مجدي الشريف
لم يكن الدين عند الحديث عن المشروع الصهيوني مجرد موروث ثقافي أو تراث روحاني محفوظ في الذاكرة، بل تحول منذ البداية إلى ركيزة أساسية في بنية الاستعمار وأداة أيديولوجية تُستخدم لتعبئة الدولة وتبرير أفعالها، ومن أساطير الأرض الموعودة إلى فتاوى الحاخامات التي تشرعن الاستيطان، بقي البعد الديني خيطاً ناظماً يربط الجندي في الميدان والسياسي في الحكم والمستوطن على تلال الضفة الغربية، ولم يضعف هذا الرابط كما توقع البعض بل ازداد تماسكاً ليشكل منظومة متكاملة تداخل فيها النص المقدس مع القرار العسكري والتشريعات، فتُمنح الجرافة والرصاصة والخرائط الاستيطانية شرعية إلهية.
ومع مرور الوقت، وبعد أن أحكمت إسرائيل سطوتها على الأرض بعد عام 1967، لم يتحول الدين كما ظن البعض بل أخذ يكشف عن دوره الحقيقي بوصفه أداة استعمارية تتغلغل في مؤسسات الدولة، حيث ظهر وتشكل تحالف غير تقليدي بين الحاخام والجندي والسياسي، فلم نعد نستيطع أن نفصل بين الفتوى التي تصدر في معهد ديني استيطاني، وبين قرار عسكري في الميدان وتشريع حكومي يغطي ذلك.
وجوهر الحكاية هنا هو الاستيطان، الذي لطالما بُرر بالاعتبارات الأمنية والديمغرافية في الخطاب الرسمي، لكنه يمضي في حقيقته اليوم مكشوف النوايا كفريضة توراتية لا تقبل الجدل، والحاخامات الذي يقودون المستوطنات والدولة إن شئت ما عادوا يتحدثون بلغة القانون بل بلغة النبوءة، وأصبح الفلسطيني في نظرهم عائقاً وجودياً لا خصماً سياسياً، فيما تُعزز السيادة على الضفة الغربية أو ما يطلقون عليها يهودا والسامرة -وهي الأرض التي يسكنها شعب حي- لتشكل في تصورهم ما يشبه الفردوس الحتمي.
لقد تصاعد هذا الطرح مع صعود رموز المستوطنين إلى قلب السلطة، وفي مقدمتهم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش الذي يعلن بوضوح أن الدولة ينبغي أن تُدار وفق التوراة والهلاخاه وأن فرض الإكراه الديني ليس خياراً بعيداً بل غاية قريبة المنال، وفي خطابه، تصبح الضفة الغربية أرضاً مقدسة لا مكان فيها للتقسيم وذلك ضمن خططه لإعادة هيكلة الإدارة المدنية وتحويلها إلى أداة أيديولوجية تخضع لرؤية دينية صارمة، فتتحول الدولة إلى منفذ لمشيئة غيبية والسياسي إلى وسيط بين النص المقدس والواقع، وفي تطلعاته أي سموتريتش لا يقف الأمر هنا، بل يجتاز الحدود وصولاً إلى أبعد نقطة يمكن أن يصلها، وفي خياله ما بعد النهر والجبل والمحصلة إسرائيل الكبرى.
أما المؤسسة العسكرية، التي يُفترض بها أن تمثل نموذج الحياد السياسي والعلماني، فقد شهدت في العقدين الأخيرين تسرباً أيديولوجياً متصاعداً مع تشيكل كتائب دينية مثل نيتساح يهودا وتعميم تعليم النصوص الدينية في المعسكرات، حتى غدا الجندي تلميذاً في مدرسة الحاخام كما هو مقاتل في ساحة المعركة، وفي ظل هذا المناخ، يوطد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبضته على القرار العسكري من خلال التحكم في التعيينات المفصلية وتوجيه الموارد بما ينسجم مع المزاج الديني السائد، كما في حالة تعيين اللواء ديفيد زيني خريج المدارس الدينية على رأس جهاز الشاباك مؤخراً، حتى وهو الذي لم يكن عضواً فيه يوماً ما.
لا تقتصر هذه الخطوات على المؤسسة العسكرية بل تحلق في البنى التشريعية، وتظهر بوضوح في الجدل حول قانون الإعفاء من الخدمة العسكرية لطلاب المدارس الدينية وتمريره داخل أروقة الكنيست، حيث انحاز نتنياهو إلى شركائه الحريديين على حساب رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكينسيت يولي إدلشتاين، وذلك بهدف تثبيت بيئة سياسية تجعل الجيش يتحرك ضمن إملاءات رؤية دينية قبل أي اعتبار أمني.
وفي المشهد السياسي، تتماهى الحكومة الإسرائيلية أكثر من أي وقت مضى مع عقيدة المستوطنين، ولا يقتصر ذلك على وزراء متشددين مثل سموتريتش وإيتمار بن غفير، بل يشمل وزراء الليكون ويمين الوسط الذين يتفقون على فكرة أن السيطرة على الضفة ليست خياراً استراتيجياً فقط بل تكليفاً دينيا، ويظهر هذا جلياً في المعركة المفتوحة مع المستشارة القانونية غالي بهاراف ميارا التي واجهت حملة منظمة انتهت بإقالتها، قبل أن توقف المحكمة العليا القرار، في مشهد يعكس رغبة في إعادة تشيكل مؤسسات الدولة بما يتوافق مع التصور التوراتي الجديد.
وتأتي هذه الخطوات ضمن مسلسل متصل للسيطرة على تلك المؤسسات وتقليص دور المحكمة العليا إلى أدنى مستوى، وهذا أصلاً جوهر التعديلات القضائية التي أحدثت شرخاً عميقاً خاصة بين أولئك الذين ينتمون إلى تيار العلمانية ويدينون بها إن جاز التعبير، وبين غلاة اليمين الذين تقودهم النصوص الدينية بحذافيرها، فقد عملت المنظومة السياسة الحاكمة بجد على صياغة رؤية تسمح للسلطة التنفيذية والتشريعية التي تميل في كفتها إلى اليمين؛ بالهيمنة شبه الكاملة على مفاصل صنع القرار وحتى على السلطة القضائية، مستبدلة بذلك الضوابط المؤسسية التقليدية.
والواقع أن المتابع للشأن الإسرائيلي اليوم يرى انكشافاً كاملاً لفكرة الدولة ككيان عقلاني، فقد أضحت في خطابهم تجسيداً لأداة غيبية خُلقت لتحقيق نبوءات الكتاب المقدس، وما الأخبار الواردة من مفاصل هذه الدولة إلا تأكيد على أن هذه العقيدة لم تعد تقف عند حدود السياسات، بل تغلغلت في التعليم والإعلام والقضاء ومختلف مستويات صنع القرار، حتى أن الحاخامات أصبحوا يُستشارون في القوانين ويصدرون فتاوى القتل والحض على الاستيطان وتحريم المفاوضات.
لقد كشف هذا الاندماج بين الدين والدولة والجيش عن منظومة استعمارية أكثر تطرفاً وتماسكاً من أي وقت مضى، لا يستند الاستعمار فيها إلى القوة المادية فقط بل إلى قناعة عقائدية راسخة تؤمن بأن الأرض لا بد أن تُطهر من أصحابها كمفتاح وحيد لقدوم المخلص حسب الزعم.
وفي العرف الإسرائيلي الجديد، يُصبح الفلسطيني نقيضاً عقائدياً وتتحول كل أشكال التسويه والتعايش إلى خيانة للتوارة وتراجع عن المشروع المقدس، والحقيقة هنا أو لعلها المأساة، أن هذا النموذج لا يواجه رفضاً داخلياً جدياً بل يُعزز يوماً بعد يوم بقوة الدولة ومؤسساتها، فيشرعن عبر القوانين ويغطى بقرارات المحاكم ويروج له في المدارس والمعاهد والجامعات والإعلام الرسمي، وعلى العكس من ذلك، يُهاجم كل من يقف في طريقه بحجة أنه يعارض المهمة الإلهية السامية، فكم من مرة عملت أبواق اليمين ضد توجهات المؤسسة الأمنية والعسكرية لا لشيء، ولكن فقط لأنهم يلهثون وراء المزيد من سفك الدماء حتى يحققوا خلاصهم.
لقد حولت هذه المنظومة المتكاملة، الاحتلال إلى عبادة والمستوطنة إلى هيكل والجندي إلى كاهن، حتى غدت الجرافة أداة طقسية في مشروع عقائدي يتجاوز الدولة نفسها، وهذا إن افترضنا جدلاً أنها لا تقاد من الرب كما يتصور أرباب هذا الطرح.
وفي المحصلة، ما لم يتم الاعتراف بأن ما نشهده اليوم هو انكشاف لمشروع إسرائيلي توراتي يتجاوز منطق السياسة، فإن أي محاولة لوقفه ستصطدم بجدار العقيدة لا بجدار الفصل فقط، فمن يقاتل وفق هذه المبدأ لا يعترف بقرارات أممية ولا يلزم نفسه بقانون دولي، بل يرى في كل حجر يُرفع وفي كل سيارة تُحرق وفي كل فلسطيني يُقتل وفي كل قرية تُهدم خطوة نحو التحرير المقدس، وهذا ما يجعل الاحتلال ليس عسكرياً فحسب بل استعماراً دينياً عابراً للمنطق ومحصناً بخرافة الخلاص.