كتب عصمت منصور
كانت ساحة السجن هادئة، الاسرى يدورون في الساحة، وآخرون يجلسون القرفصاء قرب مكتبة السجن، ومن بعيد لا تسمع سوى تمتمات، هي مزيج هائل لمئات الأصوات التي حشرت فيهذه الساحة.
هناك تفاصيل لا تكتسي أهمية من ذاتها، بقدر ما تكتسب أهميتها من حدث ما ارتبط بها.
ما كنت لأكتب عن هذا الهدوء المشحون بالأصوات والمشاعر والزفرات الحارة المكبوتة في الصدور، او عن طقس ذلك اليوم اللزج من شدة الرطوبة القادمة من بحر عسقلان، لولا تلك الصرخة التي مزقت الصمت والهدوء، واحالت حرارة الصيف والعرق الذي ينزلق من مؤخرة الرأس الى العنق الى دموع.
حالة من الوجوم الجماعي الرهيب، سيطرت على ساحة عسقلان، وقلبت مزاجها.
انه الموت..
لا بد انه الموت…
لا شيء سوى الموت، وتحديدا ذاك الذي يصيب الأخرين، قادر على إيقاع هذا الحجم من الوجع، وأن ينثره بالجملة، على كل من حضر وسمع ولامس هذا المشهد، مثل حبات ملح على جراح خضراء تنزف بصمت ولسنوات في الخفاء.
الصرخة كانت عبارة عن كلمة واحدة…يااااباااا.
يابا… دون إضافة، يابا مبللة بالدموع، يابا مخنوقة، يابا تنز من تشققات الجرح، كانت كافية لأن يفهم كل واحد فينا أن مصيبة الموت قد قفزت عن جدران السجن وتسللت من بين اسلاكه الشائكة، وتحايلت على حراسه، وحلت على احدهم، وانه معنا، وإنه الآن بوفاة والده سيفتح الى جانب جرحه الخاص، جرح العشرات ممن عاشوا نفس الموقف، والآخر منهم من لا نهاية لسنوات حكمه، ويعيش هاجس وحلم ورغبة وامنية ورجاء …أن لا يكون والده أو والدته هي الفقد التالي.
القريب البعيد
وجع الموت يصيب الأحياء، ويعيش معنا على شكل جمرة تكاد تضئ، ترافقنا ما بقي لنا من عمر، وتكوي القلب كلما حركته الذكرى.
لا يتحول الوجع إلى جمرة مسالمة “تكاد تضيء”، سوى بشرط واحد: أن تدفن فقيدك.. ان تهيل عليه التراب بيديك، أن تشتم رائحة الموت وتتأكد من استحالة عودته.
اما اذا ما اتاك الموت على شكل خبر، وحالت بينك وبين فقيدك جدران واسلاك وحراس وحكم لا نهائي السنوات، عندها سيتحول الجرح الى ثقل خفي يجثم على صدرك ويصبغ قلبك بالأسود ويطفئ عينيك.
تصرخ وتنادي دون ان تصدق أن علاقة بهذا العمر، وهذه السنوات، وعهد بهذه القوة، يمكن أن ينتهي، دون عودة، ولا يبقي أي امل باللقاء، بكلمة او خبر عابر ينقله لك احدهم.
للفقد في حياة الاسر خصوصية عالية، ومذاق مميز وموجع.
في السجن يبقى لديك ذلك الشعور ان من فارقتهم وحرمت لسنوات من رؤيتهم، وتفصل بينك وبينهم سنوات ومسافات واحكام واتفاقيات، لا زالوا قريبين وعلى مسافة جيدة من القلب والجغرافيا، وذلك فقط لمجرد وجود هذا الأمل بانك ستراهم يوما ما.
ستراهم شيبا، او عاجزين عن الحركة، او غير ادرين على الكلام…ألخ، لكنهم سيكونون هم، وسيكونون هناك، وستكون معهم رائحتهم وعبق كهولتهم ودفئ احضانهم، ولن يطفئ شيء بريق اعينهم.
اما عندما تحل مصيبة الفقد، وتنقطع هذه العلاقة، ستبدأ تشعر انهم اصبحوا اقرب، وتحولوا الى ندبة في الروح، رغم انهم ابتعدوا…ابتعدوا دون عودة.
إنه الشعور بانقطاع الحبل السري الذي يربطك بالأشياء التي كانت سببا لأن تواصل وتحلم وتستشعر الدفئ.
سيجد الاسير الف سبب لكي يواصل ويمد جسورا من الأمل مع العالم….لكنه سيبقى يعيش عقدة القريب البعيد، الميت الحي، الحاضر الغائب، طالما أن الموت كان مجرد خبر ولم يجبل كفقيده بتراب القبر البارد، ورائحة الموت.
خاص-عام
بقدر ما يكون الموت، وفقدان الوالد او الوالدة او الابن…الخ حدثا خاصا وحميميا يمس المصاب به، ويكون وجعه داخلي، بحجم علاقته بالفقيد، ذكرياته معه، اماله التي علقها وعد بالانتظار والبقاء على قيد الحياة. فإنه في السجن يتحول الى ظاهرة عامة، يشعر بها جميع الاسرى على حد سواء.
الفقد في السجن يفتح بابين: باب الخوف لمن لم يفقد حتى الأن، و باب الذكريات لم فقد قريبه دون أن يشيعه، وكلا البابين يفتحان على باب أكبر واعظم هو باب الأمل والصبر.
طقوس العزاء في السجن تبدأ من وعي هذه الحقيقة(حقيقة انه لن يشيع فقيده) لذا فأنها تكون كاملة، شديدة الحرص على التفاصيل الصغيرة:
مثل التشديد على أن لا يبلغ الاسير عن فقدان عزيز له السجان او مندوب الصليب الأحمر، بل رفاقه واقرب المقربين منه.
أن لا يبلغ عن الوفاة في مكان مفتوح، بل في زنزانته زمع من يثق بهم ويمكنه أن يبكي امامهم دون حرج.
بعدها تجري طقوس العزاء في ساحة السجن وتشمل كل مظاهر العزاء كما تحدث في الخارج.
بالعادة يبقى اصدقاء الاسير الفاقد الى جانبه لمواساته وهذا قد يتطلب نقل من زنزانة الى زنزانة، وهو ما تتجاوب ادارة السجن معه بصمت لا يمكن تفسيره.
وداع متأخر
الانفصال الجسدي بين الاسير وعائلته والذي قد يطول لسنوات وعقود، لا يكسر إلا من خلال الزيارة التي تأتي فيها عائلته الى السجن كل شهر او نصف شهر مرة واحدة لمدة خمس واربعون دقيقة.
هذا المكان الأجمل بالنسبة للأسير وعائلته، قد يتحول الى مقبرة.
الوداع الحقيقي بين الاسير والفقيد المتوفي يأتي متأخرا، عند اول زيارة، حيث يكون الكرسي الذي اعتاد ان يجلس عليه فارغا، او عندما يأتي من كان يرافقه وحيدا، عندها فقط يحدث الوداع الحقيقي بين الاسير ومن فقد، ويسلم تماما انه لن يعود.
عادة ما يكون هذا اللقاء هو الأصعب والأخطر، وفيه يسمح الاسير لنفسه وامام احد افراد عائلته بالبكاء الحار الموجع.
هذا الوداع الصامت هو اسبه ما يكون بطقوس الدفن واهالت التراب على المتوفي وفقدان الامل مرة والى الأبد انه لن يعود.