هيئة التحرير:
أجمل الأمهات انتظرت ابنها أربعين عاماً ليعود، ورحلت قبل عودته بقليل، رحلت بعد عمر من الانتظار، متعبة من أسفار صبر أربعين عاما على أمل بأن تعانق نجلها الأسير كريم يونس حرا.
رحلت الحاجة صبحية وهبي يونس (٩٠ عاما) في حي المسقاة في عارة، بعد أن خانها جسدها، وخانها الزمن، وخذلتها الثورة، ونسيتها صفقات التبادل، فأي ثورة تترك والدة أسير على قارعة الانتظار تطحنها دواليب الزمن والأيام لأربعين عاما، فلا الثورة أعادت لها ابنها ولا صفقات السلام.
رحلت والدة الأسير كريم يونس قبل شهور قليلة فقط من حريته، لم يمهلها جسدها أكثر من ذلك، سرقها قبل اللحظة المشتهاة المنتظرة، بصبر أيوب الذي بنى جبالا في قلبها، بدموع يعقوب التي حفرت أخاديد في وجهها، باسم كريم الذي كان سيد دعائها لله.
40 سنة، كان كريم يونس يهادن الزمن، يصالح الأيام، عله يحظى بعناق والدته لحظة حريته، فهو لم يكن يخشى في السجون سوى وفاة أمّه “صبحية” وهو ما يزال أسيرا، وهذا ما حصل.
بضعة شهور تنتظر الأسير كريم ليتحرر من سجون الاحتلال، لم يحرره أحد، لم يكسر قيده أحد، بضعة شهور وسيخرج دون أن يجد “صبحية” بانتظاره”، وهو ذلك الشاب الذي غادرها شابا بشعره الأسود وحيويته، ليعود لها إلى المقبرة بتعب السنين، بشيب الرأس والقلب، بالحزن الذي يثقل كاهليه، بعتمة الزنازين، بشوق الأيام الذي رتبه في قلبه لها، سيذهب إلى قبر والده الذي رحل في ذكرى اعتقاله الثلاثين، ويلقي عليه تحية السلام، ويرتمي على قبر الحاجة صبحية وينهار بالبكاء، ويقبل تراب تدثر بقدميها ويعتذر عن تأخره.
رحلت الحاجة صبحية، وانهالت برقيات التعزية والمواساة الجامدة المغلفة، الجاهزة على الرفوف التي لا قيمة لها، نعاها المشروع الوطني والفصائل بالكلمات المملة المعادة المكررة التي عشش عليها أطنان من غبار، رحلت بالخذلان وأمنيتها بمعانقة كريم معلقة بين السماء والأرض، اليوم رحلت وهي لا تملك إلا الصبر.
كانت أمّ كريم يونس التي غيبها الموت اليوم تنتظر الإفراج عنه باليوم والساعة، وتتمنى أن يمر الزمن سريعاً حتى تعانقه، ويقول نديم يونس شقيق الأسير كريم يونس لـ”بال غراف”، إن والدته كانت تعد الأيام لحرية كريم، قبل ذلك كنا نقول لها بقي لكريم 5 سنوات وهكذا، لكن مؤخرا كنا نقول إن شهورا قليلة بقي له ما ترك أثرا جيدا عليها وكانت تبتسم وتمني النفس بتلك اللحظة.
وتراجعت الحالة الصحية للحاجة صبحية في الأسبوعين الماضيين، حيث جرى نقلها إلى المستشفى مرتين، يقول نجلها مساء أمس في المستشفى كانت واعية ومستيقظة، وكنا نقول لها “شدي حيلك، كوني قوية وكريم بانتظارك وبستناك وبده يشوفك، وهي وتقول إن شاء الله”، هي قاومت طيلة 40 عاما وانتظرت، ولكن مشيئة الله أقوى.
منذ عامين والحجة صبحية تخطط وترسم تفاصيل عرس استقبال كريم وحريته، كانت تتحدث يوميا في منزل العائلة عن كل تفاصيل حفل الاستقبال، وكانت تخبئ في كل موسم الفواكه الموسمية تحسبا لحرية كريم التي قد تحدث في أي وقت.
يقول نديم “منذ عامين والوالدة تخطط وترسم تفاصيل حفل استقبال كريم، في البيت تخبئ زيت الزيتون الجديد، وتخزن الرمان تحسبا لحرية كريم في أي لحظة، كانت تخطط لعدد المركبات التي يجب أن تستقبل كريم، وعدد الذبائح التي سوف نذبحها بحريته، ومن سوف يستقبله”.
ويضيف “كانت الوالدة حين تتحدث عن حرية كريم تتساءل “كيف سأكون لحظة حريته؟ هل سأكون قوية وسأعانقه وسأغني له وأهاهي، أم سأكون ضعيفة وانهار وأبكي أمامه، وكيف بدي أوقف أمامه، كنا نضحك ونشد من همتها ونشجعها، ونقول لها لما تشوفي كريم راح ترجعي بنت 40 بقوتك ونشاطك”.
لم تكن الحاجة صبحية تفوت زيارة لكريم في أي سجن كان به، من شمال فلسطين إلى جنوبها، لكن في العامين الماضيين لم تستطع ذلك.
وعن طول فترة اعتقال ابنها وهل كانت تشعر بالخذلان والتخلي عن كريم، قال نديم ” لم تشعر أبدا أنها لوحدها، رغم وجود بعض التقصير، وشعورنا أن الجهود المبذولة غير كاف، لكن لم نشعر أنه جرى التخلي عنا أو خيانة العهد، لم نفكر بهذا الاتجاه، وإن كنا نأمل أن يكون التحرك أقوى، كما كنا نستغرب صمت العالم ومؤسسات حقوق الإنسان على أسير يمضي 40 عاما في السجون”.
صباح اليوم الخميس وقبل إعلان وفاتها رسميا، وصل خبر رحيل الحاجة صبحية إلى الأسير كريم يونس في سجون الاحتلال، ويقول شقيقه نديم ” طلب منا أن نكون أقوياء، وأن لا يقلقوا عليه، وهو قوي ويعي الحالة الصحية للوالدة وتطوراتها، وفي السجن يقف إلى جانبه أصدقائه وإخوانه الأسرى الذين يساندونه ويدعمونه في كافة السجون، والذين قرروا فتح بيوت العزاء في كل المعتقلات، وهذا قد يخفف من وطأة الخبر عليه”.
الأسير كريم يونس من مواليد 23 تشرين الثاني/نوفمبر 1958 في قرية عارة، بالداخل الفلسطيني المحتل، اعتقل في الأول من حزيران/ يونيو 1983، وحكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة “الانتماء إلى حركة فتح” و “قتل جندي إسرائيلي”.
وكانت المحكمة العسكرية في مدينة اللدّ قد أصدرت حكماً بـ “الإعدام شنقاً” على كريم، وبعد شهر عادت وعدلت عن قرارها، وأصدرت حكماً بتخفيف العقوبة من الإعدام إلى السجن مدى الحياة، أي أربعين عاماً.