اسراء محمد صبح
في بلادٍ لا تتوقف عن فقد أبنائها واحدًا تلو الآخر، يبقى لكلّ اسمٍ حكاية، ولكلّ غيابٍ فراغ لا يُملأ.. فكيف إذا كان الغياب يخصّ شابًا مثل بلال؟
ولد بلال إياد عقل في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، لم يتجاوز عمره السادسة والعشرين، وانتهى مشواره عند هذا الحد.
درس بلال القانون، وأسّس مشروعه الخاص في تجارة الأدوات الكهربائية، ومتجرًا لبيع الحقائب.
كان صوته عذبًا، يجيد تلاوة القرآن والغناء، يحب الكتابة والأدب والفلسفة، وبالطبع…القهوة.
كان يدرك أن الموت قريب، لكنه رفض أن يكون رقمًا في خبر عاجل.. فكتب وصيته، ناعيًا نفسه قبل استشهاده بثلاثة أعوام.
“اسمي بلال، عمري ٢٣، أكثر ما يخيفني هو ذكر موتي في استهداف صهيوني كرقم ضمن الأعداد التي تزيد كل دقيقة… لست شابًا عاديًا، ولا رقمًا، لي بيت، وأصدقاء، وذاكرة، والكثير من الألم.
أنا لست رقمًا.” (بلال إياد عقل، 2021)
كيف لبلال أن يموت؟
عزيزي بلال..
كل الأشياء في هذه الحياة تبدأ لتنتهي.. تلك هي سنة الله في خلقه، تسري على كل شيء وعلينا.
لكن.. خُيِّل إليّ أنك استثناء، دائمًا ما شعرت بأن شخصًا مثلك يستحق الأبدية.
كيف لبلال أن يموت؟
في جلسات أصدقائه وحواراتهم، كان بلال بطلاً لكل قصة وحديث.
يقول صديقه حمزة أبو شكيان، “كان بلال يجمع بكلامه بين الدين والرِّقة، بين الآية والآداة، بين كل ما هو قابل للجمع.. إلى أن قام بتجميعنا نحن الشباب سويًا على سطح منزله، كل رمضان وكل عيد وكل عيد وطني وكل مناسبة ما يتم ذكرها على التقويم.. كان يجمعنا”.
بلال، أو كما هو محفوظ في جهات الاتصال في هاتفي (بُلبل)، كان طيّبًا، حنونًا، يميل إلى الصداقة، إلى الحُبّ، ويعتقد أن الحب الحقيقي يكمن في صديق وقف بجانبه، وابتسم معه ابتسامة لا تنتهي من شدة صدقها، ذكيّ مثل وردة اختارت حقلها غصبًا عن المنجل، يضيف حمزة.
“كان يعرف كيف يروض الألم والمعاناة ويحولهم لفكرة.. فكرة ما تجعل العالم من حوله أقل قسوةً وريبة، هادئ مثلما البحر”.


بلال: “هذا البحر لي”..
البحر بالنسبة لكل مواطن غزيّ يحمل مكانة كبيرة لا يعرف سرها أحد، ملاذ خاص، جنة صغيرة، حُلم جميل لا ينتهي أبدًا..
وهذا تمامًا ما كان يشعر به بلال، يقول حمزة.
كان بلال يحرص على زيارة البحر أسبوعيًا، يدعو أصدقاءه قائلاً: “اليوم بحر، خلص لازم نروح نغيّر جو.”
ويذكر حمزة أن بلال كان يخصص وقتًا ليمشي وحيدًا على الشاطئ، كأن لقاء سري بينه وبين الموج والصدف، حافيًا، وعلى لسانه ألحان أم كلثوم والريح يهز خصلات شعره الأسود.
قصص البحر لا تنتهي لكنني على يقينٍ بأن بلال سيطلب في الجنة أن يكون بيته مطلاً على البحر، حيث نلتقي معه مرةً أخرى فيه، يقول.
النجاة الأولى.. والأخيرة!
في عام 2018، وخلال مشاركته في مسيرات العودة، أصيب بلال في وجهه إصابة خطيرة، سرقت قناصة الاحتلال غمازته، ونُقل على إثرها إلى الأردن لتلقي العلاج.
بعد الرحلة العلاجية، شيء تغيّر في بلال، أدرك معنى الشهادة، لدرجة أنها أصبحت أمنيته.
“شاف الموت مرة… وغالبًا تمناه مرة ثانية في سبيل الوطن، ونالها”، يقول حمزة.
“كانت تأتيني حميّة الوطنية بين الفينة والأخرى تجاه القضية، أما الآن، كلما وقفت أمام المرآة، أجد القضية قد حُفرت على وجهي، بدمي، وهذا الحقد الذي فيّ لن يخبو أبدًا وهناك صهيونيٌ سارق يعيش على أرضي” (بلال إياد عقل، 2018)


حياة بين موتين..
عاد بلال من رحلته أكثر وعيًا ومسؤولية، أكمل دراسته في كلية القانون، وأطلق مشروعًا لتجارة الكهربائيات، فضلاً عن إدارته لمتجره الخاص، وتفرّغ لعائلته بصفته الابن الأكبر.
عمل مع والده على تطوير عمله، وحلما بشركة معروفة لها اسم ومكانة في السوق.
في الحرب الأخيرة، نزح مع عائلته من النصيرات إلى دير البلح، ونظرًا للظروف القاسية في حينها، افتتح بسطة صغيرة عرض فيها ما تيسر من بضاعة متجره: شنطًا، وجرابات، وأدوات بسيطة.
كثيرون في غزة، مثل بلال، أُجبروا على ترك متاجرهم وشركاتهم، ولجأوا إلى بسطات بسيطة، في محاولة للاستمرار بالعيش، والحفاظ على الحد الأدنى من مصادر الدخل وسط الحرب.
بلال… الذي دوّن رحيله
“إذا وصلكم خبر استشهادي، لا تأتوا لوداعي الا اذا كنت جسدًا كاملا كما عرفتموني، وجهًا باسمًا يُمكن أن يُقبّل، يدًا دافئة يمكن أن تُحضن، لا أريد لجسدي أن يكون شيئا اخر في ذاكرتكم، أريد لتراب هذي البلاد أن يحتضنني في الأرض، كلّي” (بلال إياد عقل 2024)
يعرف الغزيّ أن شكل موته قد لا يختلف كثيرًا عن تلك الأجساد التي يمرّ بها كل يوم، مبتورة، محترقة، بلا ملامح.. لكنه رغم ذلك، يترك لنفسه هامشًا صغيرًا من الأمل – أو الوهم لا أدري- بأن موته سيكون أقل قسوة، وأن جسده سيبقى كما هو، وبأنه سيترك لأحبته ملامح واضحة يمكن أن تُودّع.
“أصبح الموت، موتُنا، ليس كافيًا” (بلال إياد عقل، 2024)
يأخذ الموت عند الغزيّ شكلًا لا يشارك فيه أحد، ليس لأنه يموت وحده، بل لأن موته يُفهم على أنه حالة تخصه وحده، مرتبطة بهويته، بمكانه، باسمه، وبموقعه في الخارطة.. ووسط كل هذا، يبدو أن الدم الفلسطيني، رغم كثرته، لم يكن كافيًا.
هل سنروي القصة أم نكون منها؟ (بلال إياد عقل، 2024)
لا يملك الغزيّ ترف اختيار موقعه في القصة، لكن شخصًا كبلال، كان يعرف أنه إن لم يروها حيًا، سيكملها غائبًا.
رويت القصة بدمك، وكنت بطلها يا بلال، أنت الحكاية.. كلّ الحكاية.


لا نجاة ثانية،بل موت أبدي
قصفت طائرات الاحتلال منزل عائلة عقل في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة يوليو الماضي، واشتعلت النيران في البيت، وفي قلوب من عرفوا ساكنيه..
أُصيب بلال وعائلته بحروق بالغة، على إثرها استُشهد والده، الدكتور إياد عقل أولًا، ثم لحق به بلال بعد أيام، وتبعه شقيقه أحمد، الذي كان قد عاد من غربته ليكون إلى جانب أهله خلال الحرب، ثم والدته سهى، ولحق بها محمود، الشقيق الأصغر لبلال.
عائلة كاملة مُحيت في لحظة، تاركةً خلفها فراغًا لا يُعوّض.
كان محمد عاطف، الصديق الأقرب لبلال خلال الحرب، وحاضرًا معه في أيامه الأخيرة.
يروي “حين استيقظ بلال في المستشفى لأول مرة، التفت إليّ وقال بصوتٍ متعب: يا خسارة يا أبو عاطف راحت، يا ريتنا رحنا لأنه كنا ساجدين.”
وفي لحظاته الأخيرة، همس لي: “دوري يا أبو عاطف… اليوم دوري، فيه بياض كثير.”
كان بلال يصف رؤاه أثناء غيبوبته تحت تأثير البنج، حيث رأى نفسه يوزّع الهدايا على أطفال حارته، ويتجول في أماكن جميلة.
“حين رحل بلال، رحلت معه كل التساؤلات، وكل الأصوات.. استطاعوا أن يجتثوا صوتًا جميلًا، وعقلًا متقدًا، دائم الخضرة، سريع البديهة. استطاعوا أن يُغيّبوا أجزاءً منا معه، من عرف بلال شعر بذاك الرحيل”. يقول محمد.
“بلال هو شريك الذكريات… شريك الأحلام والطموحات”.
صمت محمد طويلاً، ثم قال بغصة، “اشتقتلك يا خلّي الوفي، الدنيا على فكرة ما بتمشي زي ما انت كنت مفكر”.
لكل صديق من أصدقاء بلال حكاية فقدٍ لا تشبه الأخرى، لكنهم جميعًا يتشاركون ذات الفراغ الذي تركه خلفه.
يقول صديقه حمزة، “قتلتني حروقك حينما غطّتك، مزّقتني الصواريخ حينما سقطت فوق السقف، غمرني الحزن حدّ الكفاية لحظة استيقظت قبل أيام ولم أجدك، قلت في نفسي (عليك أن تتقبل ذلك، الحياة حق والموت حق، لست بأول فاقد ولست بأول مفقود فكُل الذين تعلقوا بشيء ذاقوا مرارته..) أهذا كلام يناسب حمزة الذي تعرفه؟ نعم، ربما، نعم لو كنت أنت من أجابني هذه الإجابة”.
ويضيف، “ما نسيتك ولا رح أنسى، بكل دُعاء ولحظة على البال يا صاحبي، استنانا بس وكلنا رح نجيك ونلتقي تاني.”
قال بلال في أيامه الأخيرة، “نحن مؤقتون على هذه الأرض”.
عزيزي بلال..
من يملأ حياة الآخرين بكل هذا الحضور، لا يزول برحيله.
قلت لك سابقًا انك استثناء، ولم أكن مخطئة، كنت استثناءً في حضورك، وكلماتك، وحبّ الناس لك، حتى في الفراغ الذي تركته وراءك.
كنت مؤقتًا بالجسد، لكنك خالد بما زرعت، وبما بقي منك… فينا.
سلام عليك يا أنبل الشهداء، وأجملهم..