loading

منديل عابر للحواجز

تسنيم دراويش

عبرت سيرين نجم حدود الزمان والمكان، حاملة إرث جدتها الذي نجى من النكبة: منديل بسيط، لكنه يختزل حكايات وطن. ذلك المنديل، الذي رافق جدتها في رحلة التهجير من قرية البروة شمالي فلسطين، فكان أول ما لامسته عيناها في قرية الجديدة، حيث وُلدت. واليوم، تعيد سيرين إحياءه في عكا، المدينة التي شهدت ولادة بناتها، متجاوزة الحواجز التي فرضها الاحتلال، ومتعاونة مع نساء من الضفة الغربية لإعادة نسج ذاكرة من خيوط الوطن.

تقول سيرين ل “بالغراف” : “بدأت القصة كلها من منديل أهدتني إياه جدتي أثناء توضيب مقتنياتها القديمة حينها، شعرت أنه ليس مجرد منديل يُوضع على الرأس أو الكتف، بل شاهدٌ على تاريخ كامل”. فاكتشفت أن النساء بعد التهجير من مدنهم حملن مناديلهن معهن وبدأن بالعمل بالتطريز لكسب لقمة العيش. وهكذا، وُلد شغف سيرين بهذه القطعة الصغيرة، دون أن تدرك حينها أن ذلك المنديل سيكون بوابتها إلى ولادة جديدة.

عندما وضعت سيرين مولودتها البكر، نادية، لم تكن تُنجب ابنة فقط، بل كانت تلد معها رؤية جديدة لحياتها المهنية. فبعد سنوات من العمل كمهندسة طاقة، وجدت نفسها خلال إجازة الأمومة أمام رغبة متزايدة في الاستقلال وإطلاق مشروعها الخاص. من هنا، قررت تحويل شغفها بالمناديل التراثية إلى أكثر من مجرد استثمار اقتصادي أو قطعة فنية  بل مزيجًا متناغمًا بين الإثنين.

اختارت لابنتها اسم “نادية”، الاسم الذي ورثته الصغيرة عن جدتها، وفقًا للعادات التي تُكرّم اسم الأم عبر الابن الأصغر. لكن الاسم لم يكن مجرد تقليد عائلي، بل اكتشاف لمعانٍ أعمق؛ إذ وجدت سيرين أن اسم “نادية” يعني النقاء والجمال والخير الوفير، تمامًا كما يعكس تراث البلاد وأصالتها. وجعلته اسمًا لمشروعها، مُصرة على أن يكون بالعربية، لترسيخ الهوية في ظل محاولات الطمس الثقافي، مؤكدة أن العرب في الداخل المحتل لا ينسون لغتهم الأم. كما اختارت اللونين الذهبي والأوفوايت، ليعكسا الفخامة والبساطة معًا.

وهكذا، وُلد “منديل نادية” – منتج يشبه الماضي ولكن برؤية حديثة، حيث استبدلت سيرين القطن الذي كان يُستخدم في صنناعة المنديل بالحرير والجورجيت، مع الحفاظ على هوية المنديل ليكون أكثر من مجرد قطعة قماش، بل رابطًا ممتدًا بين الأجيال، يحمل عبق الذكريات وتاريخ العائلة. تقول سيرين: “في زمن لم يعش فيه جيلي تجربة ارتداء منديل الأوية التراثي، أردت أن أترك لابنتي إرثًا يربطها بجدتها”، ليبقى هذا المنديل رمزًا للحب والهوية والتقاليد التي لا تزول.

تستوحي سيرين قطعها من البيئة الفلسطينية، مستلهمة رموزها من غصن الزيتون، وزهر الحنون، وسنبلة القمح، كما أضافت عبارات لأدباء فلسطينيين بارزين مثل محمود درويش وسميح القاسم وغسان كنفاني. موضحة أن كل منديل تصممه يعبر عن الحالة التي تعيشها، سواء السياسية أو الروحانية. كما أنها تتعاون مع فنانين فلسطينيين، أبرزهم كامل قدورة، الذي يُشكل العبارات بالخط العربي ليجعل منها رسالة وطنية ترمز للقضية.

وسعت سيرين مشروعها  ليشمل الجزادين والحقائب وغيرها من القطع التراثية، محافظةً على روح الأصالة في كل تفصيل. وحرصت على استخدام أجود أنواع الأقمشة والخيوط والجلود. وحتى في التغليف، حملت كل تفصيلة بُعدًا فنيًا، حيث استخدمت خشب الخليل في الصناديق، وتعاونت مع مشروع فلسطيني متخصص في كتابة الرسائل المرافقة لكل قطعة، كما واعتمدت على أمهر صُناع الجلود المحليين لإنجاز الحقائب. وهكذا، لا تُقدم سيرين مجرد منتجات، بل تروي من خلالها قصة فلسطينية متكاملة، تُحاك تفاصيلها بحب، من أول غرزة وحتى التغليف الأخير.

يعتبر المشروع مساحة لتمكين النساء، خاصة في المناطق المهمشة جنوب الضفة الغربية. مؤكدة أن تمكين المرأة اقتصاديًا لا يغيّر حياتها فقط، بل ينهض بالمجتمع بأسره. ومن هذا المنطلق، يركز مشروعها على دعم النساء في المخيمات مثل بيت فجار والعروب، وكذلك في مسافر يطّا وضواحي رام الله، حيث يواجهن تحديات يومية قاسية.

 وأوضحت أن النساء في مشروعها لسن مجرد عاملات، بل هنّ شريكات في النجاح. يعملن بدقة وإتقان، ليس فقط بدافع الكسب المادي، بل لأنهن يؤمنّ أن ما يصنعنه يحمل رسالة، ويُحِكنَ في كل غرزة حكاية قوةٍ وأمل.

لكن ورغم النجاح، تواجه سيرين تحديات جسيمة، أبرزها الصعوبات السياسية وإغلاقات القرى وصعوبة الوصول إلى مناطق المشروع خاصة بعد السابع من أكتوبر، وذلك بسبب القيود التي فرضها الاحتلال. ومع ذلك، تستمر في العمل، قائلة: “كشعب فلسطيني نواجه دائمًا تحديات خاصة إلا أن هذه التحديات جعلتني أقوى و أفكر خارج الصندوق” 

ترى سيرين أن مشروعها يُغذي روح وعقل الأجيال المختلفة من الكبار والشباب، وتسعى مستقبلًا للوصول إلى الجيل الصغير. واصفة أجمل لحظاتها عندما ترى مناديلها التراثية تُرتدى بفخر، أو عند صعودها على المنصات المحلية والعالمية، حيث تلمس تفاعل الجمهور واهتمامه بقصة كل قطعة. 

تحلم سيرين بأن يكون “منديل نادية” حاضرًا في كل بيت، متجاوزًا الحدود ليصل إلى العالم أجمع، حاملاً رسالة بأن الشعب الفلسطيني ورغم التحديات إلا أنه يمتلك ماضيًا عريقًا، وحاضرًا نابضًا، ومستقبلًا مشرقًا. كما وتطمح لتوسيع فريق عملها لخلق مزيد من الفرص .

“أزهري أينما حللت” – لم يكن هذا مجرد شعار طبعته سيرين على أكياس مشروعها، بل رسالة نابضة تؤمن بها وتحملها لكل امرأة تقتني إحدى قطعها أو تساهم في صناعتها. فهي ترى أن المرأة، أينما وُجدت، يجب أن تزهر، تنتج، وتحكي قصتها بفخر.

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة