبط شرقاً بمستوطنات الأغوار الشمالية، وغرباً عند حاجز زعترة جنوبي نابلس وصولاً إلى مستوطنة “أريئيل” الملاصقة لكفر قاسم داخل الخط الأخضر.
أما الكانتون الجنوبي، فيمتد من قرية بيت سيرا جنوب غرب رام الله، الملاصقة للخط الأخضر، عبر شارع 443 (الممتد من تل أبيب – القدس، والممنوع على الفلسطينيين دخوله)، مروراً بمستوطنات القدس ومشروع “E1″، وتجمع غوش عتصيون الاستيطاني، وحتى مستوطنة “فيرد يريحو” باتجاه البحر الميت. وبذلك يتحقق فصل جنوب الضفة (الخليل وبيت لحم والقدس) عن وسطها (رام الله والبيرة وبعض قرى وبلدات محافظة القدس).
ما يتطابق أيضاً مع مخططي 20/30 و20/40 ومخطط “الجُدُر”، الذي يقضي بإقامة جدران داخل “الكانتون” الجنوبي لعزل وإخراج 180 ألف مقدسي يقطنون شعفاط وكفر عقب وغيرها، وضم 180 ألف مستوطن من المستوطنات المحيطة بالقدس المحتلة (“معاليه أدوميم” وغيرها)، بهدف تغيير التركيبة السكانية في القدس.