loading

الاحتلال يضرب معدة الضفة ليقطف رأسها

جيفارا سمارة

شحيحٌ موسم الزيتون هذا العام، لا يتجاوز رُبعه متوسطَ إنتاجٍ يبلغ 22 ألف طن، كما هو متوقع. غير أن الشح أهون المصائب؛ فالموسم هو ذروة حرب تجويع مفتوحة في الضفة، كان آخر ضحاياها شهيدة الزيتون حنان أبو سلامة من قرية فقوعة بمحافظة جنين.

أميركا وأوروبا والأمم المتحدة: موسم الزيتون قتلٌ وإصابات وتخريب يشبه ساحة الحرب

“لولا نحن اليهود لما نزل المطر، ولما نبت الزرع، ولا يُعقل أن يأتينا المطر، ويأخذ الأشرار (الفلسطينيون) ثمار الزيتون ويصنعون منه الزيت”، تصريح للقتل والإرهاب أفتى به كبير حاخامات الكيان عوفاديا يوسيف.

عقيدة دفعت مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” إلى اتهام الاحتلال “باستخدام أساليب تشبه الحرب في الهجمات على قاطفي الزيتون، وصولًا إلى القتل والجرح بأساليب فتاكة”، ما أدى إلى اقتلاع وتخريب أكثر من 3 ملايين شجرة منذ النكسة، 90% منها زيتون.

إرهابٌ دفع 12 دولة أوروبية إلى إصدار بيان مشترك في 14 أكتوبر 2023، أبرزها فرنسا وبريطانيا وألمانيا، جاء فيه: “إن حصاد الزيتون أصبح خطيرًا بفعل عنف المستوطنين، عدا عن القيود التي يفرضها الجيش للوصول إلى البساتين”. إرهابٌ جعل الحليف الأكبر للكيان (أميركا) يفرض عقوبات على المستوطنين المدانين، حاثًّا إسرائيل على وقف العنف.

سيناريو غزة يُمَهَّد له في الضفة

مخطئٌ من يعتقد أن الإبادة والتجويع التي تطحن البشر والحجر في قطاع غزة بدأت في أكتوبر 2023؛ فبحسب تقرير لمؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان هندسة التجويع: استخدام جهود الإغاثة سلاحَ ضغط على الفلسطينيين، استند إلى أكثر من 20 مصدرًا محليًا وأمميًا: “إن تراجُع الأمن الغذائي في القطاع يعود لعقود من الحصار المشدد، إذ وصل معدل انعدام الأمن الغذائي إلى 63% من السكان عام 2020، وهو ما انتقدته العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش”.

وهذا ما يُلاحظ أيضًا في الضفة من خلال تشديد الخناق على كل بلدة بالجدار والبوابات، وبين المدن والبلدات داخل كل محافظة، وبين المحافظات الـ11، وصولًا إلى المنفذ الوحيد مع الأردن.

ويضيف التقرير: “الحصار المفروض منذ 2007 دمّر الأصول الإنتاجية بسبب العمليات العسكرية المتكررة (وهو ما يُلاحظ في الضفة، إذ بلغ عدد المنشآت المهدمة منذ عام 2009 وحتى أيلول 2025 أكثر من 13 ألف منشأة أثّرت بصورة مباشرة على 808,162 مواطنًا)، فبات 80% من سكان غزة يعتمدون على المساعدات لتكون مُسكّنًا للتدهور الاقتصادي والاجتماعي، وتُسهِّل تلك الهندسة الدقيقة (ما يشبه التحكم في المساعدات الدولية المشروطة للسلطة، والتحكم بدخول عمال 48، والتحكم في المقاصة ومختلف إيرادات الضفة).

وتتابع المؤسسة: “حتى قبل الحرب كانت غزة تعيش أزمة مائية خانقة، 97% من مياهها غير صالحة للشرب، وضعٌ صنّفته الأمم المتحدة أخطر أزمات المياه في العالم. أما في الضفة، حيث يسيطر الاحتلال على أكثر من 85% من موارد المياه الجوفية ويمنع المواطنين من حفر آبار جديدة، فقد أشار مركز أبحاث الأراضي إلى أن جيش الاحتلال دمّر 1986 بئرًا وبركة وخزانًا وصهريج مياه ما بين 2015–2025، وأن جزءًا من هذه الآبار يعود للعهد الروماني، هدمها الاحتلال بحجة البناء غير المرخص“.

ما تبقّى من الأرض

ونظرًا لأن أوامر الاستيلاء وسرقة الأراضي باتت شبه يومية، فلعلّ الأدق أن نُحصي ما تبقى من أرض، خاصة مع خطط سموتريتش لابتلاع مناطق “ج” و”ب” وتحويل “أ” إلى “ب”، والشاهد هنا أن كل ما في الضفة من ثروة زراعية بات في قبضة الاحتلال ومستوطنيه.

وليس أدل على ذلك من مشهد سرقة 290 رأس غنم في بلدة دير جرير شرق رام الله في 21 سبتمبر الجاري، انتشر في مقطع فيديو على وسائل التواصل، بعد أن اعتدى المستوطنون على صاحب الأغنام شريف أبو مخو وسرقوا أغنامه من الحظيرة أسفل منزله، إضافة إلى 60 رأسًا أخرى من ابن عمه، عدا عن خرافهن الصغيرة، إذ يتبع كل أم خروفان أو خروف واحد على الأقل، وتفوق قيمتها السوقية نصف مليون شيقل.

والأنكى من ذلك أن السارق يقيم قبالتهم على بعد 200 متر فقط من منزلهم، على أرض مسروقة منهم أيضًا، حيث يقول أبو مخو: “الهدف جلي، وهو القضاء على الزراعة وتجويع الناس لتركيعهم”.

وليس بعيدًا عن ذلك، ففي شباط 2025، بمنطقة مجاورة، سُرقت 1050 رأس غنم و3 خيول وحماران وخزانات مياه وسيارة تعود ملكيتها لنايف مناصرة وعبد الحليم عواودة في بلدة دير دبوان شرق رام الله. ويقول السبعيني عواودة: “مزرعتي مرخّصة وفي منطقة (ب)، خلعوا بابها وسرقوا الأغنام مهدّدين من يتعرض لهم بالقتل”. فيما يقول مناصرة: “وضعوني بين خيارين: إما أن أختار عائلتي فيأخذوا الأغنام، أو أُقتل أنا وعائلتي ويأخذوا الأغنام”، وكما في دير جرير، يقيم الجناة غير بعيدين أيضًا في 4 بؤر استيطانية رعوية على أرض مسروقة من أراضي دير دبوان المصنفة منطقة “ب”.

وفي 11 آذار 2025 اقتحم مستوطنون برفقة شرطة الاحتلال عين العوجا في الأغوار، وسرقوا أكثر من 1500 رأسًا من الأغنام والماعز. ثلاث سرقات في غضون أشهر فقط، تعكس حجم الإصرار على إنهاء الثروة الحيوانية، دون ذكر باقي السرقات أو قتل الأغنام والخسائر الناجمة عن هدم الحظائر وسرقة وتخريب خزانات وصهاريج المياه وخسارة الأعلاف ونفقات العلاج البيطري وتخريب الممتلكات الأخرى.

وهذه كلها خسائر مباشرة، أما غير المباشرة فهي تراجع إنتاج الحليب واللحوم وارتفاع أسعارها نتيجة لذلك، وفقدان الدخل العائلي، وهجرة الرعاة من مناطقهم لصالح المستوطنين.

وأشارت تقارير الأمم المتحدة إلى وجود فجوات في التبليغ عن كل جرائم المستوطنين بحق الثروة الحيوانية، لكثرة الاعتداءات والجرائم التي لا يُبلَّغ عنها أو تُسجَّل في البيانات المركزية؛ لذا فالأرقام المتاحة عادةً تُمثّل الحد الأدنى للخسائر الحقيقية للثروة الحيوانية من أغنام وأبقار ودواجن وغيرها.

حرب الزيتون… قتلٌ للرمزية وتمهيد للتجويع

تُقدَّر أعداد أشجار الزيتون بحوالي 13 مليون شجرة، وتتجاوز الهجمة الصهيونية عليها استهداف البعد الديني والثقافي، إلى ما هو أهم بالنسبة للاحتلال، وهو ضرب ما يشكل 45% من المساحة الزراعية التي يعتاش منها نحو 100 ألف أسرة.

وإذا ما أخذنا بتحليل شبكة الأخبار الأميركية CNN ومنظمتي السلام الآن وكيرِم نافوت الإسرائيليتين، فإن المواقع الاستيطانية تضخمت منذ أكتوبر 2023 وحتى ما قبل نهاية 2024 بنسبة 50% تقريبًا (عدا عن التضخم في عام 2025)، إضافة إلى الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي المحيطة بها، والأراضي المعزولة بجدار الضم التي تجاوزت 150,000 دونم من أفضل الأراضي الزراعية.

ويرى مدير عام العمل الشعبي ودعم الصمود في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان عبد الله أبو رحمة، خلال حوار مع “بالغراف”، أن الخطورة والصعوبة ستكون أيضًا في المناطق القريبة من المستوطنات والبؤر الاستيطانية ومعسكرات ونقاط جيش الاحتلال، وصولًا إلى الأراضي القريبة من طرق المستوطنات التي باتت تخترق أرجاء الضفة الغربية كلها.

ويحذر أبو رحمة قائلًا: “الأعوام السابقة كانت دامية، ولكن هذا العام هجمات المستوطنين المدعومين بجنود الاحتلال أكثر دموية، وسنركز جهودنا في المناطق الأكثر تعرضًا للاعتداءات، ونوصي أبناء شعبنا بضرورة قطف الزيتون بشكل جماعي طلبًا للحماية وللأمان في كثرة الأعداد”، مناشدًا المؤسسات والجمعيات والأفراد بضرورة التطوع لقطاف الزيتون.

وتشير أرقام وزارة الزراعة إلى أن ما حُصِي فقط من خسائر مباشرة ناجمة عن اقتلاع وتخريب أشجار الزيتون ما بين 2010–2024 بلغ 95,792,240 دولارًا، فيما تتجاوز الخسائر غير المباشرة هذه الأرقام بكثير، بحسب ما تؤكده مدير عام التوثيق في وزارة الزراعة إيمان جرار لـ”بالغراف”.

وتلفت جرار إلى أن بساتين كثيرة يخشى مُلاكها استصلاحها أو جني ثمارها نظرًا لقربها من المستوطنين والجيش. فيما الخطر الأكبر هو في المشاريع الاستيطانية الصناعية الضخمة التي تتوزع في الضفة، حيث أقيمت حوالي 25 منطقة صناعية استيطانية تضم 29 منشأة، تضخ مواد كيماوية عالية السمية ومياه صرف صناعي ومنزلي، تقضي على مختلف أشكال الثروة الزراعية ومصادر المياه.

ويحذر مدير عام معهد الأبحاث التطبيقية (أريج) جاد إسحاق في تصريحات صحفية: “من أن الاحتلال ماضٍ في تعزيز الاستيطان في الضفة والسيطرة رسميًا على أوسع مساحة من الأرض، لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة الطوعية، وإبقاء من تبقى منهم في معازل دون إمكانية الاستدامة والتطور”، لافتًا إلى أن “ما يجري في غزة هو مقدمة لما ستقوم به إسرائيل في الضفة”.

العودة إلى الجذور

يقول المحلِّل السياسي والخبير الاقتصادي د. عادل سمارة أن: “اتفاقية التسوية كانت أشبه بفقاعة؛ حيث يعمل الموظفون في وزارات خَدَمية، وقطاع خاص خدمي، وعمال الخط الأخضر يجلبون أموالًا دون بنية صناعية، أي سيولة مالية للخدمات وليس للإنتاج، وكذلك الحال مع مؤسسات الـNGOs، ما خلق حالة تشوّه وشلل في قواعد الإنتاج، الريف هو قاعدة الأمن الغذائي للمدن، ولكن اليوم القرية ستجوع إذا انقطعت يومًا عن المدينة، وهذا نتيجة عوامل عدة، أوّلها الاحتلال، ثم عزوف القرويين عن الزراعة، وضعف الاهتمام الرسمي بقطاع الزراعة الاستراتيجي.”

ويتابع: “إنَّ زراعة أي قطعة أرض مهما صغرت هي تعزيز للصمود، مستشهدًا بنظرية “حديقة الاشتراكية الفعلية” بمعنى الزراعة المنزلية للاكتفاء الذاتي، لتنتج كل عائلة خضرواتها وفواكهها وحتى بعض اللحوم (دواجن، أرانب). مؤكّدًا أن هذه النظرية آتت أُكُلَها في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية عبر المساهمة في الأمن الغذائي الوطني، حيث إن نسبة معتبرة من الغذاء جاءت فعلًا من هذه الحدائق الصغيرة. وأظهرت تقارير الثمانينيات أن أكثر من ربع إنتاج الخضروات والفواكه جاء من حدائق شخصية صغيرة في ألمانيا الشرقية وبولندا ويوغوسلافيا.”

ويضيف سمارة: “للأسف، الحالة لدينا انقلبت؛ إذ أصبح الصهيوني القادم من الغرب المُترَف لديه الاستعداد أن يستعمر جبال الضفة بعيدًا عن الرفاهية، وسط المواشي، وأن يركب الحمير والبغال، ويعيش حياة التقشّف ليسرق الأرض ويخدم المشروع الاستعماري، فيما الشباب الفلسطيني يتطلّع إلى أثمن السيارات.”

ويتساءل: إن كانت هذه الأزمة تتحمّل السلطةُ وِزرها الأكبر، فأين دور القوى والأحزاب؟ وأين دور القوى المجتمعية والمؤسسات من NGOs وغيرها؟ وأين دور الفلّاحين أنفسهم مما يُخطَّط لهم من تجويع وتهجير؟”

ويشدد الخبير الاقتصادي على ضرورة العودة إلى ما أسماه بـ”الجذور”، أي طرق الأجداد في صنع مقومات الصمود، حيث كانوا يعتمدون في طعامهم على ما ينتجون، فقد كانت “الخوابي” هي الأمان الغذائي (صوامع منزلية) تحتوي على الطحين المنتج محليًا، وكانت البندورة تُنشَّف في أشعة الشمس في ظل غياب الكهرباء، وكذلك البامية والملوخية وغيرها من المنتجات النباتية، وكلها كانت زراعات بَعلية، عدا عن الثروة الحيوانية من دواجن وأرانب وغيرها.

وكان سمارة قد كتب مقالًا عام 1999 بعنوان: “الاستيطان اليهودي في فلسطين، من الطرد إلى الإزاحة فالانزياح الذاتي”، وهو استشراف وتشريح مفصّل لما يجري الآن، إذ يشير فيه إلى أن الاستيطان أخضع القطاعات الاقتصادية الفلسطينية لاقتصاده، معتمدًا في المواد الخام عليها، وتعزّزت النزعة الاستهلاكية أكثر، مما اضطر قطاعًا واسعًا من قوة العمل الريفية للعمل في الكيان. ومع غياب سلطة سياسية محلية، ووجود تبعية اقتصادية، تشوّه المبنى الاجتماعي ليس بنيويًّا فقط، وإنما وطنيًّا أيضًا، حيث إن الشرائح الاجتماعية التي ينتهي فائض الإنتاج الوطني (التراكم) بين أيديها كانت شرائح لا تتناقض مصالحها مع الاحتلال، ولم يعد مشروع الاستقلال مشروعها.

وينوّه سمارة في مقالته إلى أن العلاقة الاقتصادية التابعة لاقتصاد الاحتلال أفرزت مكوّنًا إضافيًا للصورة، وهو الإبقاء على بوابة خروج الفلسطينيين مفتوحة، ما تجلّى في نزوح موسّع عقب النكسة يُقدَّر بـ 400 ألف مواطن، وهي سياسة تختلف عن سياسة الطرد المباشر التي طُبِّقت إبّان النكبة.

ويضيف: “كلما تضاءلت الأرض كمصدر معيشي، مترافقة مع معدلات نمو سكاني عالٍ، قاد هذا إلى مزيد من الفئات المهمَّشة والرثّة، والتي لا وزن نوعيًّا (كفاحيًّا) ولا اجتماعيًّا لوجودها، بل ربما يصب هذا في المشروع الصهيوني لتهميش المجتمع الفلسطيني، سواء بتدهور الإنتاج أو بتدهور المستوى الثقافي والاجتماعي. وفي أقل الحالات سوءًا، يقود ذلك إلى زيادة في عدد من يبحثون عن فرص الهجرة، محقّقين استراتيجية الاحتلال في دفعنا باتجاه الانزياح الذاتي (أي الهجرة الطوعية).

ويشدّد على أن بقاء المستوطنات، مع عدم حصول استقلال فلسطيني، يؤدي إلى بقاء الضفة منطقة رمادية من حيث السيادة، والاحتلال قادر على استخدامها لدرجة يمكن معها جعلها منطقة خلق “علاقات” اقتصادية عربية يهودية، وخلق شريحة فلسطينية دورها تسويق المنتجات الإسرائيلية في الوطن العربي. وهذه تصبّ في النهاية ضمن المشروع اليهودي–الأمريكي “السوق الشرق أوسطية”، الذي جوهره هو “الاندماج الإسرائيلي المهيمن في الوطن العربي”. ويمكن أن تقود هذه الشبكة المعقّدة من العلاقات إلى تهميش القضية الفلسطينية لدى الطبقات الشعبية العربية.

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة


جميع حقوق النشر محفوظة - بالغراف © 2025

الرئيسيةقصةجريدةتلفزيوناذاعةحكي مدني