loading

ليندا الشوبكي: أمومة ولدت في رحم الحرب

تسنيم دراويش

في خِضَم الحرب التي كانت تلتهم كل شيء، وبينما كانت المخيمات تغصّ بالمآسي والدموع، وجدت ليندا الشوبكي نفسها أمام معجزة غير متوقعة. بعد سنوات من المحاولات والعلاجات التي لم تؤتِ ثمارها، جاء الخبر الذي قلب حياتها رأسًا على عقب: حامل!

انبثق هذا النبأ كضوء خافت في نفقٍ مظلم. لم تصدّق ليندا الأمر في البداية، لكنها حين نظرت إلى عيون زوجها وأبنائها الممتلئة بالفرح، أدركت أن هذا الحمل لم يكن مجرد حدث عابر، بل أمل جديد بعد عشر سنوات من الانتظار. تقول ليندا لبالغراف “كان شعورًا لا يوصف، وسط الحرب والفقد، أن تحمل في داخلك حياةً جديدة”، ولكن سرعان ما بدأت معركة أخرى.

حمل في قلب الجحيم

“كانت تجربة صعبة لا يمكن وصفها”، بهذه الكلمات عبرت الشوبكي وهي تستذكر أيام الحمل التي مرت كمعركة يومية.موضحة أنه لم يكن لديهم مستشفيات مجهزة، ولا حتى مراكز طبية يمكنها أن تقدم العون، فقط خيام مهترئة تقاوم الرياح والقذائف، وحياة تُختزل في النجاة يومًا بعد يوم.

اضطرت الشوبكي للنزوح بداية الحرب من شمال غزة إلى جنوبها ولكن هذا ليس النزوح الوحيد،مبينة أنهم كانوا كل شهر أو شهرين يتلقون تهديدًا بأن منطقتهم ستتعرض للهجوم، فكان عليهم حمل خيامهم والرحيل. مضيفة  تخيّل أن تكون حاملًا ومجبرًا على الهروب، وأن تحمل جسدًا مثقلاً بالتعب بينما تحمل أيضًا أطفالك وخيمتك وحياتك بأكملها على ظهرك.

المجاعة… التحدي الأقسى

لم يكن الجوع غريبًا على سكان المخيم، لكنه بالنسبة للحامل كان كابوسًا مضاعفًا. “فكيف لحامل أن تعيش دون طعام؟”، تساءلت الشوبكي بحرقة. مفيدة بأنه لم تكن هناك إمدادات غذائية، والأسعار ارتفعت بشكل جنوني، حتى الدقيق إن وجد أصبح رفاهية لا يمكن تحمل تكلفتها.

وأضافت أنهم كانوا اعتمدوا على المُعلبات في طعامهم لفترة طويلة مما سبب لها فقر دم طيلة فترة حملها. إلا أنها وفي ظل شُح الفواكه واللحوم الطبيعية، حاولت أن تتأقلم،  فاستبدلت الأطعمة بما توفر من فيتامينات في السوق،  وحاولت المحافظة على صحتها وصحة جنينها بجهد يفوق الوصف. ولكن لم ينطفئ الأمل في قلبها فبين الحرب والجوع والنقص، كان هناك شيئًا واحدًا لا ينقص أبدًا: حبها لطفلتها، ورغبتها في أن ترى النور في أفضل صحة.

ملابس طفل جديد… حلم تبعثره الحرب

 لطالما كان قدوم طفل جديد يعني تجهيز ملابس جديدة، أغطية دافئة، وحقيبة ممتلئة بكل ما يحتاجه القادم الصغير.

وهكذا ما فعلته الشوبكي مع طفليها السابقين قبل عشر سنوات، لكن في الحرب لا يوجد متاجر تعجّ بملابس الأطفال كما في الماضي. فقط هناك بعض الخياطين الذين يطلبون أسعارًا لا يمكن تحمّلها، في وقت أصبح فيه مجرد الحصول على لقمة العيش معركة يومية. 

الشوبكي لم تستسلم، بل بحثت عن حلول، مُحاوِلَة أن تصنع من العدم شيئًا. مضيفة أن والدتها كان لديها معرفة بالخِياطة، فقاموا بجلب ملابس بحالة جيدة لكنها مخصصة للكبار، ثم أعادت تفصيلها لتُناسب المولود الجديد. ورغم الجهد، لم تتمكنا سوى من توفير غيارين فقط لطفلها القادم. مؤكدة أنها كانت تتمنى أن تشتري له كل شيء، وأن تُلبسه أجمل الملابس، لكن الحرب سرقت حتى أبسط الأحلام”

غسلت آلام الغزيين… فمن يغسل أوجاعها؟

بسبب الحرب  فقدت الشوبكي وظائفها الثلاث وفقد زوجها عمله، فوجدت في صناعة الصابون مصدر رزق لمواجهة التحديات بأسعار تبدأ من شيكل واحد، غسلت صوابينها آلام الغزيين، محاولة أن تغسل أوجاعها ، فكان العمل وسيلتها لإشغال نفسها عن الأفكار القاتلة، لكن الخوف لم يفارقها. 

ورغم حذرها الشديد وخبرتها في التعامل مع المواد الكيميائية، إلا أنه ظهر لها خوف جديد، موضحة “كنت أتخذ كل الاحتياطات الممكنة لتجنب أي ضرر، لكن الخطر كان دائمًا حاضرًا”. ومع معرفتها بحملها، ازداد حرصها، فبدأ زوجها بمساعدتها في بعض المهام، محاولًا حمايتها من أي خطر في بيئة الخيمة غير المهيئة للعمل أو حتى للحياة.

رعاية غائبة… وخطر دائم

لم يكن حصول الشوبكي على الرعاية الطبية خلال حملها أمرًا سهلًا، بل كان مخاطرة حقيقية. ففي أي لحظة قد يستهدف الاحتلال المستشفيات والمراكز الصحية أو حتى الطرق المؤدية للمستشفى، ما جعل كل خطوة تخطوها بحثًا عن العلاج مغامرة غير محسوبة العواقب.

كان البديل الوحيد هو خيام الرعاية الصحية، لكنها لم تكن قريبة، والوصول إليها كان يعني سيرًا طويلًا على الأقدام وسط تعب الحمل وثقل الخوف. تقول ليندا. “كان الازدحام شديدًا، والانتظار مرهقًا، ولم يكن المكان مريحًا على الإطلاق لامرأة حامل”.

وعن الخدمات الطبية، فكانت محدودة للغاية، لا تتعدى تقديم مُكمِلات الحديد لعلاج نقص الدم، وفحص نبض الجنين فقط دون أي متابعة دقيقة لوضعه الصحي. وبحسرة تبين أنها كانت تتمنى أن تطمئن عليه، وأن تراه عبر جهاز السونار، لكن لم يكن ذلك متاحًا” أما العلاج، فكان يقتصر على المسكنات، إن وُجدت.

ولادة وسط الموت… وحلم العودة إلى البيت

بعد سنة وأربعة أشهر من المعاناة، أُعلن عن الهدنة أخيرًا، لتمنح الشوبكي بصيص أمل قبل ولادة طفلتها. تصف شعورها بتأثر: “شعور لا يوصف، وما زلنا غير مستوعبين ما يحدث. لطالما حلمت بأن ألد ابنتي في المنزل، والآن قد يصبح ذلك ممكنًا.”

لكن الفرحة لم تكتمل، فالاحتلال لا يفوّت فرصة لنشر الدمار والخراب قبل كل هدنة. مفيدة أنهم شهدوا كوارث لا تُحصى، حيث عائلات بأكملها أُبيدت، معظمهم من الأطفال والنساء. لكن أكثر ما أرعبها هو سماع خبر وفاة أم مع جنينها، فهذا المشهد يلاحقها دائمًا، وفق تعبيرها. 

قبل الهدنة بيوم، هزّ انفجار قريب خيمة الشوبكي فشعرت أن جسدها لم يعد يحتمل، وبدأ الطلق قبل موعده بأسبوعين. لم تكن الشوبكي مستعدة للولادة بعد، لكن الخوف عجّل بقدوم طفلتها. 

كان الليل حالكًا، والمواصلات معدومة، فلم يكن أمامها سوى طلب سيارة إسعاف. لكنها لم تكن مجرد وسيلة إنقاذ، بل مقامرة بالحياة. موضحة أنها كانت خائفة من الصعود إليها، فسيارات الإسعاف كانت تُستهدف طيلة الحرب، مضيفة أن الاحتلال دائمًا ما يتفنن في قتل الناس قبل تطبيق أي هدنة، وفي أي لحظة كان يمكن أن تُقصف السيارة أو حتى المستشفى نفسه. 

عندما وصلت الشوبكي، لم تجد مكانًا. حيث الأروقة مزدحمة، والأسرة ممتلئة، والأجهزة التي كانت يومًا منقذة لم تعد موجودة. فوضعت طفلتها في الممر، بلا تخدير، بلا مضادات حيوية، بلا حتى مسكنات تخفف عنها هذا الألم الذي لا يزال يلازمها حتى اليوم.

ورغم كل ذلك، تبين أنها كانت هناك لحظة نور وسط العتمة. مضيفة أنها عندما نظرت إلى مها الصغيرة، شعرت أن الله قرّ عينيها بها”، فقد اختارت لها اسم مها تيمّنًا بصديقتها التي بقيت في الشمال.

لكن فرحة النجاة لم تدم طويلًا. كانت طريق العودة من المستشفى كابوسًا آخر—بيوت مهدمة، جثث على الطرقات، ونحيب لا يتوقف. موضحة أنها شعرت أنها في دوامة لا تنتهي، وطيلة الطريق كان يراودها شيء واحد هو أنها تريد العودة إلى البيت وليس الخيمة”  مؤكدة أنها لا تتمنى لأي أم أن تعيش ما عاشته، فأن تعود بطفلها إلى خيمة يمكن أن تخونها في أي لحظة. 

دفء الأمومة

كل شيء في الليلة الأولى للولادة كان صعبًا، كأنه كابوس تمنّت الشوبكي أن تمحوه من ذاكرتها. بقيت مستيقظة، متحفّسة بأنفاس طفلتها الصغيرة، خائفة من أن يغدر بها البرد. كانت تحاول جاهدة أن تمنحها الدفء، تلفّها بحرام صغير وتحتضنها بشالها الصوفي الكبير. لكن المطر كان ينهمر، يتسرّب من كل فجوة في الخيمة، ومع كل قطرة كانت تزداد مخاوفها: “تسعة أطفال ماتوا من البرد في الخيم… هل ستنجو طفلتي؟”

لم يكن لديها أدوية ولا حتى خصوصية. موضحة أنها كانت بحاجة للذهاب إلى المرحاض، لكنه بعيد، مشترك، والمطر لا يتوقف، وجسدها المرهق كان يطالبها بالراحة، مفيدة بأن كل ما أرادته حينها أن تجد حائطًا لتسند ظهرها عليه ليخفف الألم.ز

أبسط الأمور أصبحت معاناة، حتى تبديل ملابس الطفلة أو استحمامها في الخيمة كان مغامرة محفوفة بالمخاطر. فكان لديها خوف من البرد، من النزلات المعوية، ومن سقف الخيمة الذي قد يغدر بها في أي لحظة.

 طريق العودة 

تم إعلان العودة للشمال يوم الإثنين ، لكن الشوبكي وزوجها اتفقا أن ينتظرا يومًا آخر لتجنب الزحام. غير أنها لم تحتمل البقاء يومًا إضافيًا في الخيمة، حتى لو كان قد مر بضعة أيام فقط على ولادتها. ومع أول ضوء للشمس، حزمت حقائبها، احتضنت أطفالها، وبدأت وزوجها رحلتها الأصعب. موضحة أنه لم يكن مجرد مشي بل كان زحفًا بين الدمار والفوضى وأشبه بالسير في كابوس لا ينتهي، حيث الركام يملأ المكان والحُفر أيضًا، وكذلك مياه الصرف الصحي. 

الشوبكي أضافت أنها كانت مُتعبة، وابنتها تبكي، ولا تستطيع حتى إرضاعها، فيما كان المشي وسط الزحام خانقًا، ولا مجال للتوقف، ولا فرصة للراحة، فقط السير والسير، والمزيد من السير. مبينة أنها مع كل خطوة كانت تخطوها وسط الركام، كانت تتساءل “أين العالم من هذا؟ كيف يمكن للإنسانية أن تصمت أمام هذا الدمار؟”. فقدت الكلمات معناها أمام الألم، وبات الصمت العالمي جريمة أخرى تضاف إلى المأساة.

ورغم المشاهد التي حفرت نفسها في الذاكرة ” شهداء متناثرون على الطرقات، أناس منهكون بالكاد يستطيعون الوقوف” إلا أن قلبها كان يفيض بالفرح. وكانت تردد طوال الطريق: “كنا أربعة، صرنا خمسة!”، وكأنها تصبّر نفسها وعائلتها، وتذكّرهم بأن الحياة رغم قسوتها، لا تزال تمنحهم أسبابًا للمضي قدمًا.

العودة إلى البيت… فرحة ممتزجة بالألم

“قطعنا عشرة كيلومترات، لكن شعوري عند العودة لا يوصف، وكأن روحي عادت إلي من جديد”، هكذا عبرت الشوبكي عن شعورها حينما وصلت الشمال ووجدت بيتها لا يزال قائمًا، لكنه كان خاليًا تمامًا، كل ما فيه سُرق، والنوافذ محطمة. ورغم ذلك، لم يفقد البيت مكانته في قلبها، فما زال يحمل ذكرياتها وكل ما تبقى لها من ماضيها.

لم تمر الحرب على الشوبكي مرور الكرام، بل تركت بصمتها العميقة وغيرت نظرتها للحياة. “كنا نعيش بوفرة، نأخذ كل شيء كأمر مسلَّم به، دون أن ندرك قيمته الحقيقية. اليوم، بعد أن فقدنا كل شيء، أصبح لكل تفصيلة معنى مختلف”، تضيف بحسرة. “البيت، الأسرة، حتى الجدران التي كنا نسند إليها ظهورنا، بات لكل شيء قدسية خاصة”.

ولذلك، لم تتردد الشوبكي في فتح بيتها المتواضع لاستقبال العائلات النازحة، فقد تجرعت مرارة النزوح وعاشت معاناته. ورغم شُح الماء والطعام في الشمال، إلا أنها تدرك أمرًا واحدًا: لقد نجت… ونجا أطفالها معها، وهذا بالنسبة لها أعظم انتصار يمكن أن تحققه أم.

“لا أريد سوى السلام”

بعد كل هذا الدمار، لم تعد تطلب الكثير، فقط حياة هادئة، خالية من الخوف. موضحة أنها لا تريد سوى الأمان، وأن تربي أطفالها بطمأنينة، وأن تستيقظ دون أن يوقظها صوت القذائف، وأن تنام دون كوابيس النزوح. 

لكن حلمها هذا لا يقتصر على ذاتها، بل يمتد ليشمل غزة كلها. مؤكدة أنها تتمنى أن تنهض المدينة من تحت الركام، وأن يُمحى أثر الدمار، وأن تجد العائلات المشرّدة مأوى، وأن تصل الإغاثة لمن يحتاجها. 

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة