كتب د. ايهاب بسيسو
ملاحظات عن فنون العمارة والتاريخ واعتداءات الاستعمار والصمود اليومي في المسجد الأقصى …
الجنود الذين يتقنون الخراب لا يفهمون جماليات العمارة ولا يكترثون بالتاريخ وعلاقته بالحاضر وتشكلات الهوية، يمارسون طقوس التدمير المتعمد ظناً بأن التخريب يمنحهم إنجازاً إضافياً في طمس معالم الهوية أو صورة التاريخ في الحاضر المتوتر …
الجنود الذين يتقنون الخراب لديهم هوس الاقتلاع والمحو، لذا تمثل العمارة إحدى وجوه الوجود الحضاري الذي يروه تهديداً مباشراً لكينونتهم المضطربة لهذا يواصلون على الدوام محاولات بائسة مكررة في الاعتداء على الآثار المعمارية من أجل التخريب أو الهدم المستخدمًين كأدوات استعمارية لتزييف التاريخ وطمس هوية المكان الوطنية.
ولعل ما حدث مؤخراً من اعتداءات واقتحامات نفذها جنود الاحتلال في باحات المسجد الأقصى طوال شهر رمضان المبارك خلال نيسان ٢٠٢٢، والمضايقات العنصرية التي نفذها جنود الاحتلال خلال عيد الفصح المجيد أمام كنيسة القيامة، يدفع إلى تحفيز الذاكرة نحو استعادة الدور الحيوي للمكان في مواجه الاضطهاد الاستعماري الممنهج ضد الوجود والروح الفلسطينية في مدينة القدس، كما يدفع نحو المزيد من التأمل في القيم التاريخية والمعمارية التي شكلتها الحضارة الإسلامية والعربية في هوية القدس الفلسطينية المتجذرة عبر العصور.
وحيث أن العمارة صورة من صور الحضارة، تبدو العمارة الإسلامية على امتداد الأزمنة نموذجاً فريداً من عراقة التصميم والتكوين المعماري بفلسفته الانشائية المميزة والتي استوعبت أنماطاً متعددة من ثقافات وحضارات وفنون العمارة المختلفة وتوظيفها في سياق جديد اتخذ مكانته في العالم بوصفه العمارة الإسلامية.
عمارة المسجد الأقصى تمثل إحدى هذه النماذج المشرقة للتفاعل الحضاري والقدرة المعمارية الفذة التي وظفت المكان بجدارة كي يصبح مزيجاً بديعاً من مكانة روحية واجتماعية وتعليمية وثقافية، حرص الفلسطينيون على مدار التاريخ أن تكون عنواناً ومركزاً للهوية الوطنية ضد مختلف أشكال الاستعمار.
تمثل الملاحظات المدونة في سياق الحديث عن العمارة وتاريخ المكان والصمود اليومي خلاصة تأملات ومشاهدات ومطالعات لدراسات ومقالات عدة في تاريخ القدس والعمارة الإسلامية، إضافة إلى متابعات متواصلة لتقارير إعلامية فلسطينية وعربية وثقت على مدار عقود طويلة وما زالت توثق جرائم الاحتلال الاسرائيلي ضد الانسان والمكان في فلسطين المحتلة، وخصوصاً في المسجد الأقصى بهدف تغيير الطابع التاريخي والروحي للمكان كنوع من أنواع الاضطهاد العنصري الممنهج.
العمارة كأداة مقاومة:
تتشكل عمارة المسجد الأقصى من مزيج متناغم التصميم والوظائف من المُصليَّات والمآذن والقِباب والأبواب والمدارس والأروقة والقناطر والمنابر والمصاطب والمحاريب والأسبلة والحدائق والآبار، التي تُقدَّر حوالي بمئتي مَعلَمٍ معماري وتقع جميعها ضمن مساحة المسجد الأقصي والتي تبلغ حوالي ١٤٢ دونماً.
ولعل مُصليَّات المسجد الأقصى المسقوفة تمثل إحدى هذه المعالم التي تعكس فصول التاريخ في العمارة، وحكاية المكان في التاريخ حيث تشير المصليات المسقوفة المتعددة في داخل المسجد الأقصى إلى ثراء التجربة المعمارية وتنوعها الوظيفي الذي أكسب المكان أهمية إضافية إلى كونه مركزاً للصلاة والعبادة.
يتكون المسجد الأقصى من عدة مُصليات مسقوفة، أبرزها المُصلى القِبلي ومسجد الصخرة المشرفة.
أما المصليات الأخرى فهي إضافة إلى وظائفها الروحية والتعبدية، إلا أنها تشكل جزءاً تكاملياً هاماً في عمارة المسجد الأقصى حيث لكل مصلى حكاية ودلالة وتاريخ كما لكل زاوية من الزوايا و وركن من أركان عمارة هذا المكان الصامد رغم كل التحديات.
لم تسلم أي من معالم المسجد الأقصى من الاعتداءات الممنهجة خصوصاً المصليات المسقوفة كالمصلى المرواني ومصلى الأقصى القديم ومسجد قبة الصخرة المشرفة ومسجد البراق ومسجد المغاربة، ومصلى النساء ومصلى باب الرحمة والمصلى القبلي والتي تعرضت جميعها عبر التاريخ القديم والمعاصر لمختلف أشكال الانتهاك الاستعماري والتي شملت محاولات الحرق المتكررة والتحطيم والتكسير والهدم والإغلاق ومحاولات الاقتحام والاستيلاء بالقوة وتغيير الوظيفة الروحية للمصليات كدور عبادة وتقييد حركة العبور إلى المسجد الأقصى، إضافة إلى محاولات إتلاف وتخريب تفاصيل المكان المعمارية كحادثة تخريب البلاط التاريخي أمام بوابات المسجد حين حاول جنود الاحتلال فرض تكريب بوابات اليكترونية في صيف ٢٠١٧ يمر من خلالها المصلون في طريقهم إلى المسجد مما أدى إلى اندلاع هبة شعبية فلسطينية دفعت حكومة الاحتلال إلى التراجع عن تركيب البوابات الاليكترونية.
غير أن قوات الاحتلال ما زالت تواصل اعتداءاتها بطرق مختلفة من بينها وضع مختلف أشكال المعيقات لعرقلة تنفيذ العديد من مشاريع الصيانة والترميم الهادفة للحفاظ على المكان.
وكذلك الحفاظ على وتيرة مكثفة لاقتحام المسجد الأقصى بذرائع مفتعلة وتعمد إطلاق الرصاص والقنابل الصوتية وقنابل الغاز المسيل للدموع باتجاه أشجار المسجد كما حدث مؤخراً خلال اقتحامات نيسان ٢٠٢٢ بهدف إشعال النار، وتخريب مكونات المسجد المعمارية بما يشمل ما تبقى من مساحات خضراء شكلت امتداداً لحدائق المسجد الأقصى منذ بداية تشكله المعماري المميز قبل أكثر من ألف عام، خلال عصر الدولة الأموية.
مصليات المسجد الأقصى: مسار للتاريخ والعمارة والصمود.
المُصلى المرواني:
يقع أسفل الزاوية الجنوبية الشرقية من المسجد الأقصى، والذي كان يوصف في عهود تاريخية سابقة بالتسوية الشرقية، حيث كان الأمويون قد بنوه في البداية كَتسوِيَة معمارية للهضبة المقدسية المنحدرة نن الشمال نحو الجنوب كي يتسنى لهم الحصول على أرضية مستوية بأساسات متينة ترتفع من الناحية الجنوبية لمستوى الجزء الشمالي من المكان.
ومن المرجح تاريخياً أن يكون قد تم بناؤه قبل الشروع في بناء المصلى القِبْلي، حيث استخدم للصلاة ريثما يتم بناء وتشييد المصلى القبلي، يدل على ذلك طبيعة وعدد الأروقة الحجرية في المصلى المرواني والتي تبلغ ١٦ رواقاً تقوم على دعامات حجرية شديدة الصلابة. وتشكل مساحة المصلى المرواني حوالي ٤٥٠٠ متر مربع، حيث تعد من أكبر المساحات المسقوفة في المسجد الأقصى، وتعود تسمية المصلى المرواني بهذا الاسم نسبة إلى الخليفة الأموي مروان بن الحكم والد الخليفة عبد الملك بن مروان الذي كان له ولأبنائه الدور الأبرز في بناء وإعمار المسجد الأقصى.
خلال فترة الاستعمار الصليبي للقدس، تم تشويه معالم المصلى المرواني وتغيير وظيفته الروحية من خلال تحويله إلى إسطبل للخيول، ومخزنٍ للذخيرة، وقد سمي آنذاك باسم “اسطبلات سليمان” وما زالت الحلقات التي تم حفرها في أعمدة المصلى لربط الخيول من الشواهد القائمة إلى اليوم للدلالة على تلك المرحلة التاريخية قبل أن يعيد صلاح الدين الأيوبي تحرير القدس واستعادة المكانة الروحية للمسجد الأقصى. وقد استخدم المصلى المرواني خلال فترة الحكم العثماني لفلسطين كمساحة للتدريس، بعد ذلك ظل مغلقاً لعقود طويلة إلى أن قامت مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات ولجنة التراث الإسلامي ببيت المقدس بالتعاون مع دائرة الأوقاف الإسلامية بترميمه وإعاده تأهيله وفتحه للصلاة في عام ١٩٩٦م ضمن مشروع ترميم يعد الأضخم بين مشاريع ترميم وإعادة تأهيل مرافق المسجد الأقصى، حيث جاء هذا المشروع ببعده الفني المعماري والوطني أيضاً من أجل حماية المصلى المرواني من أي مخططات استعمارية اسرائيلية لتمكين المستوطنين من الصلاة فيه كمقدمة للاستيلاء على المكان.
ولعل من المحطات التاريخية المعاصرة والمرتبطة بذاكرة المسجد الأقصى عموماً والمصلى المرواني على وجه الخصوص، ما حدث في ٢٨ أيلول/سبتمبر ٢٠٠٠ عندما حاول أرئيل شارون، اقتحام باحات المسجد الأقصى والوصول إلى المصلّى المرواني الأمر الذي أدّى إلى اندلاع انتفاضة الأقصى المباركة في اليوم التالي.
وقد ظل المصلى المرواني يمثل إحدى التحديات القائمة معمارياً أمام سياسات الاحتلال الاسرائيلي الذي يواصل عرقلة الكثير من مشاريع الترميم للمكان خصوصاً مع ازدياد الحاجة لصيانة دورية وترميم أعمدة المصلى المرواني وجدرانه وكذلك سقفه الذي يمثل تحفة معمارية مميزة والذي يعاني من بعض التصدعات التي تهدد بالكثير من المخاطر، من بينها احتمالات الانهيار نتيجة تراكم الترسبات والأتربة بسبب العوامل الطبيعية وتسرب الرطوبة، ما يتطلب عملاً متواصلاً تعيقه قوات الاحتلال في إطار سياسة حصار وخنق المسجد الأقصى.
مُصلى الأقصى القديم:
يقع أيضاً تحت المصلى القبلي، وهو عبارة عن ممر يتكون من رواقين باتجاه الجنوب، عندما بناه الأمويون أرادوه أن يكون “مدخلاً مَلكيًا” إلى المسجد الأقصى من القصور الأموية التي تقع خارج حدود المسجد الأقصى من الجهة الجنوبية. ويوجد عند مدخل مصلى الأقصى القديم الشمالي غرفة صغيرة كانت تستخدم في السابق لمهام الحراسة، كما يوجد غرفة أكبر تقع عند بقايا الباب المزدوج عند المدخل الجنوبي للمصلّى والتي كانت تستخدم لمهام الحراسة أيضًا، وهي تحتوي على محراب عند مدخلها، كما يوجد بئر عميق في المكان غير أنه تم إغلاقه بسبب عدم الاستخدام.
ومن العناصر المعمارية المميزة في مصلى الأقصى القديم قبّتان مسطحتان تنهضان فوق مدخله الجنوبي على أعمدة حجرية ضخمة تشكل الأساس الذي تقوم عليه منطقة قبة المصلى، وكانت القبة قد رُممت عام ١٩٢٧ بتمويل من الملك فاروق، ملك مصر آنذاك، إلا أن المصلّى تم إغلاقه لأزمنة طويلة لا يُفتح خلالها إلا عند الحاجة وفي حالات الضرورة، وفي عام ١٩٩٨، تم تهيئة المكان وإعداده ليكون ملائمًا للصلاة من جديد، بحيث يتّسع لقرابة ١٠٠٠ مصلّ أو يزيد قليلاً.
مسجد قبة الصخرة المشرفة:
يعد من أبرز المصليات المسقوفة معمارياً والأكثرها شهرة عبر الأزمنة، ويقع وسط الهضبة الصخرية للحرم المقدسي الشريف.
ويعود تصميم وبناء مسجد قبة الصخرة لكل من الفلسطينيين رجاء بن حيوة الكندي، من بيسان، ويزيد بن سلام من القدس. واللذان قد تم تكليفهما من قبل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بمهمة بناء المسجد وقد استغرق العمل حوالي ٦ سنوات، حيث تم الانتهاء من أعمال البناء والزخرفة في عام ٧٢ للهجرة الموافق ٦٩١م.
من حيث التصميم والوظيفة المعمارية، شكلت عمارة مسجد الصخرة المشرفة نموذجاً فنياً مميزاً جمع بين بلاغة القيمة الجمالية للعمارة وعمق القيمة الروحية للمكان المقدس، حيث يتكون المسجد من قبة قطرها حوالي ٢٠ متراً، مرفوعة على كتلة اسطوانية تحتزي على ١٦ نافذة، وترتكز الكتلة الأسطوانية على أربع دعامات أساسية و١٢ عموداً، تنتظم جميعها في شكل دائري، يسمح بوجود ثلاثة أعمدة بين كل دعامتين.
ويتخذ مسجد الصخرة المشرفة شكلاً ثماني التكوين يبلغ طول ضلعه حوالي ٢٠ متراً، أما ارتفاعه فقد يصل إلى حوالي ١٠ أمتار، وهناك ما يشبه التصوينة فوق الجدارين يبلغ ارتفاعها حوالي مترين ونصف، كما يوجد في الجزء العلوي من كل جدارخمس نوافذ، وقد تم تزيين الجدران من الداخل والخارج بزخارف ونقوش، امتزج فيها فن الزخرفة العربية مع الفارسية والرومانية ضمن تكوين هندسي شكل علامة فارقة في مفهوم العمارة الإسلامية.
لمسجد قبة الصخرة المشرفة أربعة أبواب في أربع جدران من أضلاعه الثمانية وبداخل المسجد توجد الصخرة المشرفة وهي عبارة عن قطعة صخرية طبيعية غير منتظمة الشكل تقع تحت القبة مباشرة وتترواح أبعادها بين ١٣- ١٨ متراً، وأعلى نقطة فيها مرتفعة عن الأرض قرابة المترين، يحيطها حاجز من الخشب المدهون ذو النقوش المميزة.
وتحت الصخرة المشرفة توجد المغارة، حيث يتم النزول إليها من الجهة الجنوبية وتأخذ من الداخل شكلاً مربعاً كل ضلع من أضلاع المغارة يصل إلى أربعة أمتار ونصف.
وتعبر قبة الصخرة المشرفة من أجمل القباب في العمارة الإسلامية، حيث من المؤكد أنه لم يكن لها نظير في العالم الإسلامي عند الانتهاء من تشييد مسجد قبة الصخرة المشرفة عام ٦٩١م.
مسجد البراق:
يقع في الرواق الغربي للمسجد الأقصى، وإلى الشمال من باب المغاربة، يعود تاريخ بنائه إلى العهد الأموي، حيث بناه الأمويون في البداية كأساس للمسجد الأقصى، ومن ثم تم تحويله إلى مسجد، وقد أطلق عليه اسم مسجد البراق اعتقاداً بأن النبي محمد (ص) كان قد ربط البراق المقدس بصخرة في ذلك المكان قبل رحلة المعراج إلى السماء.
ويتخذ مسجد البراق شكلاً مستطيلاً حيث تبلغ مساحته حوالي مائة متر مربع ، وقد بني سقفه على شكل نصف برميلي، وهو من المميزات المعمارية للمنشآت الأموية في العمارة الإسلامية.
مسجد المغاربة:
يقع مسجد المغاربة في الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد الأقصى، جنوب كل من حائط البراق وباب المغاربة، أحد أبواب المسجد الأقصى.
حيث تبلغ مساحته حوالي ٥٠٠ متر مربع، تتشكل من قطعة أرض مستطيلة التكوين ويتميز المسجد بسقفه البرميلي الشكل.
تعود تسمية المصلى باسم مسجد المغاربة إلى فترة حكم صلاح الدين الأيوبي وقيامه ببناء هذا المسجد عام ١١٩٣م كي يكون مسجداً للمغاربة للمسلمين الذين كانوا يتوافدون في ذلك العصر إلى القدس لأسباب دينية وتجارية، حيث تم تخصيص المنطقة الواقعة غرب المسجد الأقصى لإقامتهم وسكنهم في المدينة المقدسة والتي عرفت باسم حي المغاربة الذي تم هدمه من قبل قوات الاحتلال عشية حرب حزيران ١٩٦٧ ضمن مساعي سلطات الاحتلال لطمس معالم وهوية القدس التاريخية.
يُعرف مسجد المغاربة حالياً بالمتحف الإسلامي حيث يتم استخدامه كصالة لعرض مقتنيات المتحف الإسلامي والذي يضم العديد من الآثار التاريخية والمخطوطات والمصاحف القديمة وغير ذلك.
غير أن مسجد المغاربة نفسه لم يسلم من محاولات الاحتلال المتكررة للاستيلاء عليه، ولعل أبرز هذه المحاولات وأكثرها خطورة منذ أحداث حي المغاربة في عام ١٩٦٧ ما حدث في عام ٢٠٠٤ حين قام بعض المستوطنين بالاعتداء على المبنى مما أدى إلى تعرضه لكثير من الخراب حيث كُسّرت بعض الأعمدة الرخاميّة التاريخية القريبة من المتحف الإسلامي.
كما أن حفريات الاحتلال المتواصلة أسفل المسجد الأقصى، خصوصاً تلك التي تقوم بها أسفل الجانب الغربي في ساحة البراق، أدت إلى انهيارات في جدار المسجد عام ٢٠٠٣م مما ساهم بحدوث بعض الانهيارات في جدار المبنى الغربي، الذي ما زال بحاجة إلى الكثير من الانتباه والعناية المعمارية.
مُصلى النساء:
يمثل “مصلى النساء” والممتد بمحاذاة الحائط الجنوبي للمسجد الأقصى انطلاقاً من الجدار الغربي للمصلى القبلي، الجزء الجنوبي الغربي من تكوين المسجد الأقصى المعماري.
وقد تم تقسيم مصلى النساء في العصر الحديث إلى ثلاثة أقسام: الأول ويقع جهة الغرب وملحق بالمتحف الإسلامي، ويمثل امتداداً لتكوين المتحف. الثاني في الوسط، حيث توجد مكتبة الأقصى الرئيسية، والثالث في الجهة الشرقية الملاصقة للمصلى القبلي حيث يتم استخدامه كمستودع.
ويعد مصلى النساء كمبنى كبير ومتسع ومرتفع عن مستوى المصلى القِبْلي، ومن المرجح أن بناءه يعود إلى فترة الاحتلال الصليبي حيث بُني في الأصل ككنيسة داخل المسجد الأقصى إلى أن أعدَّه صلاح الدين الأيوبي للصلاة وتم تخصيصه بعد ذلك خلال العصر الأيوبي لصلاة النساء، قبل أن يتم تقسيم أجزائه إلى جزء من المتحف الإسلامي ومستودع مكتبة.
مصلى “باب الرحمة”:
يعد “باب الرحمة” أو “الباب الذهبي”، من أبواب المسجد الأقصى الذي يعتبر بوابة مزوجة للمسجد وللقدس القديمة معاً، ويقع المصلى من جهة المدخل الداخلي لباب الرحمة في الجهة الشرقية من السور.
يتكون باب الرحمة من بوابتين مغلقتين هما بوابتي”الرحمة” و”التوبة” والمتشكلتين على هيئة قوسين كبيرين بارتفاع يصل إلى حوالي ١٢ متراً واللتين كانتا تستخدمان قديماً للوصول إلى البلدة القديمة وباحات المسجد الأقصى مباشرة من خارج أسوار المدينة.
والمصلى عبارة عن قاعة فسيحة بمساحة ٢٥٠ متراً مربعاً وارتفاع يصل إلى ١٥ متراً، كانت على مدى عقود طويلة تستخدم كمصلى للمسلمين، ويعلو القاعة عدد من الغرف التي كانت تستخدم كمدرسة، سُميت بالمدرسة “الغزالية”، نسبة إلى الإمام أبو حامد الغزالي الذي اتخذ منها مكاناً للاعتكاف. ويعلو البناء القباب التي تشير إلى العمارة الإسلامية.
أما من الجهة الخارجية لباب الرحمة، وعند السور الشرقي للمسجد الأقصى، تقع “مقبرة باب الرحمة” والتي دفن فيها عدد من الصحابة أبرزهم عبادة بن الصامت وشداد بن أوس.
تذهب بعض القراءات التاريخية إلى الترجيح بأن صلاح الدين الأيوبي من قام بإغلاق باب الرحمة بعد تحرير القدس كنوع من التحصين الدفاعي للمسجد الأقصى، بسبب موقع باب الرحمة الاستراتيجي، وكذلك لتنشيط الحركة التجارية من خلال إجبار المصلين على المرور عبر أسواق القدس قبل الدخول إلى المسجد الأقصى.
اكتسب مصلى باب الرحمة والذي يعود تاريخ إنشائه إلى عهد الخليفة الأموي مروان بن عبد الملك قبل تجديده في عهد صلاح الدين الأيوبي أهمية استراتيجية وتاريخية كباقي معالم ومصليات المسجد الأقصى مما جعله في دائرة الاستهداف والاعتداءات المتكررة.
بقي المكان كمصلى إلى عام ١٩٦٧ واحتلال ما تبقى من القدس، حيث تم استخدامه بعد ذلك كمكتبة دينية، ثم أصبح مقراً للجنة التراث الإسلامي، إلى أن تم إغلاقه في عام ٢٠٠٣ من قبل قوات الاحتلال الاسرائيلي، والتي قامت منذ ذلك التاريخ بتجديد أمر الإغلاق سنوياً رغم المطالبات العديدة بإنهاء قرار الإغلاق لما يمثله من أشكال الاعتداء الممنهج على منشآت المسجد الأقصى.
واصل الاحتلال الإسرائيلي، استهداف المصلى، كما واصل المستوطنون محاولات السيطرة عليه لتغيير وظيفته الروحية من مصلى إلى كنيس يهودي، ما دفع إلى هبة شعبية في القدس عرفت باسم “هبة مصلى باب الرحمة” نجحت في فتح المصلى، وإجبار الاحتلال في شباط ٢٠١٩ على التراجع عن قرار الإغلاق.
غير أن اعتداءات قوات الاحتلال الإسرائيلي على المصلين لم تتوقف منذ إعادة افتتاحه في ٢٠١٩، حيث تحول محيط مصلى “باب الرحمة”، منذ ذلك التاريخ إلى ميدان مواجهة بين الفلسطينيين والمستوطنين المدعومين بقوات الاحتلال الاسرائيلي.
وقد اتخذت الاستفزازات واعتداءات جنود الاحتلال عدة أشكال، من بينها اقتحامات المصلى بالأحذية والاعتداءات الجسدية على المصلين والاعتقالات المتكررة والتي شملت إلى جانب المصلين العديد من كبار المسؤولين في دائرة الأوقاف الإسلامية.
المصلى القبلي:
يعتبر المُصلى القِبلي ذو القبّة الرصاصية، والذي يقع في جنوبيّ المسجد الأقصى في جهة القِبلة، من أبرز المعالم الهندسية والتاريخية في المسجد الأقصى إلى جانب مسجد قبة الصخرة، فبحسب العديد من المراجع التاريخية كان أوّل من بناه هو الخليفة عمر بن الخطاب بعد الانتصار على الامبرطورية البيزنطية ودخول القدس عام ١٥ هـ الموافق ٦٣٦ م، وكان البناء قد شُيِّد آنذاك من الخشب، ثمّ قام بعد ذلك مؤسس الدولة الأموية، الخليفة معاوية بن أبي سفيان بتوسيع وتجديد المبنى.
أما البناء الحالي فيعود إلى فترة حكم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، حيث قام بتجديد المبنى وأتمّ العمل ابنه الخليفة الوليد بن عبد الملك عام ٧٠٥ م،
في عام ٧٤٦ م، دُمِّر المصلى القِبلي نتيجة زلزال أصاب المنطقة؛ ليعاد بناؤه في عهد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عام ٧٥٤ م. بعد ذلك، أعيد البناء في عهد الخليفة العباسي أبو عبد الله محمد المهدي عام ٧٨٠ م.
وفي عام ١٠٣٣ م، دمر زلزال آخر معظم أجزاء المصلى القبلي؛ فقام الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله بإعادة بناء المُصلى، والذي لم يزل المصلى في هذا الوقت محافظا على تصميم الأساسات لبناء الظاهر لإعزاز دين الله. كذلك فإن الفسيفساء التي على القنطرة التي باتجاه القبلة كذلك تعود لذلك العهد.
وكان المصلى القبلي مكونًا في الأصل من ١٥ رواقًا، ثم عندما تم ترميمه بعد تعرّضه لزلازل أدّت لتصدّعه، تم اختصار الأروقة في عصر الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله إلى ٧ أروقة، أما في الوقت الحالي فيتكوّن المصلى القبلي من رواق كبير في الوسط ٣ أروقة على الجانبين.
وللمُصلى القِبلي قبّة داخلية مرتفعة داخلية من الخشب، تعلوها القبّة الرئيسة الخارجيّة، المُغطّاة بألواح من مادة الرصاص. وتبلغ المساحة الإجمالية للمصلى القبلي حوالي ٤ دونمات، بطوله ٨٠ متراً وعرض ٥٥ متراً، مع اختلاف بسيط بين طول ضلعه الشرقي والغربي.
تشير الكثير من المصادر التاريخية إلى أن الصليبيين عندما قاموا باحتلال القدس عمدوا إلى تغيير معالم المسجد الأقصى من خلال الإزالة والإضافة
حيث قاموا بتحويل مسجد قبة الصخرة إلى معبد للصلاة، أقاموا فيه مذبحاً فوق الصخرة، يدل على ذاك الثقب الواضح والموجود في أعلى الصخرة والذي كان يستخدم لتصفية دماء الأضاحي التي كانت تتجمع في المغارة السفلية قبل أن يتم نقلها إلى الخارج عبر قنوات خاصة.
كما تم وضع صليب مذهب فوق القبة بعد إزالة “الفنيال” الذي وضعه العباسيون، والفنيال عبارة عن عمود معدني بطول يتراوح بين ١-٢ متر مصنوع في العادة من البرونز أو النحاس، في أعلاه نجمة يحيط بها هلال تشير فتحته إلى جهة القبلة.
كما تم تحويل المصلى المرواني إلى اسطبلات للخيول، عرفت باسم “اسطبلات سليمان”.
وتم تقسيم المصلى القبلي إلى ثلاثة أقسام: قسم تم استخدامه كمكاتب ومستودع للذخائر، وقسم تم تهيئته كسكَن لفرسان المعبد وقسم تم تحويله إلى كنيسة.
وبقي الأمر كذلك حتى بداية عهد صلاح الدين الأيوبي الذي رمّم المسجد عام ٥٣٨ هـ الموافق ١١٨٧م، ثم توالت بعد ذلك جهود الترميم في عصور كل من الدولة المملوكية والعثمانية، إضافة إلى ما قامت به الحكومة المصرية بتجديد السقف الخشبي للرواق الأوسط في عهد الملك فاروق، كما استمرت أعمال الترميم من خلال اللجنة الملكية الأردنية لإعمار المسجد الأقصى وقبة الصخرة والتي ما زالت تقوم بمهامها ومسؤوليتها بالإشراف على مختلف أعمال الإعمار والصيانة والترميم.
المسجد الأقصى: سيرة انتفاضات شعبية وصمود يومي فوق الأرض وتحت الأرض.
منذ بداية القرن العشرين، والمسجد الأقصى بمعالمه التاريخية والروحية يتعرض للعديد من محاولات التخريب والتدمير خصوصاً في ظل ازياد وتيرة الاستيطان الاستعماري في فلسطين، وتوظيف وسائل التحريض العنصري المتواصل ضد المكان بقيمه الروحية والتاريخية والوطنية كجزء أساسي من ماكينة العدوان الاسرائيلي المتواصل.
لم تتوقف تلك المحاولات لهدم وتخريب المسجد الأقصى بعد النكبة في عام ١٩٤٨ بل اتخذت أنماطاً عدة بعد احتلال ما تبقى من القدس عام ١٩٦٧، ولعل محاولة حرق المسجد الأقصى في ٢١ آب ١٩٦٩ لم تكن المحاولة الوحيدة في هذا السياق، فقد سبقتها محاولات عدة لتخريب المكان وهدم المسجد غير أن تلك المحاولة كانت الأكثر تأثيراً من ناحية حجم الدمار والتخريب، حيث امتدت نيران اللهب لتشمل منبر نور الدين زنكي، الذي كان قد أمر بإنشائه خلال فترة احتلال الصليبيين للقدس، وكان قد حمله صلاح الدين الأيوبي إلى المسجد لأقصى بعد تحرير المدينة، كما امتد الحريق في الجناح الشرقي للمصلى القبلي وكانت النيران قد أتت على الواجهات والسقف والسجاد والزخارف المدهشة والمميزة وجميع المحتويات من مصاحف وأثاث، ما أدى إلى تضرر البناء بشكل، تطلب سنوات طويلة لترميمه وإعادة زخارفه كما كانت عليه قبل الحريق.
إن خطورة استمرار الاعتداءات والاقتحامات لمرافق المسجد الأقصى شملت أيضاً الاعتداءات من تحت الأرض، والتي تمثلت في حفر الأنفاق التي واصل الاحتلال شقها بإصرار متعمد دون اكتراث باحتجاجات فلسطينية وعربية ودولية تمثلت في مؤسسات ذات طابع ثقافي وتراثي كاليونسكو، التي اعتبرت قيام سلطات الاحتلال بحفريات أثرية في القدس أمراً مرفوضاً حسب القانون الدولي، كون سلطات الاحتلال تمثل قوة محتلة للأرض الفلسطينية.
وقد أدى استمرار هذه السياسة الاستعمارية إلى اندلاع هبة شعبية فلسطينية في أيلول ١٩٩٦ بسبب تلك الحفريات، عُرفت بهبة “النفق” احتجاجاً على افتتاح سلطات الاحتلال نفقاً أسفل المسجد الأقصى، كانت قد شرعت في حفره عام ١٩٧٠ ثم توقفت لعدة أشهر قبل أن تستأنف الحفر في عام ١٩٧٥.
عمليات الحفر جاءت استكمالاً لمخططات مسبقة خصوصاً بعد حرب حزيران ١٩٦٧ وهدم حارة المغاربة جنوب غرب المسجد الأقصى حيث بدأ الشروع في حفر نفق يمتد إلى أكثر من ٣٠٠ متر في الجهة الغربية من المسجد الأقصى.
في عام ١٩٨٧ أعلنت سلطات الاحتلال اكتشاف قناة مياه تاريخية بطول حوالي ثمانين متراً، أرادت من خلال ذلك الاكتشاف استكمال الحفر بهدف توصيل النفق بقناة المياه، غير أن التصدي الفلسطيني في القدس عام ١٩٨٨ أعاق عمليات الحفر لما يشكل ذلك من خطورة بالغة على المنشآت الواقعة فوق مسار النفق.
وقد أدت حفريات النفق الغربي والذي تتفاوت ارتفاعاته بين مترين إلى ما يقرب من ٢٥ متراً حسب الطبيعة الطوبوغرافية للأرض إلى إحداث الكثير من الأضرار كالتصدعات والتفسخات في جدران العديد من المنشآت والمعالم والتي شملت أكثر من ١٦ معلماً من معالم المعالم والمنشآت الإسلامية في المسجد ومحيط المسجد الأقصى.
نوافذ المصلى القبلي: فنون العمارة في مواجهة التخريب الاستعماري.
في اقتحام المسجد الأقصى في ١٥ نيسان ٢٠٢٢، تعمد جنود الاحتلال الاستمرار في محاولات تخريب المكان إضافة إلى اعتداءاتهم العنصرية بحق المواطنين والمواطنات في باحات المسجد.
ومن ضمن ذلك التخريب الاستعماري المقصود تحطيم النوافذ التاريخية للمصلى القبلي والمشهورة بزخرفتها الاسلامية والعربية المميزة، تلك النوافذ التي شكلت جزءاً أساسياً من تصميمات المصلى القبلي والتي تم استهدافها أيضاً في اقتحامات سابقة عبر اعتلاء الجنود لسطح المصلى وكسر الشبابيك الخارجية والداخلية للتمكن من إلقاء قنابل الدخان والقنابل المسيلة للدموع في الداخل.
تعتبر النوافذ في عمارة المسجد الأقصى من الشواهد الفنية الدالة على عراقة العمارة الإسلامية وذلك من خلال تكوينها الهندسي واعتمادها على المزج الفني المتنوع بين آيات قرآنية وأحاديث نبوية ورسومات وأشكال هندسية بالغة الدقة.
حيث يتجلى الإبداع المعماري في تصميم نوافذ المصلى القِبلي والذي يبلغ سُمك جداره حوالي متر لتكون بواجهتين، واحدة خارجية وتتألف من أشكال هندسية من الجبص المعشق بالزجاج الشفاف، وأخرى داخلية مزينة بزخارف من الزجاج الملون تشمل صور مختلفة للنباتات والرسوم الهندسية.
قد يبدو وجود واجهتين للنافذة خارجية وداخلية، تكويناً فنياً يسمح بمرور أشعة الشمس إلى داخل المصلى ويوفر نوعاً من الحماية الوظيفية للواجهة الداخلية المزخرفة من مختلف العوامل الطبيعية.
المدهش في هذا التصميم المعماري للنوافذ أنها تبدو وكأنها مشغولة بالكامل من الزجاج، حيث اعتمدت الطريقة الفنية التي تم فيها حفر الجص على جعله مائلاً لإخفائه وإظهار النافذة كأنها مشغولة من الزجاج الملون بشكل كامل.
إن جريمة تحطيم نوافذ المصلى القِبلي كما تناقلتها عدسات كاميرات الهواتف الجوالة لم تستغرق سوى دقائق، في حين يستغرق ترميم النوافذ المحطمة بما يشمل المحافظة على نمط الزخارف التاريخية عدة شهور، يقوم بها فنييون ومتخصصون في عمارة وترميم المسجد الأقصى، يواصلون العمل بكل إتقان وحرفية رغم مختلف أشكال الاعتداءات الاسرائيلية التي طالت وما زالت تشكل تهديدات جدية تواجه المسجد الأقصى.
وما قد يعزز من أهمية الدور الذي يقوم به هؤلاء الفنيين المناضلين هو احتفاظ دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس بتصاميم الرسومات الأصلية لزخارف النوافذ.
وبالتالي عندما يتم العمل على ترميم أي نافذة تعرضت للاعتداء أو الكسر، يتم تركيبها بحيث تكون صورة طبق الأصل للتصميم التاريخي الأصلي من حيث ألوان الزجاج أو شكل الزخارف المستخدمة، بحيث تظل هوية المكان الروحية والتاريخية حاضرة في الوعي الشعبي الفلسطيني وعابرة للأزمنة والأجيال.
ويعد هذا بحد ذاته جهداً عظيماً رغم صعوبته واحتياجاته الفنية الدقيقة ويستغرق شهوراً طويلة من العمل، غير أن الإصرار الذي يقود الروح الفلسطينية نحو إتمام هذه المهام هو جزء من صمود المكان وصمود الروح وصمود الانسان في القدس- العاصمة وفي مختلف أرجاء فلسطين المحتلة.
