loading

الكفالات النقدية في القضايا الجزائية.. حرية مصادرة بأغلال المال وتجريم للفقر

ميساء بشارات

 رغم أن المحكمة أصدرت قرارًا بإخلاء سبيل المتهم بحيازة وتعاطي مواد مخدرة “س، ع” إلا أنه بقي رهن الحجز، كونه لا يملك مبلغ الكفالة، الذي أقرته المحكمة، بسبب ظروفه الاقتصادية، وتأخرت عائلته في جمع مبلغ الكفالة، ما أدى إلى بقاءه موقوفًا لعدم قدرته على دفع الكفالة المالية، وليس لأنه يشكل خطرًا على السلم الأهلي أو سير العدالة، ما انعكس على علاقته بأسرته.

قصة الموقوف “”س، ع”، قد تكون واحدة من عشرات القصص التي تزدحم بها أروقة المحاكم الفلسطينية، لمتهمين أو موقوفين عجزوا عن توفير مبلغ الكفالة فأُجبروا على البقاء رهن الحبس لأيام اضافية رغم قرار المحكمة بالإفراج عنهم ضمن شروط. 

وتمثل الكفالة المالية إحدى الضمانات المقررة للمحافظة على حرية المحتجزين تحت سيف الاتهام بجنح وجرائم كما تُشكل بديلًا عن الاعتقال الاحتياطي، غير أن هذا التدبير يخضع لضوابط حددها القانون من خلال التنصيص على الجهة المخولة بإصداره وتحديد شروطه والآثار التي يمكن أن تترتب على الإخلال بها.

ورغم أن خبراء القانون يرون بأن فرض الكفالات النقدية ضروري في بعض الحالات لضمان سير العدالة، إلا أنهم يُجمعون على أنها قد تكون أحيانًا كثيرة، عقبةً أمام المساواة، فالأصل أن الإنسان بريء حتى تثبت إدانته، كما تنص المادة 14 من القانون الأساسي الفلسطيني. لكن في بعض المجتمعات، تُلصق وصمة الجُرم بالمتهم حتى قبل إثبات إدانته. 

والكفالات، من حيث المبدأ، ليست عقوبة، بل هي تدابير احترازية لضمان سير العدالة حتى صدور حكم نهائي. ورغم ذلك، فإن تقدير القاضي يلعب دورًا كبيرًا في تحديد قيمة الكفالة وطبيعتها.

وقد تتحول الكفالة المالية إلى عقوبة غير مباشرة على الفقر. إذا لم يتمكن الشخص من دفع الكفالة، فإنه يواجه تمديد فترة توقيفه، وهو ما يُعتبر انتهاكًا لمبدأ المساواة، فمثلاً شخصان يواجهان التهمة نفسها، أحدهما قادر على دفع الكفالة والآخر غير قادر، سيواجه الفقير عقوبات إضافية تتمثل في فقدان حريته لفترة أطول.

ويعتبر دفع الكفالة المالية شرطًا أساسيًا للإفراج عن الموقوفين في قضايا متعددة، لكن قيمة الكفالة قد تكون غير متوفرة لدى الشخص الموقوف وأسرته، ما يؤدي الى بقاءه أحيانًا موقوفا لحين استبدال الكفالة، ليس بسبب خطره على المجتمع، بل بسبب عجزه المالي.

الكفالات النقدية عقبة أمام تحقيق المساواة

ويعد مبدأ المساواة أمام القانون إحدى الأسس الجوهرية التي ينص عليها القانون الأساسي الفلسطيني، وتحديداً في المادة (9) التي تنص على: “الفلسطينيون أمام القانون والقضاء سواء، لا تمييز بينهم بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو الرأي السياسي أو الإعاقة”، كما تؤكد المادة (11) على أن: “الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مكفولة لا تمس… ولا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي وفقاً لأحكام القانون.”

ويرى المحامي ظافر الصعايدة، عضو فريق “محامون من أجل العدالة”: أن تحقيق المساواة يتطلب أن تكون الحرية الشخصية هي الأصل، وليس تقييدها، موضحًا أن الكفالات النقدية تشكل عائقًا أمام تحقيق هذا المبدأ، خاصة عندما يُحتجز متهمان في قضية مشابهة، ويُفرج عن أحدهما لتمكنه من دفع الكفالة، بينما يبقى الآخر محتجزاً لعدم قدرته على تأمين المبلغ المطلوب.

الكفالة الشخصية.. أكثر عدالة

ويؤكد الصعايدة أنه لضمان العدالة والمساواة، ينبغي إلغاء الكفالات النقدية، لأن ربط الإفراج بالقدرة المالية للمتهم ينتقص من حقوق الإنسان ويعيق تطبيق مبدأ المساواة أمام القانون. ويضيف أنه حتى في حال تحويل الكفالة النقدية إلى عدلية أو شخصية، فإن المتهم يواجه عقبات، حيث قد يتأخر الإفراج عنه لساعات أو حتى يوم إضافي بسبب إجراءات تحويل الكفالة، ما يزيد من انتهاك حقه في الحرية الشخصية.

ويوضح أن الكفالة الشخصية تُعدّ الخيار الأكثر عدالة، حيث لا تُرهق المواطنين ماليًا مقارنة بالكفالات النقدية أو العدلية. مشيرًا إلى أن الكفالة العدلية قد تشكل عبئًا إضافيًّا، إذ تتطلب وجود كفيل تجاري، ما يدفع البعض إلى دفع مبالغ مالية للحصول على الكفالة، وهو ما يعمق الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين المتهمين.

وفي سياق الحديث عن التشريعات، يدعو الصعايدة إلى مناقشة قانون يلغي الكفالات النقدية، على غرار القوانين المقترحة التي تمنع حبس المدين غير القادر على الدفع. مضيفًا: “إذا كان القانون الأساسي يضمن الحرية الشخصية، فإن العدالة تقتضي إلغاء الكفالات النقدية التي تُشكّل عائقاً أمام الإفراج عن غير القادرين على الدفع.”

ويختتم الصعايدة حديثه بالتأكيد على أن الكفالة، مهما كان نوعها، ليست دليلاً على براءة المتهم أو إدانته، وإنما تُستخدم فقط لضمان حضوره جلسات المحاكمة. إلا أن ربط الإفراج بشرط مالي يُعدّ انتقاصاً من حقوق الإنسان ويعرقل تحقيق العدالة والمساواة التي ينادي بها القانون الأساسي الفلسطيني.

الكفالات المالية: أداة لضمان الامتثال

ويقول المحامي فواز صايمة: إن الكفالات المالية النقدية في القضايا الجزائية تعتبر أداةً قضائية تهدف لضمان امتثال المتهم لجلسات المحاكمة، مشددًا على أنها ليست دليلاً على ادانة المتهم او براءته، ويعود تقدير قيمة الكفالة إلى السلطة التقديرية للقاضي، الذي يعتمد على نوع التهمة وظروف المتهم.

ويضيف: أن الكفالة تفرض في حالات تتطلب ضمان حضور المتهم، خاصة إذا كان المتهم لا يمتثل دائمًا للمحكمة، أو لا يملك عنوانًا ثابتًا، أو يقيم في مكان بعيد، وتتراوح أشكال الكفالات بين النقدية وغير النقدية، حسب طبيعة التهمة.

ويفضل صايمة في التهم البسيطة، مثل القضايا البعيدة عن جرائم الدم أو الإتلاف أو التخريب، تجنب الكفالات المالية الباهظة، أما في القضايا الأكثر خطورة، فمن المناسب فرض كفالة مالية لضمان الامتثال، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية للمتهم.

تقدير الكفالة وأعباؤها على المتهمين

وينتقد صايمة المغالاة في تقدير الكفالات من قبل بعض القضاة، حيث تصل في بعض الحالات الى عشرة آلاف دينار، ما يثقل كاهل المتهمين، لا سيما في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، ويؤكد أن القاضي ينبغي أن يوازن بين تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان امتثال المتهم، دون فرض أعباء مالية غير منطقية.

“خاصة أن هذه المسألة تترك لتقدير القاضي في تحديد قيمة الكفالة، الذي يُفترض أن يوازن بين ضمان الامتثال وتحقيق العدالة الاجتماعية، وألا يبالغ في فرض كفالات قد تكون عبئًا ثقيلًا على المتهمين، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها المجتمع”، يوضح صايمة.

وينوه إلى أنه يدعم استخدام الكفالة النقدية في بعض الحالات، شريطة أن تكون متناسبة مع الإمكانيات المالية للمتهم وظروفه الاقتصادية. 

وتجدر الإشارة إلى أن المتهم يستطيع تقديم طلب للمحكمة لاسترداد الكفالة في حال التزم بجميع جلسات المحاكمة، ما يعكس أهمية جعل قيمة الكفالة متناسبة مع المستوى الاقتصادي للمتهم وتحديدها بشكل عادل وغير مجحف.

وتُعتبر المؤسسة القانونية الدولية واحدة من الجهات البارزة التي تقدم خدمات الدفاع عن المتهمين المعوزين بشكل مجاني. ومن خلال دورها الحيوي، توفر هذه المؤسسة المساعدة القانونية للأفراد الذين لا يستطيعون توكيل محامين للدفاع عنهم أمام المحاكم الجزائية.

وفي السياق، يؤكد المستشار القانوني في المؤسسة، المحامي غضنفر كممجي، على أهمية حماية حقوق الأفراد وضمان المساواة في الوصول إلى العدالة.

ويقول: “الأصل في الإنسان أنه يولد حرًا، ولا يجوز أن يُوقف إلا وفق ضوابط قانونية صارمة”، مُشددًا على أن الحرية تُعد من أهم المبادئ الإنسانية التي ينص عليها القانون الأساسي. 

وأوضح كممجي أن قانون الإجراءات الجزائية لعام 2001 وضع مجموعة من المعايير التي تحدد الحالات التي يمكن فيها توقيف الشخص، مع ضمان عدم تجاوز المدة القانونية المحددة.

وأشار إلى أن المواد 119 و120 من قانون الإجراءات الجزائية تُلزم الجهات القضائية بالتقيد بضوابط محددة عند اتخاذ قرار التوقيف. والأصل هو عدم التوقيف، لكن إذا كان المتهم بحوزة النيابة العامة، فهي مخولة بتوقيفه لمدة لا تتجاوز 48 ساعة. وإذا اقتضت إجراءات التحقيق استمرار التوقيف، يجب الحصول على إذن من المحكمة المختصة”.

وأضاف كممجي: “المشرع شدد كثيرًا على مسألة التوقيف، حيث جعل الأصل هو الحرية. وعليه، فإن المحكمة هي الجهة التي تقرر فيما إذا كان هناك ضرورة لتوقيف المتهم أم لا. فإذا لم تكن هناك حاجة لذلك، يتم إخلاء سبيله دون قيد أو شرط. وفي بعض الحالات، قد تُفرض كفالة لضمان حضور المتهم جلسات المحاكمة.”

وبخصوص أنواع الكفالات التي قد تُفرض على المتهمين، كالكفالة المالية أو العدلية أو الشخصية. يرى كممجي أن اللجوء إلى الكفالة المالية يجب أن يكون استثناءً وليس قاعدة، موضحًا: “إذا رأى القاضي ضرورة لضمانات إضافية لحضور المتهم، قد يلجأ إلى الكفالة المالية. ولكن يجب أولاً استنفاد جميع الخيارات الأخرى.”

ونوه إلى الظروف الاقتصادية الصعبة التي يواجهها العديد من المتهمين، موضحًا أن الفقراء يقضون فترات أطول في التوقيف مقارنة بالأغنياء. فعندما تنتهي القضية، يمكن استرداد مبلغ الكفالة، ولكن الفكرة أن الفقير قد لا يكون قادرًا على توفير الكفالة من الأساس، ما يؤدي إلى بقائه في السجن لفترة أطول، وهذا يشكل تجريمًا للفقر وليس للشخص”.

ويختم كممجي بالقول: “المادة التاسعة من القانون الأساسي والمبادئ الدستورية والقوانين الدولية جميعها تؤكد على مبدأ المساواة بين الناس. يجب ألا يكون الفقر عائقًا أمام حصول أي شخص على حقه في الحرية أو العدالة.”

استبدال الكفالة المالية.. ضرورة قانونية

وتابع كممجي أن القانون ينص على أن القاضي، إذا وجد أن المتهم غير قادر على دفع الكفالة النقدية، يحق له استبدالها ببدائل أخرى، والهدف من ذلك هو منع احتجاز الأشخاص فقط بسبب عدم قدرتهم على دفع الكفالة. وهذا الإجراء يهدف إلى تعزيز المساواة وضمان عدم معاقبة الفقر.

الكفالة المالية.. الخيار الاخير

ويرى كممجي أن الكفالة المالية يجب أن تكون الملاذ الأخير، ويجب على القاضي مراعاة الحالة المالية للمتهم، في كثير من الأحيان، تُفرض كفالة مالية على المتهم، ما يدفعه لتقديم طلب لتبديل شروط الكفالة. ولكن، قد يتأخر البت في هذا الطلب بسبب انتهاء دوام المحكمة، ما يؤدي إلى قضاء المتهم يومًا إضافيًا في التوقيف ليس لسبب قانوني، بل بسبب إجراءات إدارية.

عدم تجريم الفقر: مبدأ أساسي

ويؤكد كممجي أن تجنب تجريم الفقر هو مبدأ أساسي يجب الالتزام به. يجب أن تبتعد القوانين والإجراءات عن أي ارتباط مادي يربط الحرية بالقدرة المالية، والقضاء الجنائي يجب أن يضمن محاكمة قانونية عادلة، حيث الأصل هو أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، والأصل هو الحرية.

التداعيات الاجتماعية والنفسية للتوقيف

وينوه كممجي إلى أن التوقيف قد يترك آثارًا نفسية واقتصادية دائمة على المتهم. فحتى بعد إعلان براءته، يظل المتهم في مواجهة وصمة اجتماعية تؤثر على مستقبله. بالإضافة إلى ذلك، قد يجد نفسه معرضًا للاندماج في بيئات غير ملائمة خلال فترة التوقيف، ما يزيد من احتمالية الانخراط في سلوكيات سلبية.

ويتابع: “في النهاية، يجب أن تسعى الأنظمة القانونية إلى تعزيز العدالة وعدم استخدام الفقر كذريعة لتقييد حرية الأفراد. العقوبات يجب أن تُطبق فقط بعد إثبات الإدانة، ويجب أن تكون رادعة وعادلة، مع الالتزام بعدم معاقبة الأفراد على أساس ظروفهم الاقتصادية. هذا النهج سيعزز من مصداقية النظام القضائي ويحقق عدالة أكثر شمولًا للجميع.

ويضيف انه لا يجوز أن يتحول الفقر إلى عقوبة تُفرض على الشخص. المسألة ترتبط بتقدير القاضي لضمان سير إجراءات القضية بشكل عادل، مع مراعاة الظروف الاقتصادية للمتهم.

ويطالب خبراء القانون بتقييم القدرة المالية للمتهم قبل إصدار نوع الكفالة شرط الافراج عنه وتحديد مبلغ الكفالة بناءً على الحالة المالية للمتهم، بما يضمن عدم تعسف النظام ضد غير القادرين، واستبدال الكفالة المالية بالشخصية وفيها يمكن السماح للمتهمين بالاعتماد على كفلاء شخصيين بدلاً من دفع مبالغ مالية، أو المراقبة الإلكترونية، او استخدام الأجهزة الإلكترونية لمراقبة حركة المتهمين كبديل عن الاحتجاز.

الكفالة الشخصية هي الأصل في قانون الإجراءات الجزائية

ويرى القاضي السابق والمحاضر في جامعة بيرزيت الأستاذ، فالح حمارشة، أن اللجوء المباشر من قبل المحاكم إلى الكفالة النقدية يعد إجراءً غير قانوني، موضحًا أن الأصل في قانون الإجراءات الجزائية هو أن تكون الكفالة عند الإفراج عن المتهم كفالة شخصية. مشيرًا إلى أنه في حال عجز المتهم عن إحضار كفيل شخصي، يحق له التقدم بطلب إلى المحكمة لتحويل الكفالة من شخصية إلى مالية، وليس العكس.

ويؤكد حمارشة، أن قانون الإجراءات الجزائية رقم 3 لسنة 2001 المادة 139، تشير الى أن المحكمة لا يمكنها فرض الكفالة المالية مباشرة إلا بناءً على طلب المتهم، بعد إثبات عجزه عن توفير كفيل شخصي، معتبرًا أن الممارسات الحالية في المحاكم تخالف هذا النص القانوني، حيث يتم اللجوء بشكل واسع إلى الكفالة النقدية مباشرة، وأحيانًا يُطلب من المتهم توفير الكفالتين المالية والشخصية معًا، ما يثقل كاهل المتهمين، خاصةً في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة.

مخالفات في تطبيق القانون داخل المحاكم

ويشير حمارشة إلى أن هذه المخالفات تؤدي إلى التمييز بين المتهمين بناءً على قدراتهم المالية، ما يناقض مبدأ المساواة الذي يسعى القانون لتحقيقه. ويوضح أن الالتزام بتطبيق النصوص القانونية بالشكل السليم يضمن أن تكون الكفالة في متناول الجميع عبر كفيل شخصي، بعيدًا عن الأعباء المالية التي لا يستطيع البعض تحملها.

وينوه إلى أن الكفالة المالية تُرهق الكثير من المتهمين، إذ إنها قد تفوق قدراتهم المالية ولا تحقق الهدف الأساسي من الكفالة، وهو ضمان استمرار محاكمتهم وهم طلقاء دون التأثير على سير العدالة أو النظام العام.

ويختم حمارشة بالقول: إنه إذا وصلت المحكمة إلى قناعة بأن المتهم لا يُشكل خطرًا على الأمن أو المحاكمة، فيجب عليها أن تسهّل شروط الكفالة، بدلاً من فرض تعقيدات مالية تجعل الإفراج عنه مستحيلًا بسبب الفقر أو العجز عن الدفع، وكأن الإفراج المشروط بالكفالة يصبح غير ذي جدوى في هذه الحالات.

إن العدالة لا تتحقق عندما يصبح المال هو الفاصل بين الحرية والتوقيف، فطلب الإفراج بكفالة مالية يخلق فجوة بين من يستطيع دفعها ومن يعجز عن ذلك بسبب ظروفه الاقتصادية. ومن هنا، يجب إعادة النظر في هذه الآلية واعتماد بدائل أكثر عدلاً وإنصافًا، لضمان المساواة بين الجميع أمام القانون. 

 رئيس المكتب الفني قاضي المحكمة العليا القاضي رائد عساف، يسلط الضوء على الكفالات المالية ودورها في تحقيق العدالة وضمان حضور المتهمين أمام القضاء.

الأصل هو البراءة

أكد القاضي عساف أن الكفالة تُفرض لضمان تحقيق غاية محددة، وهي ضمان حضور المتهم إلى المحاكمة، وأضاف: “الأصل أن كل إنسان بريء حتى تثبت إدانته، وهو مبدأ قانوني مهم يتيح للمتهم أن يُحاكم وهو طليق حتى صدور حكم نهائي من محكمة الاستئناف”.

وأوضح أن الهدف من الكفالة ليس التضييق على المتهم، بل توفير ضمانات لحضوره جلسات المحاكمة، ومن هذه الضمانات، الكفالة الشخصية أو العدلية أو النقدية، بالإضافة إلى شروط أخرى مثل منع السفر أو إثبات الحضور الدوري في مراكز الشرطة.

مرونة القاضي في تحديد شروط الكفالة

أشار القاضي عساف إلى أن شروط الكفالة تتفاوت بناءً على ظروف كل قضية، ومكان إقامة المتهم، وطبيعة التهمة، وذكر أن القاضي يتمتع بسلطة تقديرية لتحديد هذه الشروط، قائلاً: “إن القاضي يتدرج بوضع الكفالات، واذا كان لدى القاضي اعتقاد بأن المتهم سيلتزم بالحضور، قد يكتفي بكفالة شخصية، او اثبات مكان السكن بالحضور الى أقرب مركز شرطي كل فترة، أما إذا وجد القاضي مبررات للتشديد، فقد يفرض على المتهم كفالة نقدية، مشددا على أن الهدف هو ضمان حضور المتهم جلسات المحاكمة وسرعة الفصل بالدعاوى”.

وأضاف أن القضايا الكبرى، خاصة الجنايات، تتطلب أحيانًا تشديدًا في شروط الإفراج لضمان سرعة الفصل في الدعاوى. وبيّن أن المحاكم تواجه تحديات بسبب تغيب المتهمين، وهو ما يعطل سير العدالة.

دور الكفالة في تسريع إجراءات المحاكمة

وحول أهمية حضور المتهمين، أوضح القاضي أن غياب المتهم يُضاعف الجهد المبذول من القضاة والمحامين والموظفين. وقال: “عندما لا يحضر المتهم، تُعتبر المحاكمة غيابية كمتهم فار من وجه العدالة، وإذا أُلقي القبض على المتهم لاحقًا، يمنع اخلاء سبيله منعا نهائيا، ويعتبر الحكم ملغي وتُعاد المحاكمة من البداية، ما يعني مضاعفة العمل على نفس القضية”.

وأشار إلى أن القضاء يسعى دائمًا إلى تحقيق العدالة، ويتخذ موقفًا محايدًا لضمان حقوق جميع الأطراف. وأضاف: “الشك يُفسَّر دائمًا لصالح المتهم، وهذا أحد المبادئ الأساسية في المحاكمات”.

ويتابع ان أي شرط يضعه القاضي هو لضمان حضور جلسات المحاكمة والكفالة، تبقى أمانة، وفي اليوم الذي تنتهي به الدعوى تسترد الكفالة ولكنها تبقى امانة مهددة بالمصادرة الى خزينة الدولة في حال أخل المتهم بشروط اخلاء سبيله.

إجراءات لمصلحة المجتمع

أكد القاضي عساف أن الهدف من الكفالات ليس جمع الأموال، بل ضمان التزام المتهم بالحضور. وقال: “في حال انتهت القضية، تُعاد الكفالة إلى صاحبها، إلا إذا أخل المتهم بشروط الإفراج، حيث يتم مصادرتها وتحويلها إلى خزينة الدولة”.

كما انه لا يتم مصادرتها فورًا بل بعد إرسال إخطارات للمتهم بالحضور للمحكمة، وإن لم يحضر يتم مصادرتها.

وأشار إلى أن الكفالة النقدية تُعتبر أداة فعالة لضمان التزام المتهم، قائلاً: “المال يؤثر بشكل كبير، وهو بمثابة العصا المسلطة التي تُشعر المتهم بالمسؤولية تجاه شروط الإفراج”.

مرونة في تعديل شروط الكفالة

وأوضح القاضي عساف أن المتهم الذي لا يستطيع دفع الكفالة النقدية يمكنه تقديم طلب لتغيير شروط الكفالة. وأضاف: “إذا رأت المحكمة ضرورة الإفراج عنه، يمكن استبدال الكفالة بشروط أخرى مثل منع السفر أو الحضور الدوري الى أقرب مركز شرطة لديه، بما يحقق الرغبة التي يريدها القاضي وهي الالتزام بشروط الكفالة لحضور جلسات المحاكمة والسير في الدعوى”.

ويؤكد القاضي أن تحديد الكفالة يعتمد بشكل رئيسي على ملف المتهم، حيث يختلف كل ملف عن الآخر بناءً على ظروف القضية ومعطياتها. ويأخذ القاضي بعين الاعتبار مكان إقامة المتهم ومدى سهولة أو صعوبة إحضاره من قبل الجهات الشرطية. بناءً على ذلك، يبدأ القاضي بتطبيق أقل شروط الكفالة، مثل الكفالة الشخصية، وفي حال عدم كفايتها لضمان الحضور، يتدرج إلى الكفالة العدلية. وإذا لم تضمن هذه الإجراءات حضور المتهم، يلجأ القاضي إلى الكفالة النقدية، حيث يرى أنها الأكثر تأثيرًا على التزام المتهم.

وشدد القاضي على أن الهدف من الكفالة النقدية ليس مصادرة الأموال، بل ضمان التزام المتهم بشروط الإفراج وحضوره جلسات المحاكمة. وأضاف: “أن القاضي يعمل لتحقيق مصلحة المجتمع، حيث تصدر أحكام القضاء باسم الشعب والمجتمع، وليس لصالح فرد أو جهة بعينها. ولذلك، أضع نفسي في إطار ما يتطلع إليه المجتمع من عدالة وإنصاف، والهدف الرئيسي هو تحقيق العدالة”.

وقال: “القاضي لا يسعى إلى مصادرة الكفالة، بل إلى ضمان سير العدالة. المحاكم تعمل من أجل الحقيقة، والالتزام بشروط الكفالة يعكس احترام المتهم للقضاء، وعند شعور القاضي بأنه لا يوجد احترام للقضاء وضمان سير الدعوى في اطارها القانوني ووجود من يعطلها يسعى القاضي لوضع ضوابط لمن يريد تعطيل سير الدعوى”.

وأوضح عساف بأنه تُفرض أشد شروط الكفالة في القضايا الجزائية الكبرى، التي تُعرف بالجنايات، ويبلغ عدد هذه الجنايات في المحاكم أكثر من خمسة آلاف جناية، في حين يصل إجمالي الدعاوى الجزائية إلى نحو 36 ألف قضية.

ويُعد تغيّب المتهمين عن جلسات المحاكمة من أبرز أسباب تعطيل الفصل في هذه القضايا. ورغم أن الأصل يقتضي أن يحرص المتهم على حضور جلسات المحاكمة للدفاع عن نفسه والسعي نحو البراءة، إلا أن البعض يتغيب بهدف إطالة أمد التقاضي، مما يزيد من عبء المحاكم ويؤخر تحقيق العدالة.

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة