باسم خندقجي .. أمل تحياه عائلته

كتبت آمنه خندقجي 

كنت في عمر العشر سنوات، وكان هو في الواحد والعشرين، طالباً جامعياً، جميلاً ومثقفاً، يدرس الصحافة، يحب القهوة كثيراً وعصبا أحياناً، كان يستشيرني ماذا يرتدي للجامعة، هذا القميص أم ذاك، أذكر ذات يوم كنت أمام المرآة وأرقص وقال لي ”رح اخليك تسجلي بالباليه، مين أحلى هاد ولا هاد“ وقلت له هذا، لا أذكر ما الذي كان يحمله بيديه قميص أم بلوز ولكن أتذكر هذا الحوار، وفرحت وشعرت بقيمة الأخ الكبير يسأل أخته آخر العنقود ماذا يرتدي، كنت أذهب معه إلى جامعته، ألتقي بأصدقائه وصديقاته، يعرفني عليهم ويعرفهم عليّ، وذات يوم كان يقرأ في غرفته وطلب مني قدح قهوة، فرحت كثيراً، فلا أحد يثق بقهوة مصنوعة من قبل طفلة في العاشرة من عمرها. هذه هي الذكريات العالقة معي، وبعدها أصبحت الذكريات مختلفة تماماً، بعيدة وباردة، وقريبة ودافئة، ذهب باسم إلى الزنازين، ولم أذهب أنا إلى دروس الباليه… بل بقيت إلى الآن الطفلة التي عمرها عشر سنوات.. تنتظر أخاها.

بعد ١٨ عاماً من الأسر،، وبعد الكثير من الرسائل والأحاديث والزيارات، والمواقف الصعبة، لم نعتد على غياب الأخ الكبير، بل تعايشنا مع هذا الظرف ومع أمله وخيباته في آن واحد.

في الانتفاضة الثانية كان من الصعب جداً عدم التأثر بما يحصل من إراقة دماء وظلم واحتلال من قبل الكيان الصهيوني، الذي قَتل الفلسطيني الطفل والأب والأخ والأم،، اغتال وصفّى الكثير من المناضلين الذين ما زالت أسماؤهم خالدة في ذاكرتنا..

من المضحك عدم تخيّل أن هذه الفوضى الدموية من المستحيل أن تطال عائلتنا.. نحن نشاهد التلفاز والأخبار، مع الكثير من الألم والخوف.. أذكر أن أبي كان يخاف على أختي وأخي لأنهم كانوا نشطاءا في إحدى الفصائل الفلسطينية، لكن باسم أزاح هذا الخوف بصدمة العمر لنا جميعاً..

في الثاني من شهر نوفمبر تشرين ثاني ٢٠٠٤، في الذكرى المشؤومة لوعد بلفور، اقتحمت قوات الاحتلال بيتنا، وأخرجت كل العائلة من البيت باستثنائي، كنت غارقة في نومي، بعدها جاءت أختي تحملني وما أن فتحت عيني أنظر إلي الجميع مستيقظين، أنظر إلى المكان، لم أدرك المكان،  بعدها نظرت إلى الباب وإذ بأخي باسم يجلس على أدراج باب بنايتنا هو وأخي يوسف، أذكر أن جلسته توحي بالبرد وعدم الراحة، أدركت أننا في بيت جارنا الأرضي… بعدها اعتقلوا باسم… لم نودعه… بالأحرى لم تسمح لنا القوات الاحتلالية بتوديع الأخ الأكبر، لم نفهم ما الذي حدث، ولماذا،،، لم يكن أبي في البيت، لكني أذكر في نهار ذلك اليوم، عاد أبي من طولكرم ساخطاً غاضباً صارخاً ”هذه الحبسة مش لباسم“ عاتب أخي وأختي النشطاء لأن نشاطهم كان واضح، ،باسم ليس له على هذا اللون كما يقال.. بقينا مقتنعين بهذا الكلام… لحد يوم الحكم… ٣ مؤبدات.. وتلك هي المرة الأولى التي أعرف معنى المؤبد.

تأثر باسم كغيره بالانتفاضة، لم نر هذا التأثر إلّا بعد فعله، عندما شاهد باسم الطفلة الرضيعة الغزية إيمان حجو التي ارتقت شهيدة بقذيفة مدفعية اخترقت جسدها بين أحضان أمها، ، تأثر باسم وسخط كثيراً على هذا الاحتلال الذي لا يرحم، وقرر باسم أن لا يرحم أيضاً..

قبل أن يتم اعتقال باسم، سمعنا عن عملية استشهادية في سوق الكرمل بتل أبيب في الأراضي المحتلة ١٩٤٨، قُتِل فيها ٣ إسرائيليين، عندما سمعنا الخبر فرحنا، وترحمنا ومجّدنا من قام بهذا العمل، لم نكن نعرف أن باسم هو من المشاركين، بل كان المخطط للعملية، اختلفت حياتنا كثيراً، كبر أبي قبل أوانه، وأمي أغرقها الهم والحزن، ابنها البكر في غربة حديدية مؤبدة.

بدأنا بزيارة باسم بالسجن، كنت متحمسة كثيراً، سأرى أخي وأحضنه وأقبله، إلا أنني لم أحضنه ولم أقبله لأنني ببساطة لا أستطيع لمسه أصلاً، نتحدث معه من خلف الزجاج وعلى سماعة الهاتف الملعونة، أذكر الزيارة الأولى كانت بسجن هدريم، وبقيت على أمل أن ألمسه ولكن لم يحصل، كان قويا كعادته، يتحدث وينظر لنا جميعاً، كنت أنا وأمي وأخي، بعد ذلك أصبحت زيارة السجن جزء من حياتنا مثلها مثل الحاجز، والاقتحام ومنع التجول وغيرها.

لم يفارقني باسم، بدأ بكتابة الرسائل لي، شعرت بطفولتي بأول رسالة كتبها لي مع الرسومات الكرتونية، وكتابة مقطع ” أمونة بعتلها جواب أمونة ولا سألت بيّا، أمونة إيه الأسباب أمونة متردي عليّا“، منذ ذلك الوقت وهو يكتب لي و أكتب له، بنينا علاقة جديدة من الصداقة والثقة والصراحة، عوضني في غربته الحديدية، كنت أرى الأشياء أنها بعيدة، وفي هذا البعد سيكون باسم حرا، كنت أقول عندما أكبر وأصل لمرحلة الثانوية العامة، سيكون باسم حرا، عندما نكبر، سيكون باسم حرا… تزوجت أختي الكبيرة، وجاءت حفيدتنا الأولى، وتوفي جدي، ومن بعدها عمتي، ومن بعدها جدتي، وجاء الحفيد الثاني والثالث، كبر أخوتي، قمنا بطلاء بيتنا، نجحت بالثانوية العامة… تزوجت أختي الثانية، تزوج أخي، تخرجت من الجامعة.

بعدها مات أبي، و باسم خلف قضبان الزنانين، حزيناً مقهوراً وصامداً… موت أبي كان صدمة العمر الثانية، حتى وأنا أكتب هذه الكلمات، لا أصدق أنه رحل للأبد،، رحيل مؤبد لمرة واحدة دون أمل، في هذا الموت لم أفكر بشيء سوى باسم البعيد، كيف سيتلقى خبر الوفاة وماذا سيفعل، كانت السيناريوهات تنهش رأسي، إلا أن باسم فاجأني بسيناريو آخر، حدثني وعزّاني وواساني برحيل أبينا، هو في غربته يواسيني، هو في وحدته قال لي، أنا أبوك.. لم أر شخصا بقوته، ولم يدهشني إنسان مثله، هو الكاتب المثقف الروائي الأسير… في عزلته عنّا، كان حاضراً، وفي أسره كان داعماً، وفي حزنه كان مواسياً…

أما الآن سأحدثكم عن باسم الإنسان.. أبو جيفارا،  وسيم، يهتم بمظهره الخارجي، ويغذّي عقله بالقراءة والإطلاع والدراسة، على الرغم من اعتقاله وهو في السنة الثالثة في الجامعة، إلّا أنه أكمل دراسته في الأسر، وأخذ شهادة الدراسات العليا كذلك، يعلّم أشبال فلسطين داخل القضبان عن تاريخ فلسطين ويقدم لهم المحاضرات الفكرية، أفكاره يسارية، يحترم الآخر والمختلف عنه، يشجع فريق ريال مدريد، ويحب اللون الأسود، يحب القهوة السادة، ويدخن البارلمنت، يحب أغنية عيناكِ لخالد الشيخ، وكان يحب الجلوس على بلكونة غرفتنا ويسرح ويدخن، يحب المقلوبة جداً، ويحب قطعة الصدر من الدجاج ”السفينة“ وحتى بعد اعتقاله بقيت أمي تحتفظ بالسفاين المتراكمة على باسم، يحب الساعات والنظارات الشمسية، يضع ساعة في يديه الآن، لكن لا يملك أي نظارة شمسية، فهو لا يرى الشمس إلا بأوقات معينة، ولا توجد أصلاً هذه الرفاهية لارتداء نظارة شمسية في السجن، يمارس باسم الرياضة، ويحاول قدر الإمكان الاهتمام بصحته وأكل الطعام الصحي، يعاني أحياناً من آلام بمعدته لها علاقة بالأعصاب.

يهتم باسم بالتفاصيل، ويهتم بنا وبمشاريعنا ويفكر بنا أكثر مما يفكر بنفسه، باسم إنسان مرح، فلا تخلو زيارة من زياراتنا له من نكتة ختامية تضحكنا وتكسر قسوة الوداع المتكرر، يقول النكتة وهو ينظر إلى ما تبقى من ثوانٍ قبل انتهاء الزيارة، يقولها، ويفصلون خط السماعة، بعدها يقترب أبي من الزجاج لتقبيل باسم، وبعد رحيل أبي، حرصنا على بقاء عادة التقبيل من وراء الزجاج، فأقوم أنا بتقبيل باسم من خلف الزجاج… كتب باسم ديواني شعر، وثلاث روايات، اثنتان تاريخيتان، وأخرى تجمع بين العام والخاص، عدا عن المقالات التي كتبها، وعن الروايات التي لم نستطع طباعتها، عرف الناس كلمات باسم تدريجياً ويعود الفضل لوالدي، حيث كنا نجلس بالدور لطباعة المقالات والأعمال التي يكتبها باسم، وإرسالها لجهات معنية، ونشرها كذلك لجهات معينة، هذه الأعمال يقول عنها باسم بأنها أولاده، وكانت ولادته الأولى ديوانه الشعري، ”طقوس المرة الأولى“، ثم ”أنفاس قصيدة ليلية“، وانتقل بعدها باسم إلى الروايات وكانت روايته الأولى ”مسك الكفاية“ وبعدها ”نرجس العزلة“ التي تحدث فيها في إحدى الصفحات عن أخت بطل القصة، والتي كانت تشبهني كثيراً، وأما روايته الأخيرة فكانت ”خسوف بدر الدين“، وهناك رواية أخرى لم تُنشر بعد….

الكتابة بالنسبة لباسم هي الحرية، وهي الملاذ الآمن، وهي بمثابة الرقص بالكلمات كما يشتهي، يختار الحركات لمتمثّل صورته المنشودة، وهذا ما يغيظ السجّان، فكيف للأسرى أن يخلقوا هذا الإبداع بظروف الأسر الصعبة، عندما أقرأ لباسم، يدهشني دائما، كيف له أن يكتب بهذه الطريقة،  وأن يحرر نفسه بالكلمات والقصص والتجارب، كيف له أن يخطف قلوب وعقول القارئين؟! كيف لديه هذه الطاقة الإبداعية اللامتناهية وهو البعيد في غربته الباردة؟ هي قوة، وأمل، وشغف، وإيمان.، وربما أكثر من ذلك، بل هي اللغز الأبهى بالنسبة لي، وبالنسبة للقارئ.

 بقي الأمل موجوداً في كل خطوة مستقبلية مجهولة، أن باسم سيكون معنا في هذه الخطوات… كبرت أنا وكبر الشوق وكبرت الأحلام، ودرست الصحافة والإعلام في جامعة باسم، وأكملت المشوار، لكن في قلبي بقيت طفلة، وآخر العنقود…وبقي هو باسم العشريني المحب للحياة والورد والكلمات،  ينتابني شعور العجز أحياناً، وعندما أشعر هكذا، أمارس التأمل على طريقتي، أغمض عيني، وأتخيل نفسي جالسة مع باسم في شرفة جميلة نستمع لأغنية عيناكِ، ونتحدث، ونتناقش، ويختلف السيناريو في كل مرة مع بقاء الأساس، وجود باسم…

لم نعتد على الغربة الحديدية، ولم نعتد على غياب الأخ الكبير، في حزننا هو موجود، وفي فرحنا هو حاضر، وفي كل عيد ميلاد له نحتفل، والأمنية كما هي… ”بعيد ميلادك الجاي نتمنى تكون هون… معنا“.

يا أخي، أكتب هذه الكلمات، لكي لا تخونني ذاكرتي، ولكي تُروى تفاصيلك للعالم، وتروى قصة الفلسطيني الأسير الإنسان المليء بحب الحياة، لكنه اختار الوطن مصيراً، ولكي أبقى على أمل ويقين، بأنك هنا قريب، بكلماتك، وصوتك، وصورتك البهية، نحن نحيا بك، وأنت تحيا بنا، ونحن سوياً نحيا بالأمل.. أمل اللقاء والحرية.

”وها آنا ذي أعيش في لحظتي، وحاضري الشاسع بالتجربة وأنسج منه أمانيّ وأحلامي، وأخلق فيه ماضياً صريحاً واستشرف مستقبلاً سأحققه بعد أن ألقي لقمة ذاكرتي هذه في وجه الأيام المسعورة وأقدارها المخيفة“. مسك الكفاية – باسم خندقجي

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة
الرئيسيةقصةجريدةتلفزيوناذاعة