هيئة التحرير:
لم يكتب شعرا؛ بل بيانات ثورة ملتهبة، لم يكن مسالما ولا محايدا ولا هادئا؛ بل متفجر الغضب، عميق التحريض، سليط اللسان، شديد التحريض ضد الاحتلال، وجلاد الحكام والأنظمة العربية مهما تنوعت ألقابهم وأسماؤهم، قبلته فلسطين لا يهادن ولا يجامل بها، صنع من شعره عريشة للمظلومين والفقراء يستظلون بها على امتداد خارطة بلاد العرب، وشتم بدلا عنهم كل ما يشتهون شتمه، ومن يريدون شتمه دون تردد، لأنه مظفر النواب.
ورحل مظفر النواب، رديف دجلة والفرات العظيمين مساء اليوم الجمعة عن عمر يناهز 88 عاما، في منافي الغربة، بعيدا عن وطنه العراق الذي أبصر النور فيه عام 1934 في مدينة الكرخ، بعد صراع مع المرض، في مستشفى الجامعة في إمارة الشارقة الإماراتية.
رحل مظفر النواب وسؤاله الذي طرحه منذ عقود ما زال معلقا في حنجرته دون إجابة “القدس عروس عروبتكم.. فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟”، رحل النواب وأولاد “القحبة ” كما أسماهم في قصيدته ” لم تهتز لهم قصبة، وهم الذين أدخلوا كل زناة الليل إلى حجرة القدس ووقفوا يسترقون السمع لصرخات بكارتها، ومن ثم تنافحوا شرفا لقتلها”.
رحل مظفر النواب، وآخر كلماته كانت (مُتعبٌ منّي ولا أقوى على حملي)، ثقيلا بوجع فلسطين وانبطاح قادة العرب، وهو الذي أفرغ فيهم كل كتب الشتائم، وعندما سأله الإعلامي المصري عمرو ناصف “لماذا لم تعد تشتم (بعض) الأنظمة العربية في قصائدك؟ فقال: لا توجد في المعاجم شتائم تليق بهم.. هم أنفسهم أصبحوا أقذر شتيمة”.
النواب
اشتهر النواب منذ أوائل السبعينيات بشعره السياسي المعارض والناقد للأنظمة العربية الحاكمة حتى لقبه بعضهم بـ “الشاعر الأخطر في حركة الشعر العربي”، وهو الأمر الذي دفع ثمنه غاليا، فقد عاش أكثر من 40 عاما بين المنافي العربية والأجنبية، لكن ذلك لم يتسبب في التراجع عن موقفه في إعلاء صوت فلسطين وجلد الأنظمة العربية في التخلي عنها.
لقد كان لفلسطين حضورا بارزا في قصائد النواب، طيلة مسيرته الشعرية، وخلد بقصائده الأحداث البارزة في فلسطين، ونظم قصائد عدة، أبرزها: رثاء الشهيد ناجي العلي، وقصيدة تل الزعتر وغيرها، وتزامنت هذه القصائد بتحريض عميق وحث على المقاومة وهجاء شديد ولاذع للأنظمة العربية التي فرطت في فلسطين، فعاش لعقود طريدا بين المنافي.
وفي قصيدته “الانتفاضة” (2001) يقول النواب: “قد أذن الدم الزكي أن محمد الدرة من يؤمكم.. يا رجال وحدوا الصفوف خلفه.. حي على السلاح.. لا تقهر انتفاضتي وموقعي.. أدوس أنف من يشك أن بندقيتي.. تلقح الزمان أشرف اللقاح”.
وحث النواب أطفالَ فلسطين على رمي الحجارة على الإسرائيليين في قصيدة حملت عنوان “رب الحجر” قائلا: “ارم رب الحجر.. شلت مدرعة تحت صليات عينيك تلتظ نابض نار.. إرم قبلت كفك وجها وظهرا.. زرائبنا لم تزل تتثاءب.. لا سيما انتشر الآن داء البقر.. ارم أنت يد الله.. ألق الحجارة الجحيم.. تآمرهم ضد وعي الحجارة لا يغتفر”.
رحلة النواب في فلسطين
قال الكاتب المهتم بشعر مظفر النواب ومحمود درويش والرواية العربية الدكتور عادل الأسطة ل “بال غراف”، عرف الفلسطينيون الشاعر مظفر النواب في عام 1975 من خلال “أشرطة الكاسيت”، إذ لم يكن تُطبع كتبه آنذاك، وقد وصل بعض تلك الأشرطة إلى الشاعر عبد اللطيف عقل الذي أصغى إليه.
وأضاف الأسطة “كان عبد اللطيف عقل شيوعيا، بينما كان النواب قد ترك الحزب الشيوعي في ذلك الوقت، واختلف مع الرفاق في الحزب الشيوعي، فكتب عقل دراسة آنذاك نشرت في مجلة البيادر السياسية عام 1975 تحت عنوان ” هذا المتصوف البذيء: تسلل إلى القدس “، في إشارة منه إلى ديوان وتريات ليلة، قصيدة القدس عروس عروبتكم، قبل أن يعود عقل بعد سنوات عن موقفه إزاء النواب.”
ولفت الأسطة أنه في عام 1977 طبعت منشورات صلاح الدين الأيوبي ملحمته الشعرية “وتريات ليلة”، والتي ظهر فيها ملتزما بقضايا العرب القومية السياسية والاجتماعية وأصبح تغنيه بها سمة ظاهرة في شعره، تبعها بعد ذلك اهتمام الناقد عادل سمارة بشكل كبير بطباعة شعره بعنوان 4 قصائد، والتي ضمت قصيدة تل الزعتر، التي خلد فيها سقوط المخيم عام 1976 والتي وقف بها النواب إلى جانب الفلسطينيين وعرى الحكام العرب، بطريقة سخرية لمواقفهم البذيئة ضد الشعب الفلسطيني.
وبعد عام 1977 توالى إصدار دواوين وقصائد مظفر النواب في فلسطين، لكن مع اندلاع انتفاضة الحجارة الأولى انشهرت في فلسطين قصيدة للنواب في رثاء أبو جهاد الوزير، حيث طبعت القصيدة في كتاب صغير بشكل كبير ووزعت بأعداد كبيرة، تلاها قصيدة كتبها النواب عن مدينة نابلس وأطفال فلسطين.
ولفت الأسطة أن النواب كان ” ذات صوت جريء جدا، وتبنى مفاهيم جريئة وقوية لدى المواطن العربي، وكان يستهدف أولئك الحكام الذين يفرطون بالأوطان العربية والقضية ويبيعون بلادهم من أجل الحاكم الغربي”.
وأصدر الأسطة عام 1999 كتابا حظي بشهرة كبيرة بعنوان “الصوت والصدى.. مظفر النواب وحضوره في الأرض المحتلة”، وتتبع فيها الأسطة ظاهرة النواب، الذي كان شاعرا عربيا قوميا ثابتا، وقد أثارت قصائده جدلا كبيرا، ولم يبع مواقفه على الإطلاق.
ولفت أن قصيدته ” القدس” تعد من عيون الشعر العربي الذي كتب عن مدينة القدس، كما كتب النواب عن الفدائيين وتحديدا عن أبو مشهور الذي تسلل للقدس وقام بعملية تفجيرية، وفي عام 2002 كتب عن مخيم جنين حين حوصر وارتكب فيه مجزرة، فمظفر كان منتمي لعروبته والقضية الفلسطينية وقريب من الرموز الفلسطينية واهتم به الفلسطينيون بشكل كبير.
من جانبه، قال الأمين العام للاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين مراد السوداني، إن الساحة العربية والفلسطينية فقدت شاعرا كبيرا وقيمة عالية مثلها مظفر النواب من خلال أشعاره المقاتلة التي استطاع بها مواكبة المد الثوري للثورة الفلسطينية في بيروت وما بعدها، في مقاربة التراجيديا الفلسطينية، والتحريض على قتال العدو من خلال عديد القصائد التي مثلت الأدب المقاوم.
وأضاف السوداني أن النواب قد يكون “من أكثر الشعراء العرب الذي أوقف قصيدته على أدب المقاومة من أجل فلسطين، وكان مقيما في سياق الرفض، وقصائده عصية على الترويض، قصائده الهجائية تميزت بالحدة العالية من أجل فلسطين، وانتقاد تخلي حكام العرب عن القضية، وكأنه كان عرافا ومستشرفا بقصائده إلى ما ستؤول إليه الأمور، وهو الذي نشهده حاليا في تخلي بعض الزعماء عن القضية الفلسطينية في الآونة الأخيرة”.
ولفت أن “شعر مظفر النواب دخل كل بيت فلسطيني وعربي، واستطاع أن يؤثر في جيل كبير من الشعراء الفلسطينيين والعرب، وشكلت فلسطين غرناطة وأندلس جديد في تجربة مظفر النواب الذي ظل حتى اللحظات الأخيرة من حياته ينادي باسم فلسطين ورافض لكل سياقات المحو والغزو التي استقدمت على المنطقة العربية من أجل فلسطين واستهدافها”.
رحل مظفر النواب، دون أن يرى فلسطين وقد عادت إلى أهلها، حرة عربية، رحل وهو يدرك أن فلسطين سوف تعود ذات يوم، فإما أن تعود كما كتب في قصيدته يا زهرة النيران في ليل الجليل، إما فلسطين وإما النار جيلا بعد جيل.