مريم دروزة
عند استقبال أوروبا، وخصوصاً المانيا، أعداداً كبيرة من اللاجئين عام 2015 نتيجة الحرب على داعش في سوريا والانتهاكات المستمرة لنظام بشار الأسد، أظهر العديد من الأوروبيين تضامناً إنسانياً ومساندة للمضطهدين الفارين. في الوقت نفسه، رأت بعض الحكومات والأطراف في موجة اللجوء فرصة لتعويض النقص المتزايد في اليد العاملة، خاصة في ظل التحديات الديموغرافية المرتبطة بارتفاع معدلات الشيخوخة في أوروبا؛ حيث تشير بيانات العام 2023 إلى أن أكثر من 21% من سكان الاتحاد الأوروبي كانوا فوق سن 65 عاماً.
على الرغم من هذه الفوائد المحتملة، أثارت الظاهرة مخاوف بعض السكان من تأثيرات على الهوية الوطنية والثقافية والسياسية للدول الأوروبية. وقد انعكس ذلك في صعود الأحزاب الشعبوية والمعادية للهجرة. هذه المخاوف كثيراً ما تغفل عن حقيقة أن اللاجئين أظهروا تدريجياً مساهمة ملموسة في سوق العمل. فبحسب بيانات معهد أبحاث التوظيف للعام 2024، فإن نحو 64% من اللاجئين الذين وصلوا إلى ألمانيا عام 2015 كانوا قد اندمجوا في سوق العمل بحلول 2022، ومعظمهم في وظائف تخضع لمساهمات التأمينات الاجتماعية. كما بلغ الأجر الوسيط لهؤلاء نحو 13.70 يورو في الساعة، وهو أعلى من الحد الأدنى للأجور المنخفضة في ألمانيا الذي يبلغ 12.50 يورو.
مع ذلك، شكلت موجات اللجوء تحدياً مالياً كبيراً للحكومة الألمانية. فبحسب بيانات ستاتيستا للعام 2023، بلغت نفقات الحكومة الفيدرالية على اللاجئين وقضايا اللجوء نحو 29.7 مليار يورو في عام 2023 فقط، فيما قدّرت تحليلات أخرى أن الإنفاق التراكمي بين عامي 2015 و2025 سيصل إلى حوالي 248.7 مليار يورو، منها أكثر من 56 مليار يورو صُرفت على المساعدات الاجتماعية والإسكان والتأهيل.
على الصعيد الأمني، استُغلت قضية اللجوء في النقاشات السياسية عبر ربطها بالجريمة. إلا أن دراسات مثل تقرير معهد بحوث الاقتصاد بجامعة ميونيخ للعام 2025 أكدت أن زيادة نسبة الأجانب في أي منطقة المانية لا تؤدي بالضرورة إلى زيادة معدل الجريمة فيها، وأن التمثيل الزائد للأجانب في بعض الجرائم يُفسَّر بعوامل أخرى مثل العمر (أغلبية اللاجئين من الشباب الذكور) أو الإقامة في مدن كبيرة حيث معدلات الجريمة مرتفعة أصلاً. وفي الواقع، أظهرت تقارير اخرى للعام 2015 أن معظم الجرائم التي ارتكبها لاجئون كانت مرتبطة بمخالفات إدارية أو سرقات صغيرة، بينما شكلت الجرائم الجنسية أقل من 1%، وجرائم القتل أقل من 0.1% من مجمل القضايا.
إلى جانب ذلك، فإن ظروف الدعم المادي المقدم للاجئين تغيّرت مع مرور الوقت. ففي عام 2025، حُدِّد المبلغ الشهري لطالب اللجوء الفردي عند نحو 441 يورو، مقارنة بـ 460 يورو سابقاَ. وتشير الإحصاءات للعام 2023 إلى أن عدد المستفيدين من مساعدات اللاجئين بلغ حوالي 522,700 شخص، بزيادة 8% عن العام السابق، منهم 28% من القُصّر. هذه الحقائق تبرز أن اللاجئين لم يكونوا عبئاً محضاً كما يروّج الخطاب الشعبوي، بل شكّلوا إضافة اقتصادية واجتماعية، حتى وإن رافق ذلك تحديات مالية وسياسية حقيقية.
من جهة أخرى، تظل مسؤولية الدول الغربية في التعامل مع جذور الأزمات في المنطقة العربية والإسلامية محدودة وضعيفة. إذ غالباً ما اختارت هذه الدول التركيز على مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية، سواء عبر التواطؤ مع بعض الأنظمة أو تجاهل انتهاكاتها. هذا النهج لم يسهم فقط في استمرار الصراعات بل جعل من موجات اللجوء واقعاً متكرراً يهدد الاستقرار الداخلي الأوروبي.
إن التصعيد المستمر في الشرق الأوسط يفرض على الدول الغربية إعادة النظر في سياساتها وتحالفاتها مع القوى الإقليمية، بعيداً عن ازدواجية المعايير التي أضعفت مصداقيتها في المنطقة. فالاكتفاء بدور المتفرج أو دعم أنظمة استبدادية بحجة الاستقرار قصير المدى، أسهم في مفاقمة الأزمات بدلاً من حلّها. على سبيل المثال، فإن استمرار دعم بعض القوى الكبرى لأنظمة متهمة بانتهاك حقوق الإنسان، أو تجاهل الانخراط بوساطات إقليمية حقيقية وفاعلة في بعض النزاعات، عزّز من موجات النزوح وأطاح بفرص بناء سلام مستدام.
المطلوب إذاً هو توظيف الأدوات الدبلوماسية وتعزيز الحوار المباشر مع القوى الفاعلة، بما يشمل القوى الإقليمية التي تمثل طرفاً أساسياً في الصراع. كما أن العمل على معالجة الأسباب الجذرية للهجرة مثل غياب التنمية، الفقر، وانعدام العدالة قد يكون أكثر فعالية وأقل تكلفة على المدى الطويل من السياسات الدفاعية التي تركز على ضبط الحدود.
من زاوية أخرى، يُظهر تعامل بعض الحكومات الغربية مع قضايا اللجوء كملف انتخابي قصير المدى ضعفاً في الرؤية الاستراتيجية. إذ يؤدي استغلال الهواجس الشعبية وتوظيف مصطلحات مثل “الإرهاب الإسلامي” إلى تعزيز الانقسام داخل المجتمعات الأوروبية، بدلاً من دعم الاندماج الإيجابي. وتشير دراسات حديثة إلى أن السياسات القائمة على الخوف والتمييز تُفاقم من الشعور بالعزلة لدى المهاجرين واللاجئين، ما يضعف فرص دمجهم في سوق العمل والمجتمع، ويخلق حلقة مفرغة من التوترات.
ان الاندماج الفعلي لا يمكن اختزاله في تعلّم اللغة فقط، رغم أهميتها. المطلوب هو تطوير سياسات اندماج شاملة تعزز أدوات الحوار والتواصل بين المهاجرين والمجتمعات المضيفة. فالمساحات المشتركة للنقاش وتبادل التجارب تساعد اللاجئين على التعبير عن رؤيتهم وقيمهم بلغة يفهمها المجتمع الذي استقبلهم، وفي الوقت نفسه تساهم في بناء فهم متبادل يخفّف من الصور النمطية. مثل هذه السياسات لا تُسهم فقط في الحد من التوتر الاجتماعي، بل تفتح المجال أيضاً أمام مساهمات المهاجرين في الحياة العامة، بما فيها الاقتصاد والثقافة والسياسة، وهو ما يحوّل الاندماج من عبء إلى فرصة.
من هنا، يصبح الفصل بين الصدمات النفسية والاجتماعية التي يمر بها اللاجئون وبين الدين أو الثقافة ضرورة سياسية وأمنية في آن واحد. فالتعميمات التي تربط اللاجئين بالإرهاب لا تضر فقط بصورة المسلمين والعرب في الغرب، بل تساهم في تغذية الخطابات المتطرفة على الجانبين: من جهة اليمين الشعبوي في أوروبا، ومن جهة الحركات المتشددة في الشرق الأوسط التي تستغل هذه السرديات لتجنيد المزيد.