يزن حاج علي
في خضم صراع الرواية المستمر ضد الاحتلال الإسرائيلي وأدواته السردية التي يحاول جاهدًا تسخيرها لخلق صورة مزورة عن الإبادة التي يمارسها ضد الفلسطينيين، تبرز أهمية الصورة كعنصرٍ فعال في نقل الحقائق والتصدي للسرديات الاستعمارية، بشكلٍ فائق الأهمية.
وتعد السينما من أهم وسائل نقل الصورة، بل وصناعة إدراك الواقع والحقائق؛ لما تحمله من تأثيراتٍ على وعي المشاهدين من مختلف الأعمار، ثم تشكيل هوية جمعية للناس، فأين تقف السينما الفلسطينية اليوم وسط هذه المعركة؟ وكيف شقت طريقها قبل أن يسيطر الاحتلال على فلسطين التاريخية؟ وكيف واكبت المراحل المفصلية من القضية الفلسطينية؟
في هذه المادة نضع بين يديكم إرث السينما الفلسطينية منذ نشأتها في ثلاثينيات القرن الماضي حتى حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال ضد الوجود الفلسطيني.
محاربة الصورة قبل تصديرها
لم تكن الحياة الثقافية في فلسطين قبل النكبة بمنأى عن التغيرات التي طرأت على الإنتاج الثقافي في العالم ككل، بل سارت بخطى عَمِدَ الاستعمار البريطاني على عرقلتها منذ أن أحكم سيطرته على البلاد.
في تلك السنوات تنبهت الحركة الثقافية الفلسطينية إلى خطورة المشروع الصهيوني الملازم للانتداب البريطاني، فحاولت نسج رواية تضمن للشعب الفلسطيني حقوقه المستهدفة، وما إن سارت بذلك، حتى حاربها الانتداب بشتى الوسائل، كقانون الصور المتحركة عام 1929، الذي لاحق المحتوى المعروض في فلسطين.
وأكد المخرج الفلسطيني جورج خليفة في كتابه “السينما الفلسطينية: *أرض، صدمة، وذاكرة”، أن السلطات البريطانية فرضت على السينما في فلسطين العديد من القوانين كقانون الترفيه عام 1935، وقانون رقم 57 من العام ذاته.
بالتزامن مع ذلك كان المخرج الفلسطيني إبراهيم حسن سرحان من مدينة يافا، يشق طريقه جاهدًا في صناعة السينما، ليكون أول فيلم فلسطيني، بعد أن وثق زيارة الملك عبد العزيز آل سعود لفلسطين وتنقله بين يافا واللد، في فيلمٍ بلغت مدته 20 دقيقة في عام 1935.
وحاول سرحان توثيق الحياة اليومية للفلسطينيين وقضاياهم الاجتماعية والسياسية، فأنتج الفلسطيني أحلام تحققت عام 1939، بالاشتراك مع زميله المخرج جمال الأصفر، وتناول الفيلم قضية الأيتام في فلسطين.
وفي مطلع الأربعينيات توجهت أنظار سرحان لإنشاء أستوديو يعمل من خلاله على الإنتاج السينمائي، وتُوجت جهوده أخيرًا بتأسيس استوديو فلسطين في مدينة القدس، وأنتج به أول أفلامه السينمائية وهو ليلة العيد، بمدة زمنية بلغت الساعتين، ليُسجل كأول فيلمٍ سينمائي فلسطيني، تبعه بعمله على إنتاج فيلمٍ آخر بعنوان: عاصفة في البيت، والذي حالت أحداث النكبة وتهجير الفلسطينيين عن عرضه، وكان سرحان من الذين هُجروا قسراً إلى الأردن، بعد أن أطلق موكب السينما الفلسطينية قبل النكبة.
الإنطلاق من جديد بعد الصمت والنكسة
يمكن القول أن السينما الفلسطينية مرت بحالة صمت وركود منذ النكبة حتى عام 1968، أي بعد إنطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وتكثيف نشاطها المقاوم للاحتلال الذي بات يسيطر على كافة مساحة فلسطين التاريخية.
وما إن انطلقت عمليات الثورة الفلسطينية، حتى انطلقت معها السينما الفلسطينية من جديد بصبغة ثورية، تشابهت مع الهوية النفسية والاجتماعية للفلسطينيين الذين حملوا السلاح، ليطرأ مسمى السينما الثورية.
وفي عام 1969 أنتج المخرج الفلسطيني عبد الوهاب الهندي فيلميه “كفاح حتى التحرير” و”الطريق إلى القدس”، وهما فيلمان روائيان طويلان عرض من خلالهما تطورات القضية الفلسطينية من خلال حكايات تدور حول الكفاح التحرري والبطولات التي يبذلها الفلسطينيون ضد الاحتلال.
وحدة الأفلام الفلسطينية.. الكاميرا ترافق البندقية
بعد ذلك بعام، توجت جهود السينمائي الفلسطيني محمد الكيالي، بإنتاجه لفيلم “ثلاث عمليات داخل فلسطين”، وقد نجح بإنتاجه في سوريا، وعرض الفيلم حكاية عمليات عسكرية نفذتها الثورة، ولكل عملية فدائية حكاية مستقلة، بذاتها، لكن المخرج أوصل من خلال العمل الصورة الحقيقية عن القضية الفلسطينية والعمل العسكري المقاوم، وفكرة تحرير فلسطين.
في تلك الفترة، تأسست “وحدة الأفلام الفلسطينية”، كأحد الأذرع الثقافية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فيما تشير دراسات سابقة عدة إلى أن المخرجة الفلسطينية الراحلة سلافة جاد الله، هي أول من عملت على تأسيس هذه الوحدة، لتلتقي جهودها مع جهود المخرج الفلسطيني مصطفى أبو علي وغيره من المخرجين، حيث عملت الوحدة على إنتاج الأفلام التي توثق مسار الثورة الفلسطينية، وتحمل في طياتها الوعي الثوري، لترافق الكاميرا البندقية.
وكان أول فيلم سينمائي، تُنتجه الثورة الفلسطينية، بعنوان “لا للحل السلمي” وهو فيلم تسجيلي مدته (20 دقيقة)، وثق المسيرات الجماهيرية في الأردن والتي أُعلن من خلالها رفض مشروع “روجرز” وجاء الفيلم نتيجة عمل جماعي لمجموعة من السينمائيين الفلسطينيين، ذكر منهم: صلاح أبو هنّود، وهاني جوهرية، وسُلافة مرسال.
وبعد أحداث أيلول الأسود، وخروج منظمة التحرير من الأردن عامي 1970 و1971، ظهر فيلم “بالروح بالدم” بإشراف المخرج مصطفى أبو علي، وتنفيذ مجموعة العمل ذاتها تقريبًا؛ وفيه محاولة عرض وتحليل أحداث أيلول الدامي، عبر مشاهد تسجيلية حيّة، متمازجة مع مشاهد تمثيلية، ذات طابع مسرحي، عن التحالف بين الهيمنة الغربية والصهيونية والأنظمة العربية.
ومن الممكن ملاحظته، مرافقة العمل السينمائي الفلسطيني لمسار الكفاح المسلح من جهة، من خلال توثيقه أولاً وتوجيه صورته الحقيقية للعالم من جهةٍ ثانية، فضلاً عن إبراز الموقف الفلسطيني والعربي الرافض لحلول التسوية مع الاحتلال.
وبعد خروج منظمة التحرير إلى لبنان، عمل أبو علي على استكمال عمل وحدة الأفلام الفلسطينية، وأنتج فيلمًا سينمائيًا بعنوان “مشاهد من احتلال غزة” ووثق بها معاناة الفلسطينيين في قطاع غزة بعد احتلاله عام 1967، وفيلم “العرقوب” 1972 وفيلم “عدوان صهيوني” عام 1973.
وبرز مجموعة من المخرجين الذين أنتجوا عدة أفلام، كـ: “حرب الأيام الأربعة” لسمير نمر عام 1973، و”ليس لهم وجود” لمصطفى أبو علي عام 1974، و”كفر شوبا” لسمير نمر 1975، و”الحرب في لبنان” لسمير نمر عام1977، و”رؤى فلسطينية” لعدنان مدانات عام 1977، و”لأن الجذور لا تموت” لنبيهة لطفي.
في تموز 1981 قصف الاحتلال منطقة الفكهاني في بيروت، حيث كان مقر قيادة منظمة التحرير، وحيث كان مقرّ مؤسسة السينما الفلسطينية، تقول خديجة الحباشنة، زوجة مصطفى أبو علي في كتابها فرسان السينما: “خفنا على الإرشيف ونقلناه”. وبالفعل جرى نقل الأرشيف إلى «مكان سرّي» في منطقة الحمرا. جمعت هذه القاعة كل ما جرى تصويره بين 1968 و1981.
وبعد اجتياح لبنان 1982، كانت الثورة الفلسطينية تستعد للخروج من لبنان، فخاطبت خديجة الحباشنة القيادة: «شو بدكم تعلموا بالأرشيف؟ وكيف نطلعه؟. قالولنا: ولا حدا فينا بيقدر يطلعه».
اتفقت بعض القيادات الفلسطينية على أن يضع الفرنسيّون إشارة على المبنى الذي يحوي المستودع السريّ تشير إلى أنَّ هذا المبنى تابع لممتلكات السفارة الفرنسيّة، بحسب الحباشنة.
بدأ حصار المخيّمات عام 1985، وأغلقت السفارة الفرنسية في بيروت، وطلبت نقل المواد في المخزن بسبب أنها غير قادرة على حمايته، فقام «رجل أعمال لبناني من بيت الحلّاق بتأمين الأرشيف في مخزن عنده في منطقة بير حسن» جنوب بيروت، وفقًا للحباشنة.
وبذلت الحباشنة فيما بعد جهودًا مضنية، للحصول على أرشيف وحدة الأفلام الفلسطينية، ووثقت ذلك في كتابها المذكور أعلاه.
شكل خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982، منعطفًا حادًا ألقى بظلاله على الثورة الفلسطينية وكافة برامجها، ليُدشن بعد ذلك مرحلةً جديدة من مراحل العمل السينمائي الفلسطيني، برز خلالها العديد من المخرجين الفلسطينيين الذين أنتجوا المزيد من الأفلام الجديدة، والتي حظيت بصدى عالمي.
كان من بين هؤلاء المخرجين، المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي، الذي أنتج أولى أفلامه عام 1980، بعنوان “معلول تحتفل بدمارها”، وهو فيلم جمع بين الأسلوب الوثائقي والروائي، ووثق به عملية التطهير العرقي والتهجير التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في قرية معلول الواقعة غرب مدينة الناصرة أبان النكبة عام 1948.
ومن أبرز أفلام خليفي، فيلم نشيد الحجر عام 1991، والذي تناول مجموعة من النماذج الإنسانية المرتبطة بالقضية الفلسطينية، وتوثيق صورة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وعرض فكرة التضحية والفداء، بمزيج درامي ووثائقي، وقد حاز الفيلم على جائزة أفضل فيلم عربي، في مهرجان دبي السينمائي عام 2009.
وبرز المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، الذي قدم مجموعة من الأفلام نقلت صورة تفصيلية لأحداث القضية الفلسطينية، وكان فيلم سجل إختفاء أول أعماله عام 1996، والذي أوضح من خلاله زيف فكرة “السلام” التي طرأت بعد توقيع اتفاق أوسلو، من خلال توضيح الممارسات التي سلكها الاحتلال، محاولًا طمس القضية الفلسطينية، وحاز الفيلم على جائزة «لويجي دي لاورينتيس» في مهرجان فينيسيا الأول.
واستطاعت المخرجة الفلسطينية مي المصري إنتاج العديد من الأفلام التي تتداخل فيها مهماتها ما بين كتابة السيناريو والتصوير والمونتاج والإخراج والتعاون مع جان شمعون. ومن هذه الأفلام: (زهرة القندول) 1987، و(بيروت. جيل الحرب) 1988، و(أطفال جبل النار) 1990، وجميعها وثقت مراحل بارزة من القضية الفلسطينية، داخل فلسطين وخارجها، من خلال الربط بين الشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة وخارجها عبر الحبكة السينمائية.
وكانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، من الأحداث الهامة، التي تناولتها السينما الفلسطينية، إذ عمل المخرج هاني أبو أسعد، على طرح تأثير الانتفاضة على الأطفال عبر فيلمه “بيت من ورق” وفيه رصد هدم قوات الاحتلال الإسرائيلي لبيت فتى فلسطيني، حيث لم يجد الأخير أمامه سوى أن يستبدل بيته المهدوم ببيت من ورق، طلب فيه المعونة من أصدقائه لتوفير اللازم لبناء بيته.
سينما الانتفاضة الثانية
في عام 2000 انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، بزخمٍ يوازي زخم الانتفاضة الأولى، قوبلت بإجرام إسرائيلي واسع، وباحتدام المواجهة بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال، وفي خضم أحداثها، أنتج المخرج هاني أبو أسعد فيلمه الجنة الآن، الذي تناول فيه قضية العمليات الاستشهادية التي كانت أبرز معالم الانتفاضة الثانية، وقد وصل الفيلم إلى تصفيات جائزة الأوسكار، وحاز على جائزة الـ”غولدن غلوب” لأفضل فيلم أجنبي.
أما المخرج محمد البكري، فأنتج فيلمه الشهير جنين – جنين عام 2002، وهو فيلم وثائقي وثق من خلاله تفاصيل مجزرة مخيم جنين الذي ارتكبها جيش الاحتلال في شهر نيسان من ذات العام، وأحدث الفيلم صدى عالمي، وعقوبات إسرائيلية فرضها الاحتلال على المخرج.
السينما الفلسطينية الجديدة والتغيرات
في مرحلة الركود السياسي الفلسطيني والأزمات الداخلية التي بات يعيشها الفلسطينيون بعد انتهاء الانتفاضة الثانية، برع هاني أبو أسعد مرة أخرى في تسليط الضوء على تفاصيل إشكاليات الحياة الفلسطينية، من خلال فيلمه “عمر” عام 2013 والذي أشار به إلى المأزق الحياتي الذي يعيشه الفلسطينيون بسبب وجود الضم والتوسع العنصري الذي أقامه الاحتلال في منتصف الضفة الغربية عام 2002، لمنع الفلسطينيين من التواصل، وتعزيز التفرّق الفلسطيني الإجتماعي والثقافي، وكذلك بهدف الحماية الأمنية، وقد وصل الفيلم إلى اختيارات جائزة الأوسكار النهائية عام 2014.
كذلك فيلم “غزة مونامور” الذي صور المعاناة الإنسانية في قطاع غزة، في ظل الحصار، من إخراج الأخوان عرب وطرزان ناصر، ونقلا من خلاله صورة المخيم الفلسطيني المهترئ، الذي يحيا فيه الفلسطينيون في ظروف شديدة القسوة، ويرفضون تغيير صورته، فقط لأنه يحمل سيرة جرم الاحتلال في تغريب الفلسطينيين عن أرضهم التاريخية، وقد نال ترشيحات لجائزة مهرجان “سيزار” السينمائي الفرنسي.
بهذا، تُختزل مسيرة السينما الفلسطينية التي شقت طريقها من وسط التحديات واصطدمت منذ بدايتها بالنكبة، مرورًا بقسوة اللجوء والشتات وتجارب الثورة والنضال داخل فلسطين وخارجها، وتحولاتها التي عكست تحولات القضية الفلسطينية ومأساتها المستمرة، فيما سيعمل فريق بالغراف على الغوص في عالم السينما الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة، وصولاً لحرب الإبادة الجماعية.