نداء شنان
“ما الذي يدعو المتعبين إلى اللعب”سؤال يبدو ملّحًا في وقتٍ أصبحت فيه المعارك تدور بين دبابةٍ ولحمٍ حيّ، يخبرني فادي الديب، اللاعب البارالمبي الذي أفقده قناصٌ إسرائيليّ قدرته على تحريك جزئه السفلي، يقول لي بصوتٍ رصين:”عندما تحمل صوت 11 مليون فلسطينيّ على كتفك وتسير بهم، ستستمر باللعب”، كناية عن انصهار الفرد بالجمع، حتى يصبح صوتهم هو صوتك وتقاسيمهم هي وجهك.
فادي الديب – ولد عام 1984، في حيّ الشجاعية في مدينة غزة، رياضيٌّ فلسطينيّ برز في الألعاب البارالمبية عقب عام 2006، تشكل حلم فادي الرياضي من الرابع الابتدائي، إثر لقائه بالحكم الدوليّ “محمد الشيخ خليل” الذي استشعر موهبته الفذة قدراته الممتازة، فاستثمر فيه من الصغر في رياضاتٍ مختلفة، إذ إنه لم يولد بإعاقة جسدية بل أصبح مقعدًا عقب رصاصة غادرة أطلقها قناصٌ إسرائيليّ عليه وهو في عمر الثامنة عشر، في فترة الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2001
سألت فادي عن معنى الرياضة في حياته، فبدا متلعثمًا وكأن معاجم اللغة ضاقت عليه ثم باغتني بقوله: “نافذتي للحياة كانت الرياضة، تشبه الصبح بعد ظلام الليل، عندما ألعب كنت أنسى أن هناك طائراتٍ تحوم فوق رأسي” بدا شاعريًا جدًا وكأنه يتحدث عن محبوبته، ثم استرسل متحدثا عن رياضته المفضلة وهي كرة القدم، ثم ممارسته لكرة الطائرة والتنس وشغفه الكبير في كل ما يتعلق باللعب في سنواته المدرسية التي قضاها على أقدامه.. إلى أن جاء يوم الرابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2001.
الجُرح
يخبرني فادي بأن هذا اليوم كان بداية لحياة جديدة، رغم أنه لم يتغير شيء، لم أخفي تعجبي أمام صلابته فسألته إن كان قد بكى فأجابني: “سأبكي عام عامين ثلاثة..ماذا بعد! لم أموت ولم تنتهي حياتي ذكّرت نفسي بأني أشبه الماء، وأنني يجب أن أتشكل بما تتطلبه الحياة، فآمنت بأن هذه الإصابة بداية جديدة وليست نهاية، فلم أفقد الأمل لمرة واحدة حتى، كنت أحزن على عائلتي الحزينة أكثر مني لأجلي، ربما كانت صلابة منّ الله بها عليّ لكني لم أفكر حقًا باليأس ولو لمرة واحدة”.
“مكثت في مستشفى الشفاء ما يقارب الخمسة أشهر لاستكمال العلاج وإعادة التأهيل، ثم انتقلت لمشفى الوفاء؛ لإجراء العلاج الطبيعي والوظيفي للقدرة على استعمال الكرسيّ المتحرك، وعند خروجي التحقت بالجامعة الإسلامية في غزة وانخرطت بشكلٍ فوريّ بتنس الطاولة على الكراسي المتحركة، ثم شاركت بكرة السلة للمقعدين منذ عام 2004 حتى الآن، إلى أن أصبحتُ اللاعب الفلسطيني المحترف الوحيد بكرة سلة المقعدين، في أوروبا بعد أن لعبت في الدوري التركي”.
فادي.. الحلم الكبير
توجه فادي للألعاب الفردية إذ إن حدود حلمه تفوق اللعب الجماعيّ، ولأجل أن تكون الفردانية والموهبة بوابة لتمثيل فلسطين في المحافل الدولية، فالتحق بمنتخب ألعاب القوى الفلسطيني مطلع عام 2003، ليحصد ست ميداليات، والعديد من الألقاب التأهيلية الدولية، حتى أصبحت فلسطين في عام 2011 الثانية عربيا في ألعاب القوى، ليكون كما أراد مثل الماء يتشكل في المكان الذي يرغبه ويلعب في الأماكن التي يستحق.
الدمج المجتمعي للمصابين وذوي الإعاقة ” Social Inclusion of Persons with Disabilities” يخبرني فادي بأن الغرب يلهث لأجل المسميات، ويجعلنا في درجة أقل لأننا لا نسمي الأشياء بأسمائها، فهم يملكون فضيلة إدارة زمام حياتهم فيبدأون ب (أ،ب،ت) بينما في غزة هم لم يبحثوا عن التسمية، لأنه لا وقت لذلك إذ إن الحياة هناك أسرع من الوقوف على ترتيب الأفعال، فهم يقفزون عن التسمية إلى فعل الحركة المقصود بالتسمية مباشرةً، ويوضح:”لم أحاول أن أندمج بالمجتمع لأن المجتمع أساسًا لم يُقصيني بل كان مكاني موجودًا وحاضرًا لألّا أشعر بالاختلاف حتى، مثلًا كنت ضمن برنامج تطويري باسم “رياضة من أجل التغيير” كان محاولة للدمج الفاعل لذوي الإعاقة بالمجتمع من خلال الرياضة، وهنا كنت ضمن المجتمع الذي يحمل مسؤولية تجاه قضيته، دون أي عنوان”.
راية فلسطين 2024
في هذه الحرب فقد فادي شقيقه وأكثر من عشرين فردًا آخر من عائلته، فادي يكره الأرقام ويخبرني بأن لعنة الفلسطينيّ هي أن حياته أصبحت رقمًا في نشرات الأخبار، وأنه بالعودة للسؤال الرئيس مالذي يدعوه للعب، فإنه يلعب الآن دون أن يكون فادي، هو يحمل رفاقه الشهداء معه و 60 ألفًا آخرين و11 مليون فلسطيني أيضًا، يصف لي فادي شعور تمثيل فلسطين في الألعاب البارالمبية في باريس 2024، في الوقت الذي يخضع الفلسطيني فيه لإبادة جماعية ويقول: ” لا أملك كلمات تكفي لتصف شعوري في ذلك الوقت، كانت دموعي تقف على الحافة، عند الدخول كان يمنع أن ترفع العلم من الجيب المخصص له، ولكن اجتاحتني رغبة عارمة لأن أرفعه وأجعله يرفرف، وفعلت أردت أن أخبرهم بأن الفلسطينيّ موجود وحاضر وأننا لا نستحق الموت نملك أحلام وكلمات، وأخبرتهم بكل هذا عندما رفعته فقط”.
يخبرني الديب بأن إسرائيل تعلم بأنها وإن استمرت بقتلنا لن تُفنينا جميعًا، ولإدراكها هي تحاول أن تقتل قدرتنا على المقاومة وعلى الحياة، تحاول أن تحول المجتمع الفلسطينيّ لمصابين ومبتوري أطراف وجرحى وذوي إعاقة، تستميت لقتل قدرة أجيالٍ كاملة على الحلم، وفي جوابه لسؤالي “مالذي يدعو متعبًا مثله للعب يقول: “لأنه يُمنع أن أفقد الأمل فالاحتلال يراهن على هذا، أن تموت شعلة الحب والحياة بداخلنا فتراها تقتل الموسيقى والرياضة والطب والحب، تحارب إسرائيل عقلية الفلسطيني وهي معركة لا بد أن أكسبها، ألعب لأنني دائم الحلم ومستمرٌ في التشكل كما الماء كما سجيّتي لأنني فلسطينيّ”..
المصدر: وكالة فلسطين الرياضية




