سليم اللوزي
في فضاء فلسطين الرقمي، تتبدى التكنولوجيا في أقصى تجلياتها المزدوجة؛ إنها ليست مجرد أدوات، بل هي مفترق طرق وجودي. في جوهرها، تَعِدُ التكنولوجيا بـ “اليوتوبيا الرقمية”؛ حيث الاندماج العابر للحدود والتحول المعرفي. ولكن على أرض الواقع، تتحول هذه الأدوات إلى “ديستوبيا مراقبة” خانقة.
يُصارع الفلسطينيون اليوم على خطوط التماس الفاصلة بين الإتاحة التقنية والمنع الممنهج؛ بين حلم التواصل وبين واقع “البتر الرقمي” المتعمد الذي يمزّق نسيج البنية التحتية، مُحولًا شبكة الاتصال إلى ركام من العزلة الكارثية. إن استخدام الهاتف الذكي هنا لم يعد رفاهية، بل هو فعل مقاومة معرفية محفوف بالمخاطر، حيث كل “نقرة” هي رهان على البقاء ضد تهديد انقطاع الشريان الرقمي.
في هذا الصراع، يرتفع السؤال الفلسفي الأهم: هل يمكن لآليات “الاستعمار الرقمي” أن تُطفئ جذوة الإبداع الفطري؟ وهل سيظل الجسر التكنولوجي هو الملاذ الأخير لكسر سياج العزل؟ الإجابة تتردد كـ “صدى أزلي” في جوهر المقاومة الفلسطينية: إنها تتجلى في مرونة الكود والإبداع الذاتي، تلك الطاقة الكامنة التي تحوّل الفراغ التقني إلى مساحة خصبة للابتكار الجذري.
الابتكار المحلي كفعل مقاومة
يُعدّ الابتكار الفلسطيني في مجال التكنولوجيا الفائقة (الهايتك) أبلغ دليل على الصمود. بدلًا من الاستسلام لواقع الاستيراد أو الاعتماد على الخارج، بدأت الجهود تتجه نحو السيادة التكنولوجية عبر امتلاك أدوات الإنتاج المعقدة. إن الخطوة الأكثر استراتيجية هي دخول فلسطين مجال تصميم أشباه الموصلات (الرقائق)، وهو قطاع عالمي شديد التعقيد والأهمية.
تتجسد هذه النقلة في ظهور شركة “Orion” في مدينة روابي بالضفة الغربية كأول شركة فلسطينية تركز على تصميم الرقائق الإلكترونية. هذا التخصص، الذي يُعرف باسم التكامل واسع النطاق للغاية (VLSI) ، هو عصب الإلكترونيات الحديثة، وتصميم الدوائر المتكاملة ضمنه ليس مجرد عمل تقني، بل هو إعلان عن القدرة على المنافسة في أعلى مستويات الهندسة العالمية.
إن هدف أوريون في إنشاء أول شريحة شبه موصلة وتطويرها في الأراضي الفلسطينية هو أكثر من طموح تجاري؛ إنه يمثل اندفاعًا استراتيجيًا نحو بناء نواة صلبة تقاوم التبعية الاقتصادية والتقنية. وتستلهم هذه الرؤية تجارب عالمية محورية، أبرزها تجربة تايوان في بناء عملاق مثل TSMC (شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات)، الذي تحول من كيان صناعي إلى نموذج لقوة اقتصادية قائمة على احتكار التكنولوجيا الدقيقة، مما منح الدولة ثقلًا استراتيجيًا عالميًا. بهذه المقاربة، يهدف الاندفاع الفلسطيني نحو مجال VLSI إلى إثبات أن الإرادة التكنولوجية قادرة على اختراق الحواجز المادية والسياسية.
وامتدت هذه الروح المبتكرة لتخترق الحدود الجغرافية، مؤكدة أن المنتج الرقمي لا يعترف بالعوائق السياسية. وقد تجسد هذا السعي في التواجد القوي في المحافل الدولية، إذ شاركت 21 شركة فلسطينية ناشئة مؤخرًا في ملتقى بيبان 2025 في المملكة العربية السعودية، وهو ما عكس طموحًا واضحًا لتعزيز وصولها إلى أسواق التمويل الخليجية. كما عززت فلسطين حضورها في الإمارات، حيث شاركت 6 شركات فلسطينية في معرض Expand North Star 2025 في دبي بدعم من وكالة بيت مال القدس.
وقدمت هذه الشركات حلولًا نوعية في قطاعات حيوية، مثل شركة GlyCare التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لإدارة بيانات مرضى السكري، وشركة Hives360 لحلول تربية النحل الذكية.
تكنولوجيا التضامن والحلول الشعبية
حين تُخفق البنية التحتية التقليدية أمام التدمير الممنهج والعزل المتعمد ، يتولى التضامن الرقمي مهمة الإبقاء على الحياة، مؤكدًا أن التكنولوجيا يمكن أن تكون أداة تواصل إنساني لا تستطيع الكيانات الكبرى تدميرها بالكامل. لقد أظهرت الأزمات الأخيرة أن الروابط الرقمية تتجاوز الأسلاك والكابلات، لتعكس المرونة الاجتماعية في أبهى صورها.
ومع غياب أبراج الاتصالات، وُلدت حلول محلية “مبتكرة” تعتمد على تكنولوجيا الهواتف الذكية نفسها، لتُجسّد مفهوم “المرونة الهيكلية” في مواجهة التدمير المنهجي.
ففي المناطق التي عانت من انقطاع كامل للاتصالات، ظهرت حلول شعبية مثل مفهوم “أشجار الشبكة” (Network Trees) الذي أطلقته مبادرات مثل مشروع GazaWeb (المدعوم من إيطاليا). تقوم الفكرة على وضع هواتف ذكية بأقفاص واقية على أعمدة عالية لالتقاط أي إشارة ضعيفة من المناطق الحدودية، ثم تعمل هذه الهواتف كـ “نقاط اتصال” (Hotspots) لمشاركة الواي فاي محليًا مع التجمعات السكانية القريبة.
إلى جانب الحلول المحلية، تحولت حملات التضامن إلى استخدام أدوات رقمية بسيطة لكنها ذات تأثير فعال لكسر العزلة، مؤكدة أن “لامركزية الاتصال” هي المفتاح للصمود.
فقد ظهرت حملتا #ConnectingGaza و #ReconnectGaza كأمثلة بارزة لتكتيكات الإغاثة الرقمية. حيث تحشدت الحملات دوليًا لإرسال رموز eSIM QR بشكل مباشر للأفراد، متجاوزة الحاجة للبنية التحتية المادية المدمرة.
لقد أصبح التبرع ببطاقة eSIM بمثابة عمل إغاثي رقمي، مكّن عشرات الآلاف من إعادة التواصل مع العالم وكسر حاجز التعتيم. ويشبه هذا التكتيك جهود النشطاء خلال فترة ما سمّي بـ “الربيع العربي” الذين اعتمدوا على برامج VPN والحلول المؤقتة لتجاوز الرقابة، مما يثبت أن الحراك الرقمي يمكنه أن يتنفس بعيدًا عن سيطرة السلطة المركزية.
التكنولوجيا كسلاح للمراقبة
على النقيض تمامًا من جهود المقاومة والابتكار التي يبذلها الفلسطينيون، تُستخدم التكنولوجيا المتقدمة على الجانب الآخر كأداة للسيطرة والمراقبة والتلاعب بالرواية، مما يجعل معركة الابتكار الفلسطينية معركة وجودية تهدف إلى حماية الفضاء الرقمي والحقيقي على حد سواء.
إذ أصبحت منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة المملوكة من شركة “ميتا” (فيسبوك وإنستغرام)، ساحة معركة رئيسية. فقد وثّقت منظمات متخصصة، مئات الانتهاكات الرقمية، مشيرة إلى “التحيز المنهجي” في خوارزميات الرقابة. هذا التحيز يؤدي بشكل مستمر إلى حظر أو تقييد وصول المحتوى الفلسطيني، فيما يُعرف بـ “الإبادة الرقمية للذاكرة” أو “الاستعمار الرقمي”.
حرب المعلومات بالذكاء الاصطناعي
انتقلت الجبهة المضادة إلى مرحلة جديدة أكثر تطورًا من حرب المعلومات، تتجاوز الرقابة لتصل إلى تشكيل الرأي العام الغربي بشكل منهجي، متخطية الحدود الجغرافية للبلاد. فقد كشفت وثائق رسمية (ملفات قانون تسجيل العملاء الأجانب الأميركي FARA) أن الحكومة الإسرائيلية وقعّت عقودًا بملايين الدولارات لإعادة تأهيل صورتها في الرأي العام الأميركي (المصدر: هآريتس في التاسع من نوفمبر 2025).
ركزت هذه الحملات على محاور متعددة:
التأثير الخوارزمي، عبر محاولة التلاعب بنتائج البحث ونصوص روبوتات الدردشة الشهيرة. إذ كشف أحد البنود في عقد شركة (Clock Tower X) عن عملية “بحث ولغة” مصممة لـ “توليد نتائج تأطير (Framing Outcomes) في محادثات GPT وأنظمة الحوار المعتمدة على الذكاء الاصطناعي”. ويُعد هذا أول توثيق علني لمحاولة دولة تشكيل الخطاب عبر أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل ChatGPT.
انتشار البوتات، عبر توقيع عقد مع شركة (SKDKnickerbocker) لتطوير “برنامج قائم على البوتات” مهمته “إغراق المنطقة (Floods the Zone)” برسائل مؤيدة لإسرائيل على قنوات التواصل الاجتماعي المختلفة. ففي أبريل 2025، وقعت الشركة عقدا بقيمة 600,000 دولار مع الحكومة الإسرائيلية لتطوير الحملة.
لكن، بعد الكشف العلني عن تفاصيل العقد واحتمالية استخدام البوتات، سارعت الشركة إلى إنهاء تعاقدها في نهاية أغسطس 2025، مشيرة إلى أن العمل “قد أتم مساره” ونفت العمل على أي مبادرات بوتات.
تؤكد هذه الحملات أن الذكاء الاصطناعي لم يعد أداة بريئة، بل تم تعريفه صراحة في الوثائق الداخلية كـ “أداة أساسية” في الترسانة التكنولوجية لعمليات “تشكيل الإدراك (Perception Operations)” العالمية، مما يرفع سقف التحدي الوجودي أمام المحتوى والرواية الفلسطينية في الفضاء الرقمي.
في نهاية المطاف، لا يقدم هذا المقال سردًا لأحداث متفرقة، بل يكشف عن مفارقة تكنولوجية وجودية، إذ أصبح الصراع على الوعي الجماعي هو جوهر المعركة. إن هذه الجبهة المضادة تحوّل الابتكار إلى سلاح للسيطرة.
وعليه، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: في ظل تحول الذكاء الاصطناعي إلى “أداة أساسية” في هذه الحرب الرقمية، ما هي الاستراتيجيات الدولية والقانونية والتقنية المطلوبة لحماية الرواية المُحاصَرة من هذا الحصار الخوارزمي الممنهج؟




