فاطمة الخطيب
لم يكن صالح الجعفراوي مجرّد اسمٍ يتردّد في الفضاء الرقمي، بل كان وجهًا أنهكته الحرب وصوتًا حاول أن يوثّق وجع غزة كما هو، بلا وسطاء ولا مساحيق.
على مدى عامين، عاش صالح في قلب النار، ونجا من محاولات اغتيال وتحريضٍ إسرائيلي متكرر، قبل أن يُقتل في النهاية برصاص “عصاباتٍ مسلّحة” في مدينةٍ أنهكها الحصار والانقسام والخذلان.
بين لحظة الصعود الميداني إلى لحظة السقوط الأخيرة، تتكشّف مأساة صحفيٍّ كان يفترض أن يكون شاهدًا على الألم، فإذا به يصبح أحد ضحاياه.
من الميدان إلى العاصفة الرقمية
بدأ صالح رحلته كصحفي وناشط ميداني يحمل كاميرته بين الأنقاض، وينقل يوميات الحرب في غزة بجرأةٍ لافتة، ونجح في بناء حضورٍ رقمي تجاوز المليون متابع، سرعان ما بدأت الاتهامات تلاحقه: مرةً بتوظيف التبرعات لمصالح شخصية، ومرةً بخدمة أجنداتٍ خارجية، دون أي دليلٍ واضح. لكنّ هذه المزاعم انتشرت كالنار في الهشيم عبر المنصات الرقمية، ووجدت صدى لدى بعض..
المستخدمين الذين كرّروا الاتهامات دون تمحيص
في الجانب الآخر، لم تكن إسرائيل بريئة من هذه الحملة، بل أساسًا فيها، فمع تصاعد نشاطه الميداني، بدأت حسابات إسرائيلية، بعضها تابع لباحثين في دوائر “الهاسبرا” (الدعاية الإسرائيلية)، بنشر اسمه وصوره مع تلميحاتٍ تشكّك في نزاهته وتصفه بالمحرض أو “المزوِّر”، و”الممثل” قبل أن تتدرّج اللغة إلى دعواتٍ صريحة لـ”قتله”.
هذه المنشورات أعيد تداولها بالعربية عبر حساباتٍ مجهولة، لتتحوّل إلى حملة رقمية مفتوحة شاركت فيها عشرات الحسابات التي كرّرت الرواية ذاتها، حتى بدت وكأنها حملة منسقة تهدف إلى تقويض مصداقيته وإقصائه من الفضاء العام.
اتهم الاحتلال الإسرائيلي الصحفي الجعفراوي بأنه ناشط يعمل لصالح حركة حماس، ورفعت جهات رسمية، من بينها وزارة الخارجية الإسرائيلية، تهديداتها ضده أكثر من مرة.
وأكد صالح بنفسه في وقت سابق تعرضه لتهديدات مباشرة من إسرائيل نتيجة عمله الصحفي الميداني.
وفي سبتمبر الماضي، زاد التحريض حِدّة حينما نشر المتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي منشورًا على منصة إكس (تويتر سابقًا) سخر فيه من صالح بعد ظهوره في صورةٍ مغطّى بالغبار والرماد إثر قصفٍ إسرائيلي لبرج الغفري في مدينة غزة.
السخرية العلنية من صحفيٍّ ميداني يعمل تحت النار، كانت بمثابة رسالة تحريضٍ ضمنية، تُمهّد للتشكيك بمهنيته وتبرير استهدافه لاحقًا، وهو ما عايشناه عند استهداف الزملاء الصحفيين على مدار عامين من حرب الإبادة.
“قتلٌ معنوي” سبق القتل الجسدي
لم يكن التضليل مجرّد سلاحٍ رقمي، بل صار أداةً لإلغاء إنسان.
بدأت حملة تشويه صورة صالح من حسابات إسرائيلية وأذرعٍ دعائية، ثم تحوّل الخطاب تدريجيًا إلى اتهاماتٍ داخلية أكثر خطورة — أبرزها تهمة سرقة التبرعات — التي أعاد تداولها مروّجو السردية الإسرائيلية نفسها.
تعرّض صالح خلال الأشهر الأخيرة لـ”قتلٍ معنوي” متواصل: حُرم من ثقة جزءٍ من جمهوره، وتلقّى سيلًا من الشتم والتهديدات المستمرة.
لحظة النهاية
في أحد أحياء مدينة غزة، تحديدًا حي الصبرة، استُشهد الصحفي والناشط صالح الجعفراوي الأحد المنصرم برصاص مليشيا مسلحة أثناء تغطيته الإعلامية، حسب ما أفادت مصادر عائلية وصحفية.
رحيل صالح الجعفراوي ليس حادثًا فرديًا؛ حين يصبح التحريض سهلًا، والتشهير مقبولًا، والصمتُ تواطؤًا، فإننا نشارك جميعًا في إنتاج المأساة.
يبقى السؤال مفتوحًا أمام كل مؤسسة إعلامية ومنصة رقمية:
هل سنسمح بأن يُقتل صحفي آخر بالتحريض ذاته، وبالصمت نفسه؟