loading

خلف كل رقم… قصة: أنسنة التغطيات الصحافية خلال الحروب والنزاعات

بكر عبد الحق

تمثل التغطية الصحافية للنزاعات والحروب تحديًا مركبًا يجمع بين مسؤولية الصحافي في الالتزام بالمصداقية والمهنية، وبين متطلبات المسؤولية الإنسانية، فالصحافي ليس مجرد ناقل لوقائع القتال والخسائر البشرية فحسب، بل تتجاوز مسؤوليته ذلك إلى إيصال أثر الحرب على الأفراد والمجتمعات.

وهكذا الحال في حربي غزة ولبنان، اللتين اندلعتا في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، واستمرتا لأكثر من عام، إلى جانب التصعيد العسكري المتواصل في الضفة الغربية، قبل الحرب وخلالها.

 وقد واكبت وسائل الإعلام مجريات هذه الأحداث باختلاف توجهاتها، فيما اجتهد الصحافيون والصحفيات على اختلاف مؤسساتهم الإعلامية في نقل تفاصيل الحرب، ليس فقط من منظورها العسكري، بل أيضًا عبر محاولة لإبراز جانبها الإنساني.

إن اختزال الحروب والنزاعات في إحصائيات باردة تتحدث عن عدد الضحايا والخسائر البشرية والمادية يُفقد التغطيات جانبها الإنساني، ويحد من تأثيرها العاطفي والمعنوي، لذلك تبرز أهمية أنسنة التغطيات الصحافية للنزاعات والحروب، وهي ممارسة تتطلب مقاربة مختلفة، تجعل الضحايا والناجين أكثر من مجرد أرقام، يركز فيها الصحافي على القصص الإنسانية والمآسي الفردية والجماعية، دون أن يتجاوز حدود المهنية والمسؤولية الأخلاقية إلى الدعاية أو الانحياز لأي من أطراف النزاع.

في هذا التقرير، نسلط الضوء على أهمية أنسنة التغطيات الصحافية خلال الحروب والنزاعات، والتحديات التي يواجهها الصحافيون أثناء سعيهم لإبراز الجانب الإنساني في تغطياتهم. ومن أبرز هذه التحديات: التوازن بين الحياد والتعاطف، والتعامل مع الصور والفيديوهات الحساسة، وضغوط العمل الميداني وسط بيئة خطرة.

كما نستعرض في التقرير رؤية الصحافيين الميدانيين الذين خاضوا هذه التجربة، ونقدم نموذجًا تطبيقيًا لأنسنة التقارير الصحافية من خلال قصة الشهيد آدم فراج، كأحد الأمثلة الواقعية على دور الصحافة الإنسانية في تقديم النزاعات بطريقة تجعل الجمهور أقرب إلى الحدث، وليس مجرد متابع خارجي له.

تُعرّف د. هنادي دويكات، عميدة كلية الإعلام الحديث في الجامعة العربية الأمريكية، أنسنة التغطيات الصحافية بأنها نهج يهدف إلى إعادة الاعتبار للضحايا كأفراد لهم تجارب وقصص، بدلًا من اختزالهم في أرقام وإحصائيات جامدة. ويركّز هذا النهج على البعد الإنساني للأحداث عبر تسليط الضوء على المشاعر والمعاناة المرتبطة بالحروب والنزاعات، ومنح الضحايا فرصة سرد قصصهم وأحلامهم وآمالهم، وليس فقط التركيز على معاناتهم.

وتكمن أهمية الأنسنة في إنتاج محتوى صحفي أكثر قربًا وتأثيرًا، يعزز الارتباط العاطفي والوجداني للجمهور مع القصة، مما يساهم في إيصال صوت الضحايا إلى العالم بطريقة تتجاوز السرد التقليدي للأحداث، إلى نقل معاناة إنسانية حقيقية تترك أثرًا عميقًا في الوعي العام.

أبعاد أنسنة التغطيات الصحافية 

يشكّل السرد الإنساني عنصرًا جوهريًا في التغطية الصحافية للنزاعات، حيث يهدف إلى تحويل الضحايا من مجرد أرقام إلى شخصيات حقيقية ذات ماضٍ وحاضر ومستقبل تأثر بالحرب، ويعتمد هذا النوع من السرد على القصص الفردية بدلًا من التغطية الإخبارية الجافة، حيث يتم استعراض تفاصيل الحياة اليومية لمن فقدوا أحباءهم، وكيف تغيرت حياتهم بسبب النزاع، مما يعزز من ارتباط الجمهور بالقضية.

وفيما يتعلق بالبعد الأخلاقي والمسؤولية الصحافية، يؤكد الصحافيان جيفارا البديري وخالد بدير أن الصحافي مسؤول عن التعامل مع الضحايا بحساسية، بحيث لا يدفعهم للإدلاء بتصريحات في لحظات الصدمة والانفعال. وتشير البديري إلى أن بعض الصحافيين قد يسعون للحصول على تصريحات مؤثرة، لكن ذلك قد يكون استغلالًا لمعاناة الضحية بدلًا من احترامها.

كما ترى أن الإعلام العربي يجب أن يولي اهتمامًا أكبر لإبراز حياة الشهداء قبل استشهادهم، وليس فقط سرد كيفية مقتلهم، لأن هذه التفاصيل تخلق التأثير العاطفي الأعمق لدى الجمهور.

أما خالد بدير، فيرى أن الصحافي مسؤول عن اختيار كلماته وأسئلته بحذر شديد، لأن أي خطأ بسيط في الصياغة قد يزيد من معاناة الضحية، ويشدد على أهمية احترام الخصوصية عند التصوير أو نقل الشهادات، بحيث لا يكون الهدف هو استغلال المعاناة لغرض الإثارة الإعلامية، بل تقديم معاناة الضحايا بشكل يحفظ كرامتهم ويعكس واقعهم بصدق.

كما يلعب البعد البصري دورًا جوهريًا في أنسنة التغطيات الصحافية، حيث تُختار الصور والفيديوهات بعناية لتكون معبرة دون انتهاك كرامة الضحايا. ويجب أن يتم توثيق الأحداث بمسؤولية تحترم حقوق الإنسان، وتجنب نشر صور مروعة إلا إذا كانت ضرورية لنقل الحقيقة، مع ضمان ألا تصبح وسيلة للإثارة العاطفية. 

كما ينبغي حماية هوية الضحايا من خلال تمويه الوجوه أو الحصول على موافقات مسبقة قبل نشر الصور، خاصة في الحالات التي قد تعرضهم لمخاطر أمنية أو نفسية.

ويجب أيضاً على الصحافي أن يأخذ بعين الاعتبار التأثير النفسي للمحتوى الإعلامي، خصوصًا عند تغطية الأحداث المأساوية التي يتابعها جمهور يشمل الأطفال والمجتمعات المتضررة. لذا، يجب تقديم محتوى متوازن يجمع بين نقل المعاناة وتسليط الضوء على جهود الإغاثة والتعافي، بحيث لا يكون التأثير مقتصرًا على الألم فقط، بل يشمل أيضًا جوانب الأمل والصمود.

إن أنسنة التغطية الصحافية تمتد إلى كشف تداعيات النزاع على الفئات المهمشة مثل الأطفال والنساء وكبار السن والأقليات، وتسليط الضوء على القضايا الجوهرية مثل النزوح، وفقدان التعليم، وتأثير النزاعات على النسيج الاجتماعي، كما تسهم في تفكيك الدعاية العسكرية وتقديم تغطية تركز على البعد الإنساني للنزاع، بدلًا من حصره في زوايا التحليل السياسي أو الاستراتيجي فقط.

المعايير الأخلاقية والمهنية في أنسنة التغطية الصحافية

تتطلب أنسنة التغطية الصحافية للنزاعات نهجًا متوازنًا يضمن نقل الحقيقة بصورة دقيقة دون تحيز أو استغلال عاطفي. ومن أجل تحقيق ذلك، لا بد من الالتزام بعدد من المعايير الأخلاقية والمهنية التي تعزز من مصداقية التغطية وتأثيرها، مثل الشمولية في السرد، بحيث لا تقتصر التغطية الإنسانية على الضحايا المباشرين فقط، بل تشمل جميع الفئات المتأثرة بالنزاع، بما في ذلك النازحين والصحافيين العاملين في الميدان تحت التهديد المستمر.

ويمثل التحقق من المعلومات وتجنب التضليل مبدأً أساسيًا في الصحافة المسؤولة، إذ يجب على الصحافي أن يتحرى الدقة في الروايات قبل نشرها، خصوصًا عند توثيق جرائم الحرب والانتهاكات الإنسانية. إن نقل المعلومات الصادرة عن الأطراف المتحاربة دون تدقيق قد يساهم في نشر الدعاية العسكرية بدلًا من تقديم رواية متوازنة تستند إلى الأدلة.

كما تتطلب التغطية الصحافية للنزاعات توازنًا دقيقًا بين الحياد والإنسانية، بحيث يجب على الصحافي أن يكون موضوعيًا دون أن يفقد حسه الإنساني، وإنسانيًا دون أن يتخلى عن دقته المهنية. وتؤكد جيفارا البديري أن الموضوعية لا تعني الحياد الأعمى، خاصة في القضايا التي تكون فيها الانتهاكات موثقة بوضوح، فمن غير المنطقي المساواة بين الضحية والجلاد تحت مسمى الحياد، بل يجب على الصحافي أن يكون دقيقًا ومهنيًا في نقل الوقائع.

وحول ذلك يرى خالد بدير أن الصحافة الإنسانية لا تقتصر على نقل المأساة، بل تتطلب حسًا أخلاقيًا عميقًا في اختيار توقيت إجراء المقابلات مع الضحايا. لذلك، يتجنبُ الصحافي إجراء مقابلات مباشرة بعد وقوع الحدث، حيث يكون الضحايا في حالة صدمة وغير قادرين على التعبير عن مشاعرهم بوضوح أو اتزان. كما يجب أن يكون الصحافي مدركًا لتأثير كلماته وأسئلته، بحيث لا تزيد من معاناة الضحايا أو تستغل حالتهم العاطفية.

دور الصور والوسائط المتعددة في تعزيز أنسنة النزاعات في التقارير الصحافية

تلعب الصور والوسائط المتعددة دورًا جوهريًا في أنسنة النزاعات وتحويل المعاناة إلى قصص ملموسة، حيث تستطيع الصورة الواحدة أن تُلخص مأساة كاملة، وتُقدم بُعدًا إنسانيًا قد تعجز الكلمات وحدها عن إيصال تأثيره العاطفي. وفي الصحافة الإنسانية، ليست الصورة مجرد توثيق بصري، بل هي وسيلة لنقل المشاعر، وإضفاء طابع شخصي على الأحداث، مما يتيح للجمهور رؤية النزاع من زاوية أقرب وأكثر ارتباطًا بالواقع.

ترى الصحافية جيفارا البديري أن الصور والفيديوهات تعد أدوات أقوى من الكلمات في نقل الحقيقة، إذ يمكن لصورة واحدة أن تغني عن ألف كلمة، بينما يمنح الفيديو بعدًا أعمق للتجربة الإنسانية، لكنها تؤكد أنها تتجنب التركيز على المشاهد الصادمة أو صور الدماء، لأنها تعتقد أن الصورة الإنسانية هي الأكثر تأثيرًا.

 وتضيف: “صورة طفل يبتسم قبل استشهاده، أو عائلة تجتمع حول مائدة طعام قبل أن يُدمر منزلها، قد تكون أقوى من أي مشهد لأشلاء وضحايا. عندما أرى صورة قديمة لأحد الشهداء وهو يبتسم، أفكر دائمًا في حياته قبل أن يُقتل، في لحظاته اليومية، في تفاصيله الصغيرة التي تجعل منه إنسانًا، وليس مجرد رقم في نشرة الأخبار.. هذه هي القوة الحقيقية للصور في الصحافة الإنسانية”.

ومن جانبه، يرى الصحافي خالد بدير أن الصورة لا يجب أن تكون مجرد لقطة عابرة، بل يجب أن تكون مرتاحة، طبيعية، وصادقة، بحيث تعكس الواقع كما هو دون مبالغة أو تلاعب. ويضيف أن الطريقة التي يتم بها التقاط الصور، ترتيبها، وتتابعها، كلها عوامل تؤثر في كيفية استقبال الجمهور للقصة الإنسانية وتفاعله معها. 

ويؤكد على أهمية الصورة بالقول: “الصورة أحيانًا تتحدث وحدها، حتى وإن كانت صامتة، وعندما تُرفق بالصوت، فإنها تكتسب بعدًا إضافيًا يمنحها عمقًا وتأثيرًا أكبر. كل صورة تحمل دليلًا بصريًا يدعم القصة الإنسانية، ويضيف إليها مشاعر وتعزيزًا للأثر العاطفي”. فالتغطية الميدانية قد تُنسى بعد فترة، لكن الصور تبقى في الذاكرة، وتروي القصة حتى بعد سنوات. 

إن أنسنة التغطيات الصحفية خلال النزاعات والحروب يتطلب التوازن بين نقل الحقائق وإبراز البعد الإنساني، بحيث يسعى الصحافيون في تغطياتهم إلى تقديم صورة شاملة تعكس معاناة الأفراد وقصصهم الشخصية، دون الإخلال بدقة الوقائع أو اللجوء إلى الاستغلال العاطفي، ويُظهر هذا النهج كيف يمكن للصحافة الإنسانية أن تضع ضحايا النزاعات في قلب الصورة، مما يسهم في تحقيق تأثير أعمق لدى الجمهور وإيصال الرسالة الإعلامية بصورة متوازنة وواعية.

تشير الدكتورة هنادي دويكات إلى أن الإعلام يمكنه تعزيز الفهم الإنساني للنزاعات من خلال التغطية المسؤولة والعميقة، بحيث يكون الصحافي غير منحاز لأي طرف، بل يقف إلى جانب الحقيقة والإنسانية، لذلك يجب أن تتجاوز التغطية الإعلامية الطرح السطحي للنزاعات، عبر تقديم تحليلات معمقة ومناقشة الحلول الممكنة بمشاركة خبراء ومختصين، لضمان تقديم صورة أكثر شمولًا ودقة، كما أن للصحافة الاستقصائية دورًا جوهريًا في كشف الانتهاكات وفضح الدعاية المضللة التي تغذي الكراهية وتفاقم التوترات، مما يعزز من دور الإعلام في إظهار الحقيقة بعيدًا عن التلاعب والسرديات الأحادية.

وتشدد دويكات على ضرورة أن يمارس الإعلام دوره التوعوي في تثقيف الجمهور وتعليمه كيفية التفريق بين الأخبار الحقيقية والمضللة، بما يسهم في تعزيز الوعي الإعلامي وتحقيق فهم أعمق للأحداث، لكن بطريقة متوازنة دون الوقوع في فخ التحيز أو الترويج الدعائي. 

ورغم أهمية أنسنة التغطيات الصحافية خلال النزاعات والحروب، إلى أن ثمة تحديات معقدة يواجهها الصحافيون عند محاولة الأنسنة، وهي تتقاطع بين الجوانب الميدانية، والأخلاقية، والمهنية.

فمن جهة، تؤكد الصحافية جيفارا البديري أن طبيعة الميدان ذاته تفرض أولويات تتعلق بسلامة الطاقم ومعدات البث قبل أن يبدأ الصحافي في البحث عن القصص الإنسانية وسط الفوضى. وتشير إلى أن التعامل مع عائلات الضحايا يمثل تحديًا آخر، حيث يصبح من الصعب استخلاص المشاعر الحقيقية من أولئك الذين يعانون من فقدان لا يمكن اختصاره في كلمات، خاصة عندما يُطلب منهم التعبير بصيغ جاهزة تُقلل من عمق الألم، كما تبرز البيئة المحيطة المزدحمة بالمعزين كعائق إضافي، إذ تحدّ من إمكانية الحصول على لحظات هادئة تُبرز تفاصيل بسيطة، لكنها تحمل في طياتها قصص حياة سبقت المأساة.

ومن ناحية أخرى، يوضح الصحافي خالد بدير أن الحفاظ على خصوصية الضحايا يعد محورًا أساسيًا في أنسنة التغطية، فالصحافي المحترف لا يكتفي بتوثيق الحدث بشكل تقليدي، بل يسعى إلى التعمق في الوجوه التي تقف خلف هذه الأحداث، محاولًا التقاط المشاعر غير المرئية والحقائق المخفية التي تعجز الكاميرات عن نقلها بمفردها.

 وفي ظل التسارع الهائل في نقل الأخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يصبح من الضروري أن يغوص الصحافي بعمق في القصة لتحقيق توازن دقيق بين الدقة المهنية والبعد الإنساني.

التحديات المهنية في أنسنة التغطية الصحفية للنزاعات

من منظور أكاديمي، تشير الدكتورة هنادي دويكات إلى أن التحديات لا تقتصر على الميدان فحسب، بل تمتد لتشمل الاعتبارات الأخلاقية والمهنية، فالمهمة الأصعب للصحفي تكمن في إيجاد توازن بين نقل المعاناة بصدق، مع الحفاظ على الموضوعية وعدم الانجراف وراء العاطفة المفرطة، ويتطلب ذلك احترام خصوصية الضحايا، والحصول على الموافقات اللازمة قبل نشر أي معلومات حساسة، لا سيما فيما يتعلق بالأطفال. 

إلى جانب هذه التحديات المهنية والميدانية، يواجه الصحافيون قيودًا أمنية صارمة تعيق تغطيتهم للنزاعات، ففي كثير من الأحيان، يُمنع الصحافيون من دخول مناطق النزاع بحجة “الضرورات الأمنية”، مما يحد من قدرتهم على نقل الواقع الميداني مباشرة.

كما أن استهداف الصحافيين، سواء بالاعتقال أو العنف المباشر، أصبح ممارسة متزايدة ضد من يسلطون الضوء على جرائم الحرب والانتهاكات الإنسانية. وإلى جانب ذلك، فإن صعوبة الوصول إلى الضحايا والناجين في ظل القصف والتهديدات الأمنية تجعل من الصعب توثيق الشهادات الحية، مما يؤثر على مصداقية ونوعية التغطية.

إلى جانب المخاطر الميدانية، يواجه الصحافيون حربًا إعلامية مستمرة تتمثل في التضليل الإعلامي والحرب النفسية، فغالبًا ما تسعى أطراف النزاع إلى توظيف الإعلام كأداة دعائية لنشر روايات منحازة، مما يجعل الصحافي عرضة للتضليل أو الوقوع في فخ التلاعب بالمعلومات. كما أن انتشار الأخبار الكاذبة والشهادات المفبركة يزيد من صعوبة التحقق من الروايات وسط الفوضى الإعلامية، خاصة مع هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي التي تعزز من انتشار المعلومات غير الموثوقة.

أما على المستوى المهني، فإن الضغوط الاقتصادية والسياسية تُعد من أبرز العوائق التي تحد من قدرة الصحافيين على تقديم تغطية إنسانية معمقة، ففي بعض الحالات، تخضع وسائل الإعلام لتوجيهات سياسية تحدد طبيعة التغطية، مما يعيق الصحافي عن نقل الحقيقة بموضوعية.

كما أن السعي وراء “العناوين الصادمة” لزيادة التفاعل والمشاهدات أصبح على حساب القيم الإنسانية، حيث يتم التركيز على الإثارة بدلًا من تقديم صورة متوازنة للحدث. ومن جانب آخر، فإن تضاؤل ميزانيات الصحافة الاستقصائية يحدّ من قدرة الصحافيين على إنتاج تحقيقات معمقة، مما يؤثر على جودة المحتوى الإعلامي ويفرض الاعتماد على تغطيات سريعة تفتقر إلى العمق والتحليل اللازمين لفهم أبعاد النزاع الإنسانية.

التعامل مع الضغوط المهنية والانتقادات في التغطية الإنسانية للنزاعات

تفرض التغطية الإنسانية للنزاعات على الصحفيين ضغوطًا مهنية وتحريرية معقدة، تؤثر بشكل مباشر على قدرتهم على إبراز البعد الإنساني للقصة. ترى جيفارا البديري أن الإيقاع المتسارع للأحداث قد يجبر الصحفي على تقديم تغطية “جامدة”، تفتقر إلى العمق العاطفي، نظرًا لأن إنتاج القصة الإنسانية يتطلب وقتًا كافيًا للتحضير والتفكير والصياغة، وهو ما لا يتوفر دائمًا وسط التغطيات الإخبارية المستمرة.

على المستوى التحريري، تنشأ فجوة بين رؤية المراسل الميداني، الذي يعايش الحدث بشكل مباشر، وبين غرفة الأخبار التي تتعامل معه كنص مجرد، مما يؤدي أحيانًا إلى اختلاف في زوايا التغطية. إلا أن البديري تؤكد أن المراسل، بصفته الشاهد الأول على الحدث، هو الأقدر على تقديم القصة الإنسانية بصورتها الحقيقية، مما يتطلب منه الدفاع عن رؤيته التحريرية، والعمل على تحقيق التوازن بين نقل الحدث بموضوعية وإبراز أبعاده الإنسانية بصدق واحترافية.

إلى جانب الضغوط المهنية، يواجه الصحفيون انتقادات متواصلة في عصر السوشيال ميديا، وهو ما يعتبره خالد بدير جزءًا طبيعيًا من العمل الصحفي، لكنه يرى أن التعامل مع النقد يجب أن يكون بوعي وتقييم دقيق لمصدره.

 فالانتقادات التي تستند إلى أسس موضوعية قد تسهم في تحسين التغطية وتصحيح الأخطاء غير المقصودة، بينما هناك انتقادات أخرى غير مبنية على معرفة حقيقية بالسياق أو الحدث، وغالبًا ما تكون مدفوعة بالمواقف المسبقة أو الجهل، ما يجعلها غير جديرة بالاهتمام أو الرد.

في بعض الأحيان، تتعلق الانتقادات بحساسيات ثقافية أو دينية قد تكون غائبة عن الصحفي أثناء التغطية، مما يستدعي قدرًا من الوعي بهذه الأبعاد عند تقديم القصة، إلا أن بدير يشدد على أن الصحفي، رغم مرونته في تقبل النقد، لا يجب أن يسمح له بالتأثير على دقته أو استقلاليته، فالمهمة الأساسية تظل نقل الحقيقة بأسلوب متوازن وعادل، يحترم المعايير المهنية دون أن يخضع للضغوط العاطفية أو السياسية.

التدريب المتخصص كأداة لتعزيز التغطية الإنسانية

وفي السياق، تلفت الدكتورة هنادي دويكات إلى أهمية توفير المؤسسات الإعلامية برامج تدريبية متخصصة للصحفيين، تركز على أخلاقيات التغطية الإنسانية وتعزيز الوعي بحقوق الضحايا، لضمان عدم استغلال معاناتهم لتحقيق السبق الصحافي أو إثارة العواطف دون مسؤولية.

كما تشدد على ضرورة تدريب الصحافيين على كيفية التعامل مع المحتوى الحساس وإدارة الصور الصادمة، مع التأكيد على استخدام لغة متوازنة تحافظ على الموضوعية وتجنب التحيز العاطفي أو الانحياز الدعائي.

وتشير إلى أن الصحافيين بحاجة إلى إتقان مهارات السرد الإنساني، بحيث يتمكنون من إبراز القصص الإنسانية بطريقة صادقة ومتوازنة، دون الوقوع في فخ الإثارة أو التهويل. وإلى جانب ذلك، لا بد من تعليمهم تقنيات تقصي الحقائق، التي تمكنهم من التمييز بين الأخبار الحقيقية والمضللة، في ظل انتشار المعلومات المغلوطة خلال النزاعات.

ومن الجوانب الحيوية أيضًا، ترى دويكات أن المؤسسات الإعلامية يجب أن توفر تدريبات حول السلامة الصحافية وكيفية تقييم المخاطر الميدانية، لحماية الصحافيين أثناء تغطيتهم للنزاعات، كما ينبغي تعليمهم كيفية استخدام الأدوات الرقمية والذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات وإنتاج المحتوى الإعلامي، لضمان توظيف أحدث التقنيات في تقديم تغطية دقيقة وشاملة.

وتؤكد دويكات على أهمية التدريب على التغطية البطيئة والمعمقة، والتي تعتمد على التحليل العميق بدلاً من الانجرار وراء الأخبار العاجلة التي قد تفتقر إلى الدقة، لضمان إنتاج تقارير ذات جودة عالية ومصداقية قوية، مما يعزز من دور الإعلام في نقل النزاعات بطريقة إنسانية ومسؤولة.

الأنسنة في عصر الإعلام الرقمي 

أتاحت وسائل الإعلام الرقمية مساحة غير مسبوقة لنشر القصص الإنسانية، بعيدًا عن قيود الرقابة التقليدية، مما أفسح المجال أمام الضحايا أنفسهم لرواية معاناتهم من خلال الصور ومقاطع الفيديو التي يوثقونها بشكل مباشر. 

كما ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تحفيز التفاعل الجماهيري العابر للحدود، إذ لم تعد الروايات حول النزاعات محصورة في التغطيات الرسمية، بل بات بإمكان الأفراد نشر قصصهم وتجاربهم، مما خلق زخمًا إعلاميًا قادرًا على التأثير في الرأي العام وصنع حملات ضغط تؤثر على القرارات السياسية.

إلى جانب ذلك، تلعب التقنيات الحديثة دورًا محوريًا في تعزيز الصحافة الإنسانية، حيث يتيح الذكاء الاصطناعي إمكانية تحليل الصور والفيديوهات للتحقق من صحتها ومنع التزييف، مما يحد من انتشار المعلومات المضللة. كما تسمح التقارير التفاعلية للجمهور بالتفاعل مع القصص الإنسانية من خلال أدوات مثل الخرائط التفاعلية، المقابلات المصورة، والمحتوى التوثيقي، مما يعزز من فهم أعمق للنزاعات وتأثيراتها.

كما أصبح استخدام الطائرات المُسيّرة (الدرونز) أداةً مهمة في التغطيات الصحفية، حيث توفر لقطات جوية توثق الدمار، وتُظهر تأثير الحروب على البيئة الحضرية، مما يمنح التقارير بُعدًا بصريًا أقوى وأكثر واقعية.

لكن رغم هذه الإيجابيات، تحذر الدكتورة هنادي دويكات من مخاطر التلاعب بالمعلومات، حيث يمكن نشر أخبار غير دقيقة أو منحازة بسهولة، مما يستدعي تكثيف جهود التحقق من المصادر والمحتوى، والتأكد من أن التغطيات الرقمية تحافظ على المعايير المهنية والأخلاقية، ولا تصبح أداةً للتضليل بدلاً من أن تكون وسيلة لكشف الحقيقة.

تجارب إنسانية: الصحافي في قلب المأساة

جيفارا البديري: هدية مراد.. “شتلة” تلخص قصة الحياة والموت

على مدار سنوات عملي في التغطيات الميدانية، مررتُ بالكثير من القصص المؤلمة، لكن هناك قصة واحدة لا تزال محفورة في ذاكرتي، وهي خلال عملية عسكرية في شمال الضفة الغربية، في مخيم الفارعة، خلال شهر يوليو/تموز الماضي، وكالعادة، سألتُ عن الشهداء، أعمارهم، أسمائهم، ففوجئت بأن من بين الضحايا شقيقين، أحدهما في الثالثة عشرة من عمره، والآخر في الخامسة عشرة.

طفلان بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لم يشكّلا أي تهديد، لم يحملوا سلاحًا، لم يكونوا جزءًا من أي معركة، بل كانا يقفان على سطح منزلهما، يتأملان المشهد، قبل أن يسقط عليهما صاروخ إسرائيلي، وينهي حياتهما في لحظة واحدة.

لم أرغب في الذهاب إلى مكان استشهادهما، لم أشأ أن أرى الدماء والأشلاء، فمثل هذه المشاهد، رغم قسوتها، أصبحت مألوفة في تغطياتنا اليومية، لكن ما لا يمكن التعود عليه هو ألم الأمهات وعذابات العائلات، لذا قررتُ الذهاب مباشرة إلى والدة الطفلين. أخبرني المعزون أن الأم ترفض الحديث، فاحترمتُ ذلك، لكنني طلبتُ فقط رؤيتها، وبمجرد أن التقت عيناها بعيني، انفجرت بالبكاء بحرقة، ولم أتمالك نفسي، فبكيتُ معها.. تماسكتُ بعد لحظات احترامًا للموقف، لكنني شعرتُ أن هناك كلمات يجب أن تصل إلى العالم.

حين سألتها عن طفليها، لم تحتج إلى حديث طويل لتصف الألم، بل قالت ببساطة: “أحلى وردتين عاشوا في حياتي”، هذه الجملة وحدها كانت كافية لتلخص كل شيء. لم تكن بحاجة إلى خطابات مؤثرة، ولا إلى وصف مفصل لمعاناتها، فقط تلك الكلمات البسيطة حملت في طياتها حزنًا لا يوصف.

في أثناء جلوسي معها، لاحظتُ على طاولة المنزل علبة أجبان قديمة بداخلها شتلات صغيرة، سألتها عنها، فأجابتني: “هذه شتلات مراد”. كان مراد، الطفل ذو الثلاثة عشر عامًا، يزرع شتلات الريحان ويوزعها على من يحبهم، وعلى أمهات الشهداء، وكأنه كان يواسيهم قبل أن يصبح واحدًا منهم.

طلبتُ منها شتلة، وعندما أمسكتها، غلبني البكاء مجددًا، تخيّلتُ أحلام هذا الطفل، كيف لم يكن يفكر في اللعب أو كرة القدم، بل في زرع الريحان لمن فقدوا أبناءهم. وعندما كنتُ على وشك المغادرة، لحقت بي الأم، ممسكةً بكوب ماء وشتلة محاطة بمحرمة، قائلة: “هذه هدية مراد لك”.

كانت أجمل وأصعب هدية تلقيتها في حياتي. بقيت الشتلة معي طوال أسبوع تغطيتي في شمال الضفة، كنتُ أسقيها كل صباح، وحين عدتُ إلى منزلي، لم أذهب أولًا لرؤية بناتي، بل توجهتُ مباشرة إلى مشتل وطلبتُ زراعتها في أصيص.

 اليوم، كبرت الشتلة، وهي تطلّ من نافذة مطبخي، أحييها كل صباح باسم مراد، لأنه بالنسبة لي، يُمثل كل أطفال فلسطين الذين حُرموا من طفولتهم وأحلامهم.

خالد بدير: بدلة الزفاف المعلّقة.. حلم لم يكتمل

في مخيم جنين، كانت التحضيرات لحفل زفاف فاروق سلامي قد بدأت بالفعل، الذبائح كانت تُجهّز للوليمة، والاستعدادات كانت تسير كما يجب، لكنه لم يكن يعلم أن حياته ستنتهي قبل أن يبدأ مستقبله. 

اغتالت وحدات إسرائيلية خاصة الشاب قبل أن يتحقق حلمه، في لحظة حولت العرس إلى مأتم، والفرحة إلى حزن لا يوصف.

في العادة، يمكن تناول القصة من زاوية تقليدية: “شاب فلسطيني استشهد برصاص وحدات خاصة في مخيم جنين”، وتنتهي التغطية عند هذا الحد. لكنني كنت أعلم أن القصة لم تنتهِ هنا، كانت هناك حياة سُلبت، حلم لم يُكتب له الاكتمال.

ذهبتُ إلى منزل عائلته، حيث كان والده غارقًا في حزنه لدرجة أنه لم يستطع حتى استقبالنا. دخلنا البيت بصمت، وعندها وقع نظري على المشهد الأكثر إنسانية: “بدلة زفاف فاروق، مُعلّقة في الخزانة، لم تُرتدَ ولن تُرتدَ أبدًا”.

وقفتُ أمامها للحظات، وكأن الزمن تجمّد، هذه البدلة لم تكن مجرد قطعة قماش، بل كانت تجسيدًا لحلم تحطّم، لحياة توقفت قبل أن تبدأ.

لم تكن هذه مجرد قصة استشهاد أخرى، بل كانت حكاية أب فلسطيني كرس حياته ليجعل ابنه عريسًا، ليحتفل بزفافه، ليرى الفرحة في عينيه. لكنه، بدلًا من ذلك، اضطر إلى وداعه إلى الأبد.

عندما شاهد الناس هذه القصة، لم يروا فقط مشهد القتل، بل شعروا بوجع الأب، ورأوا في تلك البدلة المعلقة رمزًا للأحلام المسروقة. كان يمكنني أن أقدم تقريرًا يتحدث عن التفاصيل العسكرية للاجتياح، عن الاشتباكات، عن إطلاق النار، لكن هذه البدلة قالت كل شيء دون الحاجة لكلمات.

آدم فراج: حين يتحول العرس إلى مأتم  

في واحدة من أقسى المفارقات التي يمكن أن يشهدها الإنسان، تحول فرح زفاف في مخيم بلاطة  إلى مأتم وحداد، بعدما امتدت يد الاحتلال الإسرائيلي إلى الشاب آدم فراج، لتغتاله بدم بارد على أعتاب القاعة التي كانت ستشهد بعد لحظات قليلة حفل زفاف شقيقته. 

قصة آدم ليست مجرد قصة استشهاد، بل هي امتداد لحياة بدأها يتيمًا، عاش فيها تفاصيل الفقد منذ صغره، وكبر محاطًا بذكريات والده الذي سبقه شهيدًا على يد الاحتلال.

“آدم وُلد يتيمًا، ولم يعرف والده إلا من خلال الصور والذكريات التي نقلناها له” يقول عمه، فراج فراج، مستذكرًا نشأة آدم بعد استشهاد والده صلاح الدين فراج في 19 فبراير/شباط 2002. 

كان والده صلاح يؤدي واجب الحراسة داخل مخيم بلاطة للاجئين الفلسطينيين، شرقي نابلس،  عندما تسللت قوات خاصة إسرائيلية، متنكرة بملابس تتماهى مع الطبيعة، ما جعلها غير مكشوفة للعيان، وخلال الاشتباكات، تلقى صلاح رصاصة مباشرة في القلب، واستشهد وهو يحاول الانسحاب برفقة رفاقه.

نشأ آدم في ظل غياب والده، لكنه لم يكن وحيدًا، “كان محاطًا بحب والدته، ورعاية العائلة، واحتضان المجتمع له، لكنه ظل يحمل في داخله شعورًا بالحرمان من الأب”، يوضح عمه. 

كان آدم مقبلاً على الحياة، رغم وجع الفقد الذي سكنه طيلة حياته، فانخرط في مركز يافا الثقافي داخل المخيم، وشارك في الدبكات والنشاطات المختلفة، لكنه رغم ذلك لم يكن طفلًا عاديًا، كان يحمل في داخله أسئلة كثيرة عن والده، وعن معنى الفقد، وعن الطريق الذي تركه والده غير مكتمل.

مع مرور السنوات، بدأ آدم يتأثر أكثر بقصص المقاومين، وبتوديع أصدقائه واحدًا تلو الآخر، وحول ذلك يوضح عمه قائلاً: “حاولنا -أنا ووالدته وأشقاؤه- أن نبعده عن هذا الطريق، لكن إصراره كان أقوى من أي محاولة لإقناعه”، وكان يردد دومًا: “أنا روحي لله، وأبي قُتل على أيديهم، ولن أرتاح حتى أردّ له ضربة غدرهم”.

في الأشهر الأخيرة من حياته، أصبح آدم مطلوبًا لقوات الاحتلال، بعد أن شارك في صد اقتحامات الاحتلال لمخيم بلاطة، ومناطق عدة في شمال الضفة، وكان يدرك أن ملاحقته ليست سوى مسألة وقت، لكنه لم يتراجع، بل اختار أن يمضي حتى النهاية.

وفي يوم زفاف شقيقته شيماء، عاد إلى المخيم ليراها في ليلتها الأخيرة كعروس قبل أن تغادر قاعة زفافها، لم يكن أحد يعلم أن هذه ستكون أيضًا ليلته الأخيرة بينهم، كانت أجواء الفرح تعتري العائلة، لكن الاحتلال كان يتربص بالفرح، يراقب كل تحركاتهم بخبث الصياد الذي ينتظر فريسته.

“في الليلة السابقة، تحدثت معه وقلت له: لا تذهب يا ابن أخي، الأوضاع غير آمنة. لكنه أجابني بثقة: عمي، لا تقلق، سأكون بخير، وأريد أن أشارك في زفاف أختي”، يقول عمه فراج. 

لقد تم اتخاذ احتياطات لضمان وصوله إلى القاعة بأمان، لكن يبدو أن الاحتلال كان قد رصد تحركاته، فقد كان موعد الزفاف معلنًا منذ فترة، مما أتاح لهم فرصة تتبع تحركاته بدقة، ويضيف عمه قائلاً: “عند وصولنا إلى القاعة، حاصرت القوات الخاصة المنطقة بالكامل، حاولت الوصول، لكن الطريق كان مغلقًا، وفي اللحظة ذاتها، تعرضت سيارة والدته وخالته لوابل من الرصاص، وأصيبت أم العريس في كتفها”.

خلال دقائق، دوّى صوت الرصاص، وأُعلن استشهاد آدم. “لم يُسمح لنا حتى برؤيته، فقد اختطف الاحتلال جثمانه، تاركًا وراءه مشهدًا لا يُنسى: بدلة العرس التي ما زالت معلقة، والعروس التي تحولت فرحتها إلى مأتم، والأم التي ودعت ابنها كما ودعت زوجها من قبل”.

اليوم، وبعد شهور من استشهاده، لا تزال العائلة تعيش حالة انتظار لا تنتهي، فجثمان آدم ما يزال محتجزًا، ممنوعًا من الدفن، محرومًا من القبر الذي تلقي عليه والدته الورود، وكأن الاحتلال لا يكتفي بقتله، بل يصر على إبقاء الوجع حيًا في قلوب من أحبوه.

يصف فراج ألمهم بالقول: “أصعب ما في الأمر هو أننا لم نستلم جثمانه بعد، لو أننا على الأقل استطعنا دفنه، لشعرنا ببعض السكينة، فكلما رأينا جنازة شهيد، نشعر وكأننا نعيش استشهاد آدم من جديد. الوجع لا يختفي، بل يتجدد مع كل لحظة، ومع كل مشهد فقد جديد”. 

رغم الألم، قررت شقيقته أن تُطلق اسم آدم على طفلها القادم، ليبقى حيًا في الأجيال القادمة، تمامًا كما بقيت ذكرى والده الشهيد قبله.

“آدم لم يكن مجرد فرد من العائلة، بل كان جزءًا من الروح التي تجمعنا، ورحيله ترك أثرًا لا يُمحى، ولكننا نؤمن أن الشهداء لا يموتون، بل تبقى ذكراهم خالدة فينا”، يختتم فراج كلماته، وهو ينظر إلى صورة آدم المعلقة على أحد جدران مخيم بلاطة.. وكأنها لا تزال تنبض بالحياة.

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة