تسنيم دراويش
لم يكن صدام حسين إياد رجب مجرد طفل في عائلته، بل كان “زلمة الدار”، كما اعتادوا مناداته. لقبٌ لم يكن مجرد مزاح، بل حقيقة فُرضت عليه بسبب الظروف. فقد اضطُر منذ صغره إلى تحمّل مسؤوليات تفوق عمره، خاصة بعد إصابة والده في العمل، فكان السند والعون، رغم أنه لم يُكمل عامه العاشر. وكان الجميع في المدينة يعرفون صدام بابتسامته الدافئة التي كانت تُخفي نّضجًا سابقًا لأوانه.
لم يكن كالأطفال الآخرين، فبدلًا من قضاء وقته في اللعب، كان يساعد والده. يقول والده إياد رجب “كان يبلغ من العمر عشر سنوات فقط، لكنه تحمل أعباء تفوق سنه. لم يتركني أبدًا، كان يرافقني في كل مشاويري، ويحضر لي ما أحتاجه.”
وكغيره من الأطفال فُرِضَت عليه عزلة قسرية بعدما توقفت المدارس لفترة طويلة بسبب الأوضاع الأمنية المتوترة في شمال فلسطين. حُرم صدام من التنقل بحرية ومن الذهاب للمدرسة، ومع ذلك ظل صدام طفلًا يعشق الحياة.
في مساء الثلاثاء 28 يناير/كانون الثاني، طلب صدام من والده أن يُشعلوا نارًا، قبل الذهاب لصلاة العشاء بالمسجد، خاصة بعد أن فقد التواصل مع أصدقائه لفترة طويلة. في البداية، رفض والده الطلب، فهم يعيشون في عمارة سكنية، ولكن سرعان ما استجاب لرغبة طفله الوحيد، واجتمع الجيران على سطح المبنى حول النار، يتبادلون الأحاديث في جلسة دافئة وسط البرد القارس .
ووسط هذه الأجواء العائلية، تذكر صدام والدته و شقيقاته وشقيقه الذين يعيشون في منزل آخر بسبب انفصال والديه. فشعر باشتياقٍ شديد، حيث نزل لأسفل المبنى لأن الإنترنت جيد هناك واتصل بوالدته ليطمئن عليها ويخبرها برغبته في رؤيتها، لكن الأوضاع الأمنية لم تكن تسمح بذلك.
شقيقته رغد تحدثت حول تفاصيل الاتصال الأخير قائلة بأن صدام قال لوالدته “ماما، اشتقتلك.. بدي أجي أشوفك.” ردّت والدته بحزن: “يا ماما، الوضع صعب.. ما بقدر أخليك تطلع، خايفة عليك.” وذلك لأن الأوضاع في شمال الضفة صعبة ويمكن أن يصاب بأي أذى، وبالرغم من أنهما في مدينة واحدة إلا أنهما لم يستطيعا رؤية بعضهما. لكن ما لم يكن يعلمه أحد، أن هذه المكالمة ستكون الأخيرة.
وفجأة سمع سكان العمارة صوت إطلاق الرصاص، لم يكن هناك أي بوادر لوجود جيش الاحتلال في المنطقة، لم يكن هناك مقاومون، ولا حتى اشتباك في الحي الذي كانوا فيه. لم يكن هناك أي سبب لإطلاق النار. هذا ما أكده والده، الذي ما زال غير قادر على استيعاب ما حدث. كيف يمكن أن تُطلق رصاصة قاتلة على طفل أعزل؟ أسرع الأب المصاب لينزل من السطح، لكنه لم يستطع الركض، فحركته كانت بطيئة بسبب إصابته السابقة. يقول: “أخذت مني الطريق دقيقة كاملة بسبب إصابتي. حاولت أن أصل إليه بأسرع ما يمكن. وجدت ابني يصرخ من الألم، والدماء تغطي جسده الصغير. كنت أريد أن أحمله، لكني لم أستطع كما يليق به، كنت أحتاجه ليكون سندي، لكنه كان هو الذي يحتاجني في تلك اللحظة.”
رصاصة واحدة اخترقت جسده الصغير من أسفل ظهره، وخرجت من أعلى صدره، مدمّرة أعضائه الداخلية.
وصلت سيارة الإسعاف بسرعة، لكن جنود الاحتلال منعوا والده من مرافقته إلى المستشفى. بل أكثر من ذلك، اقتحموا العمارة واحتجزوا السكان، ولم يَسمحوا لأي أحد بالتحرك.
يقول والده: “بقيت ساعة كاملة محتجزًا، لا أعرف ماذا حدث لابني، توسّلت لضابطة الاحتلال أن تتركني أذهب معه، لكنها رفضت.” عندما تمكن أخيرًا من الوصول إلى المستشفى، كان الأطباء قد بدأوا محاولاتهم لإنقاذ الطفل. وأخبروه أن الرصاصة دخلت من أسفل ظهره وخرجت من أعلى صدره، وفي طريقها ألحقت الأذى بأعضائه الداخلية كما أنه نزف الكثير من الدماء، وكان بحاجة إلى عملية طارئة. ولكن، حتى في لحظاته الحرجة، لم يسلم من إجراءات الاحتلال التعسفية.
عند نقله من مستشفى ثابت ثابت إلى مستشفى رفيديا الحكومي في نابلس، احتجز الاحتلال سيارة الإسعاف لمدة 40 دقيقة، وأجبروا المسعفين على النزول وتفتيشهم. وعندما حاول المسعف إقناعهم بأن المصاب مجرد طفل، قال الجندي ببرود قاتل: “هذا إرهابي.. لازم يموت.” تأخرت العملية الجراحية ساعتين ونصف بسبب العرقلة التي فرضها الاحتلال على الإسعاف والطرق. دخل صدام إلى غرفة العمليات، لكن الضرر كان قد أصبح كبيرًا. تعطلت وظائف الكلى، وكان بحاجة إلى غسيل فوري. لذلك تم نقله إلى مستشفى الاستشاري في رام الله، وهناك توقف قلبه مرتين، لكن الأطباء نجحوا في إنعاشه. لكن في المرة الثالثة، لم يستطع قلبه الصغير التحمل. وقف والده أمامه، ينظر إليه بلا حيلة. قال الطبيب بصوت خافت: “الله يعطيك العمر.” تساءل الأب: كيف سيكون العمر بلا صدام؟
في يوم الجمعة 7 فبراير/ شباط 2025، استشهد صدام، ليبقى في ذاكرة كل من عرفه، رمزًا للظلم الذي لحق به وبغيره من الأطفال الأبرياء. لم يكن صدام مجرد طفل، بل كان الروح التي تسند العائلة. يقول والده: “أنا بعده كلي فراغ.. كنت أعتمد عليه في كل شيء، كان صديقي، ابني وسندي. المنزل بدونه موحش.” حتى شقيقته رغد، التي تكبره بعامين، لم تستطع تقبّل رحيله. بدموعها قالت: “كنت ألعب معه على الدراجة.. كنت أخرج معه نشتري مع بعض. بدي يرجع.. ندمانة إني يوم زعلته.. بدي أكون مثله، بدي أساعد الكل زيه.”
تابع والده بحزن: “قبل أن أتزوج، كان الجميع ينادونني أبو صدام لأنني كنت متأثرًا بصدام حسين. وعندما جاء طفلي الأول، أسميته صدام، وكأنني أتمنى أن يأخذ من صفات الرجل الذي كنت معجبًا به. للأسف، لم يعش طويلًا لأرى إن كان يشبهه، لكنه تشارك معه في الشهادة.” أخذت الرصاصة روح صدام. فلم تفرّق بين رجل وطفل، بين مقاوم وحالم بالحياة.
ارتقى “زلمة الدار” شهيدًا، تاركًا خلفه بيتًا افتقد روحه، وأمًا كانت تعتمد عليه، وعائلة ستظل تذكره ليس فقط كطفل، بل كقلب ظل ينبض بحبهم حتى لحظته الأخيرة. لم يدخل المسجد في تلك الليلة، لكنه ذهب إلى السماء، تاركًا وراءه قصة لن تُنسى، وجرحًا لن يلتئم في قلب عائلته التي لم تسمع صوته مجددًا، بل فقدت صوته إلى الأبد.