هبة حمارشة
بعبارة “مَن يحاصر مَن” يختتم عرين الأسود معظم بياناته العسكريّة، في تهديدٍ واضح لقوات الاحتلال الإسرائيلي التي تقتحم المدن والقرى الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة، وبخاصّة مدينة نابلس وبلدتها القديمة التي انطلقت منها العرين.
بالنظر الى مضمون العبارة، فإن الحصار الذي يفرضه الاحتلال الاسرائيليّ على الضفّة الغربيّة، من خلال الحواجز والبوابات الحديديّة والمكعّبات الإسمنتيّة كوسيلة للتحّكم بالفلسطينيين أثناء الحركة، هي ذاتها التي نسفتها حركات المقاومة في الضفّة الغربيّة واستخدمتها لتحاصر وتطبق أسنانها على من يقتحم مناطقها الجغرافيّة، فهل فعلاً تنجح العقليّة الإسرائيليّة الأمنيّة المبنيّة على السيطرة الجغرافيّة المتواصلة في عقاب الضفّة الغربيّة؟
كنت قد بدأت عمليّة البحث عن المكعبات الإسمنتيّة المُشكلّة للجدران العازلة، والحواجز الإسرائيليّة وحاولت فهم العلاقة بينها وعقليّة الدولة التي تتعامل بها قبل بداية الحرب، وقرأت الجوانب الدينية والنفسيّة والاجتماعيّة لأفهم شخصياً لماذا نُحاصر بهذه العقليّة. عقليّة “الدولة” التي تبني حدود أمنها من خلال مكعبّات اسمنتيّة منتشرة بين شجر اللوز، وفوق أشجار الزيتون. اليوم أُشارككم ما رأيت، لأُحارب المكعبّات التي تشكّل جزءً لا يتجزأ من عقليّة الجدار اليهوديةّ، وتقف قبالتنا مانعةً إيانا من التحرّك.
مقدّمة
منذ السابع من أكتوبر للعام 2023، تمارس قوات الاحتلال الاسرائيليّ حصاراً وإطباقاً على الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة، كجزء من سياسة العقاب الجماعي، من خلال نشر الحواجز والمكعبات الاسمنتيّة في كلّ مكان، حيث تفصل كلّ منطقةٍ عن أخرى وكل مدينةٍ عن جارتها، وكلّ قرية عن ملاصِقتها، وفي الخليل كلّ حارةٍ عن أختها.
وبلغ عدد الحواجز الاسرائيليّة في الضفّة الغربيّة 759 بوابة وحاجز، 470 منها مكعّبات اسمنتيّة وسواتر ترابيّة، و77 حاجزاً رئيسياً، بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة “أوتشا”، عدا عن الحواجز الطيّارة (المُفاجِئة والمؤقتة) التي تُنصب لاعتقال الفلسطينييّن أو مصادرة سياراتهم.
ويمثّل الحاجز الاسرائيليّ مكعبات اسمنتيّة، توضع على جانبيّ الطريق ويعتليها ويختبئ ورائها جنديّ مدججّ بالسلاح والعتاد، وقد يكون ساتراً ترابيّاً أو بوابة حديديّة برتقاليّة.
وهم الدولة الحصينة… بوابات ومكعبات اسمنتيّة في كلّ مكان في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بدأت حركة المقاومة الاسلاميّة “حماس” والفصائل الفلسطينيّة المقاوِمة في قطاع غزّة عمليّة طوفان الأقصى، لإنهاء الحصار الإسرائيليّ على قطاع غزّة، واخترق المقامون الجدار الفاصل بين حدود غزّة الشرقيّة والمستعمرات المحيطة بها لتحقيق هذا الهدف، ذاك الجدار الذي يمتّد على طول أكثر من ستين كيلومتراً في الحدود بين القطاع والكيان الصهيونيّ شمالاً وجنوباً ويصل الى البحر، وقد استغرق تشييده أكثر من 4 سنوات وصبّ أكثر من مليونيّ طنّ من الخرسانة في الجدار الاسمنتيّ.
وبالعودة الى المكوّن الأساسيّ، المكعّب الإسمنتيّ أو مكعّب الخرسانة، فإنه مصنوع من خليط متجانس من الاسمنت والزلط مثل الرمل أو الحصى لتشكيل الخرسانة. وامتّد المكعّب على طول الجغرافيا الفلسطينيّة، ليشكّل عائقاً أمام الفلسطينييّن، وعلى الرغم من أن الباطون شكّل رمزاً للطلائعيّة والتقدميّة في الثورة الفرنسيّة، إلّا أن جنود الجيش تختبئ خلفه في كلّ مناسبة أو حدث خوفاً من الفلسطينيّ عابر الطريق، وترصف به الشوارع والحدود المتخليّة للمستعمرات الاسرائيليّة المنتشرة في الضفّة الغربيّة.
يُطلقُ الكاتب الإسرائيليّ يونتان جيفن في مقالته “أهلاً بكم في دولة المكعبات الإسمنتيّة” مصطلح “مدينة الاسمنت المسلّح” على “الكيان الصهيونيّ” ساخراً من قرارات حكومته الرامية في نشر المزيد من المكعبات الإسمنتيّة للاختباء خلفها، بعد كلّ حدث أمني أو خطر، مشكلّة بذلك أسواراً حصينةً تحيط بالمستعمرات وتفصلها أكثر عن الخارج منها.
وتعمد السياسة الاستعمارية الاسرائيليّة الى التحكّم بحركة الفلسطينيين وأماكن تواجدهم، في إطار تطبيقها لسياسة إدارة السكّان (Population Management)، وإدارة المكان التي تعتبر الأبرز في استعمالها في تاريخ المستعمرين، بهدف إدارة حياتهم، والتحكّم الحثيث والمباشر في نمط معيشتهم، نفسيتهم العامّة، مصادر دخلهم وعلاقاتهم الاجتماعيّة، ويبقى الحاجز موجوداً في ذهن المُستَعمر الذي يصعّب عليه سبل معيشته، وفي ذِهن المُستعمِر الذي يراها منظومة إخضاعٍ وضبطٍ للمستعمَر وسلوكه.
انتشرت المكعبات الاسمنتيّة والحواجز الاسرائيليّة بشكلها الأولّ خلال سنوات الانتفاضة الأولى، لفصل المناطق جغرافياً عن بعضها، وتقطيع أوصالها وعزل كلّ منطقة وسكّانها عن الباقية، وترسخّت في الانتفاضة الثانية وترافقت مع بناء جدار الفصل العنصريّ.
وبدأت بإغلاق المنافذ الرئيسيّة فاصلةً الشمال عن الوسط عن الجنوب، ثمّ كلّ تجمّع قرى عن مركز المدينة، وقسّمت أراضي القرى لتبعدها عن بعضها.
واستخدُمت كاستراتيجيّة استعماريّة سعياً لفرض الأمان للجنود خلفها، ومحاولة لتفتيت جهود المقاومة المشتركة وكوسيلة للحدّ من العمليّات الفدائيّة التي لاحقت الكيان ومستوطنيه خلال السنوات الماضية.
المكعّب والجدار… بُعد نفسي ودينييشير د. عبد الوهاب المسيري في موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونيّة إلى دور حياة الغيتو وتأثيرها على عقليّة ونفسيّة اليهوديّ، فأصبحت الدولة الصهيونيّة مركز التاريخ والدنيا، وما حولها وغيرها شرٌ مُطلق، فكرسّ هذا التفكير الغيتويّ الخوف والطمأنينة معاً، حيث الخوف من الأغيار والطمأنينة في العزلة.
وعلى الرغم من تباكي اليهود المستمّر بمعازل الغيتو، والاضطهاد الذي عايشوه في منتصف الألفيّة الماضية، فإن اليهود اختاروا الغيتو، حيث كان قائماً في التوراة وبعدها في التلمود، من خلال المفاهيم التي ركّزت على تفرّد الشعب اليهوديّ وقدسيّته، وضرورة بُعده عن الأغيار المدنّسين في ذاتهم (العرب الفلسطينيين)، لذلك لطالما تجمّعوا في أماكن سُكنى محددّة وعزلوا أنفسهم عن البقيّة، ففي شرق أوروبا عُرفت أماكن انعزال اليهود باسم “تِحُوم هَمُوشَاف” أي منطقة الاستيطان، أو “الشِّتِتِل” أي البلدة اليهودية، وفي غرب أوروبا باسم الغيتو كحيّ (جوديا) في البرتغال، وفي إسبانيا (جورديا)، وفي إيطاليا جيدكا.
وأكدّت التوراة والنصوص الدينيّة على قداسة الجدران وبناء الأسوار، وبينّت أن الرب استعملها رمزاً للخلاص والأمان “في ذلك اليوم يُنشدُ هذا النشيد في أرض يهوذا: لنا مدينة منيعة حصّنها الرب لخلاصنا بأسوار ومتاريس” (سفر إشعياء: الإصحاح 26، الآية 1)، وأضفت نصوص العهد القديم شرعيّة على بناء الجدران والانعزال عن الشعوب الأخرى، بصفتها وسيلة للحماية والأمان، ونقطة لفرض الهيمنة على الأرض، وبرهاناً على نيل رضى الرّب واتباع تعاليمه، ويقولون في التلمود, وهو الكتاب الثاني لديهم في مرتبة التقديس “من العدل أن يقتل اليهودي بيده غير اليهودي, لأن من سفك دم الكافر, يقرب قرباناً إلى الله” فهم لم ينبذوا الأغيار فحسب، بل دعوا الى قتلهم كقرابين لله، حيث لا مكان الّا لمجتمعٍ يهوديّ نقيّ، ومن هنا جاءت نفسيّة العزلة -الغيتو- منذ القدم.
وتقوم العقيدة الاستعماريّة الإسرائيليّة على الأمن، حيث يروّج الاستعمار لأدواته وأساليبه باعتبارها توّفر الأمن والحماية للمستوطنين وتحافظ على سير حياتهم الطبيعيّة وأعمالهم وتنقلّاتهم، فتحوّلت المكعبّات -باعتبارها أداة استعماريّة- من وسيلة للحماية إلى كون وجودها ضروريّ لاستقرار الجنود بين مناطق الضفّة الغربيّة الخاضعة لحكم السلطة الفلسطينيّة، وأصبح وجود المكعّب أساسياً لحماية مدخلّ كلّ مستعمرة اسرائيليّة تتقاطع طرقها وطرق السيارات الفلسطينيّة وانتقل المكعبّ من حاجز لكونه جدار يطوّق بالمستعمرة التي يحميها.
نتيجة لما سبق، زادت التحصينات والمكعبّات منذ السابع من أكتوبر، لإعادة الحياة الى طبيعتها الآمنة بالنسبة الى المستوطنين، وزيادة الخناق على الفلسطينيين، وحصاراً على مختلف الأصعدة للضفّة الغربيّة. ولكّن الحصار ذاتيّ، باعتراف العقيد الاسرائيليّ يهودا فاخ “فإن تشييد الجدران والتحصين المتواصل هو في الواقع نوع من الحصار الذاتيّ”.
ساهمت انتفاضة السكاكين، وما بعدها من استهدافٍ للحواجز الإسرائيليّة والمكعبّات الاسمنتيّة بالرصاص أو السكاكين، -وبخاصّة النموذج الذي عرفناه مع عرين الأسود “بلّغلي نشاط على حوّارة”- وفي إجابةٍ عن سؤال جدوى السلاح الأبيض مقارنةً بالعتاد والتقنيّات التكنولوجيّة المتطوّرة، فإن الهدف كان بالحفاظ على حالة عدم استقرار الأمان، حيث تكون حالة القلق والخوف المستّمر هي الأساس، دافعين بذلك المستعمرة الكبيرة للإغلاق على نفسها بجدرانٍ كبيرة وأحجارٍ اسمنتيّة، عازلةً نفسها كالغيتو الكبير.
1_ عرين الأسود: هي مجموعة من المقاومين المسلحّين التي ظهرت في العام 2022 في مدينة نابلس، وجمعت مقاتلين فلسطينيين من كتائب القسّام (الذراع العسكريّ لحركة حماس) وسرايا القدس (الذراع العسكريّ لحركة الجهاد الاسلاميّ) وشهداء الأقصى (الذراع العسكريّ لحركة فتح وكتائب أبو علي مصطفى (الذراع العسكريّ لحركة الجبهة الشعبيّة)، وأرّقت عرين الأسود الاحتلال وأربكته، وتميّزت بالعلميات العسكريّة واستهداف الحواجز العسكريّة المحيطة بمدينة نابلس.
2_ يصدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة “أوتشا”- OCHA تقريراً اسبوعياً مفصلاً لتطوّر الأحداث وأبرز الانتهاكات الإسرائيلية في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، ويُعزى الرقم المدرج في المقالة الى التقرير الذي نشرته أوتشا في 08/04/2024.
3_ نشر الكاتب الاسرائيليّ يونتان جيفن مقالة بعنوان: “أهلاً بكم في دولة المكعّبات الاسمنتيّة، في صحيفة هآرتس (بالعبرية)، في تاريخ 2015.
4_ نشر العقيد الاسرائيليّ يهودا فاخ مقالة بعنوان” “إسرائيل تتحصن، في جيش الدفاع الإسرائيلي هناك مَن يرى في الجدران (مجتمعاً يعيش في خوف)”، في صحيفة يديعوت.أحرنوت (بالعبرية)، في تاريخ 08/02/2020
5_حاجز حوّارة: حاجز رئيسيّ للجيش، يقع عند بلدة حوارة أحد المخارج الأربعة من مدينة نابلس، ويفصل الحاجز منطقة وسط الضفّة الغربيّة عن شمالها، ويعتبر أبرز الحواجز منذ عام 2000، ويعتبر الحاجز كغيره من الحواجز، محطّة معاناة دائمة للفلسطينيين في تنقلّهم بالإضافة الى أنّ مزّود بالتقنيات التكنولوجيّة المختلفة.وكانت مقولة “بلغلّي نشاط على حوارة” هي مقولة الشهيد أدهم مبروكة، أحد مقاتلي العرين، وتناقلها رفاقه من بعده في إشارةٍ الى استهداف حاجز حوّارة. المفارقة أن الجيش يستخدم كلمة نشاط للإشارة الى اقتحام أي مدينة داخل الضفّة الغربيّة وإبلاغ الارتباط الفلسطينيّ بالاقتحام، فتّم استخدام ذات المصطلح للإشارة الى اقتحام أو استهداف مناطق العدو.