loading

فضا: مساحة أمل بزغت وسط العتمة أنرنها ثلاث فتيات

تسنيم دراويش

في غرفة لا تتجاوز مساحتها ال60 مترًا مربعًا، أوجدت “لميس قعد”، و”ترتيل النّتشة”، و”رغد الهيموني” فضاءً جديدًا للأطفال والنساء في مدينة الخليل. أطلقن عليه اسم “فضا” ليكون أكثر من مجرد مساحة شخصية؛ بل رمزًا للنور في رحلة الحياة المظلمة.

تقول ترتيل النتشة أنهم اختاروا اسم “فضا” لأنّه يعكس عدّة أمور، فمن الممكن أن يعتبره بعض الأشخاص (الفضاء) وفضاء الإنسان الخاص هو مساحته الّتي يمكن أن يشكّل فيها حياته كما يريد، أمّا المعنى الآخر فهو (فضا) النّور، وهو الشّيء الّذي يبحث عنه الإنسان في حياته، بأن يهتدي إلى نوره الدّاخلي الحقيقيّ.

بدأت قصة “فضا” عندما كانت الفتيات الثلاث يبحثن عن مكان يُفرِغن فيه عن أنفسهن. تقول النتشة أنها وبعد رحلة بحث طويلة وسؤال المختصين، لم يجدن مساحة مخصصة للتفريغ النفسي في المدينة، لكنهن لم يستسلمن وقررن خلقها بأنفسهن.” انطلقت “فضا” لتُشبع الحاجة الملحة لوجود مساحة آمنة للتفريغ النفسي، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها الأفراد في المجتمع الفلسطيني.

أنشطة مبتكرة للتفريغ النفسي

وُجدت “فضا” لتمكين الأطفال والنّساء بشكل خاص في التعامل مع ضغوطات الحياة بشكل صحي. من خلال الأنشطة المختلفة، حيث يساعد المشاركون في التعبير عن ذاتهم ومشاعرهم، ثم يتم عقد حلقات نقاش حول ما مروا به في النشاط. ويتم اختيار الأنشطة بناءً على احتياجات المجتمع أو اقتراحات المشاركين، ليتم تطويع الوِرَش بما يُحقق أكبر فائدة ومتعة.

ترتيل بينت أنهم يركزون على فئة الأطفال، لأن الطفولة الصحية تؤدي إلى حياة أفضل. مضيفة أنه من الجيد أن يُوجه الأطفال إلى طرق التعبير عن ذواتهم بطريقة صحية وآمنة. مشيرة إلى أنهم يلمسون حاجة فئة النساء، إلى التفريغ بشكل مستمر، فالعبء الواقع على المرأة هو عبء كبير.

الفكرة تتطور بتطور الوسائل والأدوات

في البداية، ركزت “فضا” على ورشات التفريغ النفسي عن طريق الحركة، لكن مع الوقت، تطورت لتشمل الفنون المختلفة مثل الرسم، الكتابة، والمسرح. بالإضافة إلى ذلك، أدخلت “فضا” تقنية جديدة تُعرف بـ “اللارب” (لعب الأدوار الحي)، وهي وسيلة مبتكرة لتعزيز التعبير عن المشاعر والمواقف بطريقة تفاعلية وإبداعية. مبينة أن اللارب، يُعطى الميسر المشاركين شخصيات معينة وسيناريو محدد، وعلى أساسه يتصرفون خلال اللعبة.

وتختلف “اللارب” عن المسرح في أن المشاركين يتقمصون شخصياتهم الخاصة ويتصرفون وفقًا لذلك، وليس وفق نص معين. لا يشترط أن يكون لدى المشاركين خبرة تمثيلية. ونتيجة لذلك، أصبحت “فضا” تقدم ورشًا تخصصية لطلاب علم النفس، لتعلمهم هذه التقنيات الحديثة كما تطمح الفتيات مستقبلًا إلى توسيع الفئات المستهدفة.

دعم نفسي بطريقة مبتكرة

تجمع الورشات بين تقديم الدعم النفسي المباشر من خلال مختصين وأنشطة التفريغ النفسي المختلفة. فالبرامج المقدمة في الورش هي من إعداد مختصّين، بالإضافة إلى حضور المختصة النّفسيّة الخاصّة بالفريق كافة الأنشطة.

الأخصائية رغد الهيموني أفادت بأن هناك فئة كبيرة من المجتمع تخاف من الذّهاب إلى المختصّين النّفسيين بسبب الأفكار الخاطئة السّائدة في المجتمع، حيث يربط الصحة النفسية بالوصمة السيئة على الشخص. لذلك فهم يسعون لأن يدرك الأشخاص أنها لا تقل أهمية عن أي احتياج آخر للإنسان.

الأثر والتأثير (نمط حياة صحي)

بالرغم من الاعتقادات المترسخة في المجتمع حول الصحة النفسية إلا أن ردود الفعل كانت ايجابية وتوضح الهيموني: ” نرغب أن يغادر المشاركين “فضا” حاملين معهم شعورًا بالرّاحة النّفسيّة، وشعورًا بالإدارك النفسي” مؤكدة أن هذا الشّعور لا ينتهي بانتهاء الورشات، فمن خلال الورشة قد يلمس المشارك شيئًا في ذاته ليفكّر فيه، أو يأخذ معه شيئًا ليكون نمطًا في حياته. فبعض التمارين يمكن أن تكون مفيدة للإسعاف النفسي الأولي في حالات الطوارئ، مثل تمارين التنفس.

غالبًا لا يمكن ملاحظة تغييرًا سريعًا خاصة بالمواضيع التي تتعلق بالنفس البشرية، إلا أن “فضا” أحدثت تغيرات في سلوك و نظرة المشاركين، تقول الهيموني إن المشاركين بدأوا يعبّرون عن الكثير مما كانوا يخفونه في الماضي من مشاعر وأحداث مخزنة في اللاوعي. مضيفة أنه عندما يدرك الإنسان ذاته ويحدد مصدر الألم، فإنه يصبح قادرًا على التغلب عليه.

كما وحدثتنا ترتيل عن أكثر اللحظات التي شعرت فيها بالتأثير على الوعي المجتمعي بأهمية التفريغ النفسي قائلة: “لامست التأثير الفعلي للمبادرة عندما بدأ المشاركون بالتردد باستمرار على المساحة، فبعد أن يجرّب المشاركون أنشطتنا يعودون مرّةً أخرى وأخرى، وهذا بحدِّ ذاته نجاحًا بالنّسبة لنا”

وأضافت أنه كما أعطينا “فضا” أعطتنا، ففضا منحتهم فرحة لا توصف لأنهم أدركوا أننا شعب يحب أن يعبر، وأنه رغم الاختلافات الكثيرة، إلا أن همومنا وحاجاتنا تبقى مشتركة.

الصعوبات والتحديات

كون ” فضا” يعتبر المشروع الأول من نوعه في المنطقة واجهت الفتيات صعوبة في تحديد شكله العام، ولكن بعد دراسة البيئة والإطلاع على مشاريع مشابهة خارج البلاد عملت الفتيات على مواءمة المشروع بما يتناسب مع حاجات المجتمع. كما وواجهن تحديًا في العثور على مكان مناسب لتأسيس المبادرة، لكنهم تمكنوا بالتعاون مع “Giz” وبلدية الخليل من الحصول على مساحة في المركز الكوري لتنفيذ الأنشطة.

النموذج المتنقل ل”فضا”

” فضا ليست مجرد مكان، بل فكرة تعيد بناء الروح “بهذه الكلمات اختصرت ترتيل المبادرة فهي لا تقتصر على المساحة المخصصة فقط، إنما تجسدت بعمل شراكات مع المؤسسات المختلفة. تبين ترتيل أن “فضا” تعكس رؤيتهم بأن الدعم النفسي يجب أن يصل لكل فلسطيني، ولذلك فهم يعملون على شراكات مع مؤسسات مختلفة.” وتطورت هذه الشراكات لتشمل مسرح نعم، مختبر الإبداع، جامعة الخليل وغيرها من المؤسسات، مما يُبرز الحاجة الكبيرة لهذه الأنشطة في المجتمع.

أمل بزغ وسط العتمة

“هذا الفضا هو فضاك” ليس مجرد شعار خاطبت به الفتيات الثلاثة المجتمع إنما أمل بزغ وسط العتمة. ففي ظل الظروف السياسية القاسية، نظمت “فضا” نشاطًا خاصًا بعنوان “بهالعتمة في فضا”، حيث اجتمع الأطفال للتعبير عن مشاعرهم ومخاوفهم. فتؤكد ترتيل أنهم كانوا مهتمين خلال فترة الحرب بأن يكون هناك ورشات خاصة للأطفال، لأن التأثير يختلف من طفل لآخر. مضيفة أنه في هذه العتمة، تأمل “فضا” أن ترى النور في قلوب أبناء شعبنا.

رسالة الأمل

في الختام، وجهت مسؤولة التواصل والتطوير لميس قعد رسالة لكل فلسطيني مفادها بضرورة الاستثمار في الصحة النفسية، واصفة إياه بالاستثمار غير الخاسر موضحة أنه من خلال تحسين صحتك النفسية، فإنك تصبح أقوى وتساعد من حولك بأن يكونوا أقوى.

لشعب يعيش ظروف استثنائية تنعكس على الجوانب النفسية قد تكون “فضا” بداية لتجارب مشابهة في مناطق فلسطينية أخرى، فإن كان الفضاء هو هبة إلهية وجودها من المسلمات تمامًا مثل الشمس والهواء، فإن فكرة “فضا” جديرة بأن تُّعمم وتصبح من الأساسيات بل البديهيات في سائر مناطقنا الفلسطينية.

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة