كتب خالد الفقيه
في رائعته عائد إلى حيفا قال غسان كنفاني على لسان سعيد س: “لا شيء، لا شيء أبدا، كنت أتساءل فقط، أفتش عن فلسطين الحقيقية، فلسطين التي هي أكثر من ذاكرة، أكثر من ولد، وكنت أقول لنفسي: ما هي فلسطين بالنسبة لخالد؟ إنه لا يعرف المزهرية، ولا الصورة، ومع ذلك فهي بالنسبة له جديرة بأن يحمل المرء السلاح ويموت في سبيلها، وبالنسبة لنا، أنت وأنا، مجرد تفتيش عن شيء تحت غبار الذاكرة! لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل، وهكذا كان الافتراق، عشرات الألوف مثل خالد لا تستوقفهم الدموع المفلولة لرجال يبحثون في أغوار هزائمهم عن حطام الدروع وتفل الزهور، وهم إنما ينظرون للمستقبل، ولذلك هم يصححون أخطأنا، وأخطاء العالم كله”، فغسان لخص حكاية وطن طرد منه لاجئاً في رحلة تذوق فيها آلم وحسرة ضياع وطن كان من المفترض أن يجول في بقاعه وأن يشهد هذا الوطن على رحلة عمره التي لربما كانت أطول مما كانت عليه هناك في شتات اللجوء والقهر، وربما كان السكري لم يحتل جسده ولم يجعله رهين الأنسولين وحسرة الزمن.
خمسون عاماً على اغتياله في بيروت حيث تطاير جسده مع لميس إبنة شقيقته بجسدها الغض الطري بين ثنايا الحديد والصاج في السماء بعد الانفجار الذي نفذه الموساد لوقف كتيبة بأكملها عن الكفاح، كان غسان يدرك بأن عودته للوطن عبر إطلالة سماوية أقرب منها من الرجوع كما بدأت رحلة الخروج القهرية براً أو بحراً كما كانت لكثيرين. إدراكه هذا دفعه يوماً ليقول مقولته الشهيرة ذات البعد الفلسفي العميق “ليس بوسع أحد أن يملاْ مكان أحد”، وكأنه كان يستشرف المستقبل، فلا زال مكانه شاغراً ولم يستطع أحد من المثقفين والسياسيين والمقاتلين شغله.
إنتصر غسان الأديب المشتبك المقاتل بوعي وإدراك وهو يجسد ذلك بحرمان عدوه توقع ما كان وما أراد، فشعوره لم يخنه والحرية التي تمسك بها حياً وشهيداً هي التي لامقابل لها فهي ذاتها رغم أنه في خيم اللجوء وخنادق المقاومة تخلى عن غضبه مما جرى له ولشعبه ولكنه لم يغفر الخذلان الذي سبب ضياع فلسطين.
لخص غسان الخذلان الذي تعرض له الشعب الفلسطيني عندما سبر أعماق الفكر الصهيوني بحثاً ودراسة بقوله أن أكبر الجرائم اعتبار أخطاء الآخرين تشكل حقاً في الوجود لأغراب على حساب شعب بأكمله، فهم يسرقون رغيفك ليعطوك منه كسرة ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم بكل وقاحة، وهذا كان رداً مبكراً منه على القبول بأنصاف أو أجزاء الحلول ففلسطين عنده صليب دائري لا يقبل القسمة والتقسيم. “أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله”.
وفي رفضه لكل ما لا يعيد الوطن بأكمله وأهله إليه رهن الأمر بإصرار سكان الخيمة في المخيم فهم البديل الثوري عن المدافعين الفاشلين عن القضية فتغييرهم عنده واجب ومرفوض تغيير القضية. فالنضال دفاعاً عن الوطن لإسترجاعه حق كونه الماضي والمستقبل الوحيد ففيه الشجر والغيم والظل والشمس الوهاجه والجذور العصية على الاقتلاع. والثورة كالخبز والماء وأكف الكادحين ونبض القلوب، والثورة لا يعرف معناها إلا من يعلقون البنادق على الأكتاف ويطلقون البارود دون إنتظار فأكتاف الرجال خلقت لحمل البنادق، والثوار كما يراهم غسان يموتون وسلاحهم بأيديهم ويرفضون الحياة وسلاحهم بيد عدوهم لأن الخيانة ميتة حقيرة في حد ذاتها. ولطالما إحتقر من يتفرجون فيما كان غيرهم يقاتل وإحتقر من تقلدوا ومارسوا دور الخونة.
ترجل غسان وقد وجد فكرته النبيله فكراً وعملاً وإن كان سيبدو سعيداً لو حققها ورآها تنبت بين برتقال يافا وعلى ضفاف بحر عكا حيث شهدت أسواره صرخات مولده الأولى، وهو يدرك بأن الصقور لا تآبه أين تموت، فغسان الإنسان لم يكن في نهاية المطاف إلا قضية آرقت مضاجع العالم كرجل لم يحتج في صعاب الأيام للملاجيء وهو المدرك بأن الحياة قصيرة ومهادنة مع الموت.
غسان لم يملأ مكانه أحد بعد خمسين عاماً لا في المواقع التي تقلدها ولا في الإرث الذي تركه رغم عمره القصير فهو تعلم منذ بواكير حياته أن يحب طفولته ويحب البسطاء وأن يقف في صف الفقراء ورتب خارطة الوطن على ذلك. فلم يرتد حتى زرع جنته في الأرض في عالم يسحق العدل والحق بعودة أبوين على متن زورق للبحث عن طفلهما المفقود لا تستطيع كل دموع الأرض أن تحمله.
غسان كنفاني عميد الأدب الفلسطيني رئيس تحرير مجلة الهدف المناضل السياسي والمقاتل الميداني والروائي والباحث والفنان المولع بالرسم والإعلامي الذي دوخ العالم بعدالة قضية شعبه لازالت مقاعده في هذه المواقع بلا إشغال حقيقي يسد الفجوة التي تركها. يحسب له بأنه أهدى البشرية عبقرية أخرى أيضاً لم يملأ مكانها أحد، فله يعود الفضل في إكتشاف إبداع ناجي العلي رسام الكاريكاتير الذي دفع حياته ثمناً لما آمن به، غسان صادف ناجي في مخيمات لبنان بعدما شدته إحدى اللوحات على الجدار فسأل عن صاحبها وإلتقاه ليفتح الباب أمامه على صدر صفحات مجلة حركة القوميين العرب التي كان يرأس تحريرها منطلقاً منها للعالم ليملأه ضجيجاً بالأبيض والأسود الكاوي.
غسان رحل جسداً وبقي فكرة ” تسقط الأجساد لا الفكرة” في الثامن من تموز عام 1972 عن عمر 36 سنه في عملية إغتيال نفذها الموساد في بيروت بتفخيخ سيارته. كانت رحلة لجوءه مع عائلته من عكا إلى لبنان ومنها تنقل بين سوريا والكويت ليستقر به المطاف في العاصمة اللبنانية، وخلال مسيرة حياته كتب روايات كثيرة منها عائد إلى حيفا، وأرض البرتقال الحزين، وأم سعد، وما تبقى لكم، ورجال في الشمس التي تعد تجسيداً فلسفياً عميقاً للفلسطيني الذي يبحث عن الحياة داخل صهريج يقوده العاجز أبو الخيزران, إلى جانب دراسات متعددة ومئات المقالات. فأي شخص أو جماعة بأكملها لديها القدرة على التعويض عن مكانته الإعلامية والروائية والفنية والسياسية نعم لقد كان أمة في رجل.