loading

اقتلاع زيتون المغير.. صورة الإبادة الإسرائيلية للزيتونة الفلسطينية

يزن حاج علي

انسحب جيش الاحتلال من قرية المغير شمال شرق رام الله، بعد اقتحام استمر ثلاثة أيام متواصلة، عاث خلالها خراباً لم تشهده القرية من قبل، وما إن انسحبت الآليات العسكرية الإسرائيلية من القرية، ومع ساعات الفجر الأولى، بدت الجريمة في سهل القرية بشكلها الأوضح، فلم تكن جريمة، بل إبادة حقيقية ارتكبتها جرافات الاحتلال بحق آلاف أشجار زيتون المغير على مساحة 297 دونم من أراضي القرية.

لم يكن تجريف الاحتلال للأراضي واقتلاع أشجار الزيتون في المغير بالحدث الجديد، ولا محض اجراء انتقامي عابر، بل هو مسار استعماري انتهجته دولة الاحتلال منذ تأسيس نواتها من المستوطنات والمدن الاستيطانية التي أُقيمت على أراضي الفلسطينيين بعد تجريفها وعلى ركام القرى المهجرة، في حين لم يتوقف الاحتلال يوماً واحداً منذ سنوات الاربعينيات حتى يومنا هذا عن استهداف الزيتون الفلسطيني، فما حكاية هذا العداء؟ ولماذا يتعمد الاحتلال تعميق إبادة كافة أشكال الوجود الفلسطيني لتشمل تلك الشجرة التي ارتبطت تاريخياً بالشعب الفلسطيني منذ الأزل؟

الزيتون الفلسطيني.. عمق حضاري وصراع وجودي

يمتد تاريخ شجرة الزيتون إلى نحو خمسة آلاف عام، حين دجّنها الكنعانيون في بداية العصر البرونزي، ودلت نتائج التنقيبات الأثرية والمصادر التاريخية على انتشار زراعة الزيتون وعصره في كافة أرجاء فلسطين. وقد تم تصوير مشاهد القطاف والعصر في السجلات الأثرية القديمة، وظهر مشهد القطاف على جرة فخار من القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان، وعلى أرضيات فسيفساء من الفترة الرومانية.

وفي السياق الديني للديانة الإسلامية والمسيحية برزت شجرة الزيتون كرمزٍ للخلود والبقاء، مرتبطة بالسلام، 

وبأحداث صعود السيد المسيح بجبل الزيتون في القدس، وجاء في القرآن الكريم القسم العظيم “والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين”، وأصبحت شجرة الزيتون رمزاً للأمن والسلام.

بهذا الامتداد التاريخي والثقافي، واصل الشعب الفلسطيني زراعته واهتمامه بشجرة الزيتون، حتى باتت إحدى أبرز الروابط الوجودية بينه وبين أرضه، ورمزاً ناصعاً من رموز الصمود المستمر، ومعلماً من معالم الهوية الفلسطينية، وبناء على ذلك اتخذ الاحتلال من شجرة الزيتون عدواً مرتكباً ضدها إبادة بعدة ذرائع كشق الطرق الاستيطانية ومصادرة الأراضي من جهة، أو عن طريق توجيه مليشيات المستوطنين لحرقها وتخريبها. 

وبالتوازي مع ذلك سعى الاحتلال لسرقة وتزوير السياق التاريخي للزيتون وربطه بالإرث الصهيوني المزيف، عن طريق سرقة جذوع أشجار الزيتون المعمرة وزراعتها على مداخل المستوطنات في الضفة الغربية.

المغير.. جرح غائر وصمود لا متناهي

في أعقاب المجزرة، وفور انسحاب جيش الاحتلال، كان أول ما قام به أهالي القرية التوجه نحو الأراضي التي نهشتها الجرافات الإسرائيلية وغيرت معالمها، ليشاهدوا بحسرة ما حل بأشجراهم التي توارثوها عن أجدادهم، فما كان منهم إلا البدء بزراعة هذه الأشجار من جديد جاعلين من دموع عيونهم سُقيا لها.

بلال أبو عليا، أحد الأهالي الذي فقد قرابة 60 شجرة زيتون اقتلعتها جرافات الاحتلال، والذي شرع بإعادة زراعة جذوع الأشجار المقتلعة مرة أخرى، في مشهد جسد عمق تمسك الفلسطيني بأرضه دون تراجع، فمع مشاعر الحزن من المشهد الذي خلفه الاحتلال في السهل، امتزجت مشاعر الانتماء والصبر.

ووفي حديثٍ خاص أجراه “بالغراف” مع بلال، قال فيه إن ما شهده سهل قرية المغير مخطط مُدبر للاستيلاء على أراضي السهل الزراعية وتجريفها مع اقتلاع أشجار الزيتون واللوزيات التي تعود ملكيتها إلى أهالي القرية، في حين أكد أبو عليا قائلاً: “لم يكن المخطط محض انتقام من القرية لعلمية إطلاق النار التي زعم الاحتلال وقوعها قبل أيام، بل مخطط للسيطرة على الأراضي من جهة، وتدمير كروم الزيتون التي شكلت تاريخياً مثابة درع حقيقي لمنازل وأراضي المغير”.

وأضاف أن عملية الإبادة التي ارتكبت بحق الزيتون كانت بدورٍٍ متكامل بين جيش الاحتلال الذي أحضر جرافات D9 من جهة، وبين مليشيات المستوطنين التي أحضرت جرافاتها ومعداتها، وبدأت عملية التجريف المشتركة بحق قرابة 7 آلاف شجرة زيتون، في حين كانت قوات الاحتلال تقتحم القرية مع إجراءات منع تجول مشددة، الأمر الذي استغله المستوطنون بتوسيع عمليات التجريف.

وأشار بلال إلى أن منزل عائلته يحاذي الشارع الاستيطاني والسهل الذي شهد عملية التجريف، موضحًا أن أشجار الزيتون التي تم اقتلاعها يتجاوز عمرها 120 عامًا وفق الروايات الشفوية المتوارثة، والأجيال المتعاقبة من العائلة.

وأضاف مُعبراً بألم: “كانت هذه الأيام من أصعب أيام حياتي، والله لو قتلونا وهدموا المنازل لكانت أهون من مشهد اقتلاع الأشجار بهذا الشكل، ترعرعنا ونشأنا في ظلال هذه الأشجار.. نشأنا على رمزية باقون ما بقي الزيت والزعتر، وكما زُرعت سنزرع غيرها”.

في حديثٍ آخر، قال المواطن كاظم الحج محمد ل “بالغراف”، إن ما ارتكبه جيش الاحتلال في قرية المغير خلال الأيام الماضية يأتي ضمن مخطط تهجيرٍ فعلي للمواطنين، وأن عمليات اقتلاع أشجار الزيتون وتدمير السهل، يربطه الاحتلال بأكاذيب لا أساس لها من الصحة، ويبرر أن عمليات اقتلاع الزيتون تتم بما يُسمى بـ”دوافع أمنية”.

وأوضح الحج محمد أن استمرار الاحتلال باستهداف أشجار الزيتون يقع في نطاق الحرب على الوجود الفلسطينيين وتغيير هوية الأرض الأصلية، ثم سرقتها وتحويلها لصالح المستوطنات والشوارع الاستيطانية، استكمالاً للنهج الاستيطاني الذي يقوده المشروع الصهيوني في فلسطين منذ بدايته.

واختتم حديثه قائلاً: “نواصل الصمود في أرضنا كأشجار الزيتون، ونستمر بزراعتها حتى زوال الاحتلال”.

من جانبه، بين المواطن عمران فضل أن الهجمة الاستيطانية الأخيرة على المغير جزء من سلسلة اعتداءات وهجمات شرسة تمارسها المليشيات الاستيطانية منذ سنوات.

وأفاد بأن جيش الاحتلال اقتلع الآلاف من أشجار الزيتون وجرف الأراضي الزراعية الرعوية التي كان يستفيد منها الناس وتشكل لهم مصدرًا معيشيًا، لتتحول إلى شارع استيطاني التفافي يربط إحدى البؤر الاستيطانية بشارع “ألون” الاستيطاني، فيما أفرغ الاحتلال حقده على أشجار الزيتون في المنطقة.

تدمير ممنهج لأشجار الزيتون من الضفة الغربية إلى قطاع غزة

منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة في تشرين أول/أكتوبر 2023، دمر جيش الاحتلال 75% من أشجار الزيتون في القطاع، والتي كانت تشكل رافدًا اقتصاديًا وغذائيًا هامًا لسكان القطاع، إضافةً للإرث التي تحمله في الذاكرة الفلسطينية، وما إن اجتاحت دبابات الاحتلال، حتى بدأت بتجريف وتحطيم الأراضي الزراعية، والتي ضمت آلاف الأشجار في شمال قطاع غزة ووسطه.

وأشار تقرير أعده المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان، التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، في شهر تشرين أول/أكتوبر 2024 المنصرم، إلى أنه “في قطاع غزة، كانت للحرب آثار مدمرة على قطاع الزيتون، فقد أتت الحرب على ما يزيد على 75% من أشجار الزيتون في القطاع”.

أما في الضفة الغربية، فلم تتوقف الهجمة الاستيطانية على أشجار الزيتون، فمنذ عام 2024، أصدر الاحتلال قراراً يقضي بمصادرة آلاف الدونمات من أراضي بلدة سنجل شمال رام الله؛ لصالح بناء جدارٍ شائك يحيط البلدة، وقد قام جيش الاحتلال بالمشاركة مع المستوطنين، باقتلاع المئات من أشجار الزيتون التي تعود ملكيتها لأهالي البلدة.

ولم يكتفِ المستوطنون بذلك، فبعد الانتهاء من بناء الجدار الشائك حول البلدة، نفذوا عمليات تجريف أخرى في شهر حزيران الماضي، طالت 10 دونمات من أراضي سنجل، اقتلاع للمزيد من أشجار الزيتون المعمرة.

وفي ذات الشهر، هاجم مستوطنون من مستوطنة “شيلو”، سهل بلدة ترمسعيا المجاورة لسنجل، وقاموا بتجريف 5 دونمات من الأراضي الزراعية، واقتلاع 100 شجرة زيتون، وأشجار مثمرة أخرى، وقد سبق هذا الاعتداء اعتداء آخر في شهر تشرين أول 2024، عندما أقدم المستوطنون على تكسير 70 شجرة زيتون مثمرة تعود ملكيتها لأهالي البلدة.

وفي إجراء استيطاني مشابه، أصدرت قيادة جيش الاحتلال في الضفة الغربية، قراراً خلال شهر حزيران الماضي، باقتلاع عدد كبير من أشجار الزيتون والأشجار المثمرة في أراضي بلدة ترقوميا، غرب مدينة الخليل، لـ”أسباب أمنية” زعمها الاحتلال، ولكن الحقيقة أن القرار جاء لصالح طريقٍ استيطاني جديد لصالح بؤرة استيطانية ناشئة ومستوطنة “أدورا” المجاورة.

أما مسافر يطا، التي تشهد هجمة استيطانية واسعة منذ عدة أعوام، خسر بها المواطنون المئات من أشجار الزيتون، باعتداءات المستوطنين التي تنوعت بين التكسير والحرق، والتجريف بحماية جيش الاحتلال.

وضمن هذه المخططات المستمرة منذ عقود، يواصل الاحتلال حربه على الزيتون على امتداد الأراضي الفلسطينية، فبين اعتداءات المستوطنين وعمليات التجريف التي يشنها جيش الاحتلال، وعمليات المصادرة، تتواصل معركة الوجود بين الفلسطيني وزيتونه، وبين المشروع الصهيوني الاستيطاني، دون كللٍ أول ملل من الفلسطيني المتجذر بأرضه كأشجار الزيتون التي غرسها.

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة


جميع حقوق النشر محفوظة - بالغراف © 2025

الرئيسيةقصةجريدةتلفزيوناذاعةحكي مدني