كتبت أسماء مسالمه
عندما قيل إن احصائيات الحروب مخطئة تماما ولا تقتل شخصا واحدا فقط بل تقتل و تفرق اثنين هذه حقيقة لا يُمكن نكرانها، فالحرب أجبرت (غِفرة ) على انتظار زوجها و حبيبها (دخل الله ) اثنين وخمسين عاماً!
فقصة الحاجة غِفرة تُشبه كثير من القصص المنسية التي لم يكتب عنها أحد من قبل و لربما تم تناولها برؤوس أقلام ، فهناك خوف من مواجهة من هم السبب وراء مثل هذه القصص.
( غِفرة خليل العواودة ) من مدينة إذنا غرب الخليل لا زالت تنتظر حتى يومنا هذا عودة زوجها (دخل الله عواد) والذي اختفى في ظروف غامضة خلال (حرب أيلول الأسود ) التي نشبت بين القوات المسلحة الأردنية و منظمة التحرير الفلسطينية عام 1970م .
تزوجت غِفرة من ابن عمها دخل الله عام 1969 ومكثا سوياً حوالي سنة ونصف قبل اختفاء دخل الله، أنجبت خلالها ابنتهما (أمل ) والتي اسماها والدها بذلك أملاً بالحرية يوما ما .
كان دخل الله استاذاً للغة الانجليزية بمدرسة ببلدة (سوف) الواقعة في لواء محافظة ( جرش ) قبل أن ينضم الى منظمة التحرير الفلسطينية عام 1970.
بدأت القصة عندما قرر ( دخل الله ) الانضمام لمنظمة التحرير بعد سنة من زواجه ليترك سلك التعليم و ينضم للكفاح المسلح ضد الاحتلال في سبيل نيل الحرية
تروي الحاجة (أم أمل ) القصة كاملة ل”بالغراف”: “راح دخل الله مع مجموعة من رفقاته المناضلين على سوريا لاستلام شحنة أسلحة لدعم المنظمة، وهم راجعين على حدود بلدتي ( الطرة والشجرة شمال إربد ) كان في فخ من جيش اليهود كاين حدا مخبر عنهم و صارت معركة بينهم، سيارة الاسلحة تفجرت وهو و رفقاته تفرقوا بالجبال، رفقاته مسكتهم الحكومة الأردنية ولأن معهم هوية أردنية أفرجوا عنهم ع طول، لكن دخل الله ما كان معهم ولما سألناهم عنه قالوا ما شفناه ! “
تُكمل الحاجة غِفرة روايتها عما حدث: “دخل الله وبعد المشكلة اللي صارت بين منظمة التحرير والحكومة الأردنية في أيلول، وقف مع المنظمة ضد الحكومة وهذا واحد من أسباب انضمامه للمنظمة وقتها ! “
أين يمكن أن يكون دخل الله ؟
أجابت : “دخل الله لو استشهد بالمعركة كان عرفنا ووصلتنا جثته، ولو اعتقلوا الاحتلال كان ما أخفوا عنا وحكوا انه عندهم، بس دخل الله اختفى جوا الأردن وما معه هوية أردنية لأنه مش من مواليد الأردن لهيك كان صعب نعرف وين هو ! “
تستكمل الحاجة غِفرة حديثها لبالغراف “سألنا الحكومة الأردنية عنه وقالوا انه مش عندهم وتواصلنا مع منظمات حقوقية داخل الأردن ليساعدونا بمعرفة مكانه إذا كان عند الحكومة الأردنية لكن ما طلع بإيدهم اشي، والكل أنكر مكانه ! وبعد فترة قصيرة إجت أمي وروحتني معها ع فلسطين، ما قبلوا أهلي يخلوني في جرش لحالي، وحكموا ع دخل الله بالاستشهاد و عملت العدة الشرعية كأي مرأة متوفي جوزها”.
قبل اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى بوقت قصير وبعد مرور ما يقارب عشرين عاماً على اختفاء دخل الله تُخبرنا الحاجة غِفرة أن هناك أشخاص جاؤوا فأخبروهم انهم رأوا دخل الله، وبعدها مباشر اقتحم جيش الاحتلال بيت أهله و أخذوا والده و زوجته غفرة لاستجوابهم عما إذا عاد دخل الله؛ لتعاود الشكوك تساورهم حول مكان دخل الله الذي باتت قصته كظريف الطول الذي نسمع عنه ولا نراه.
أم أمل و حتى يومنا هذا لم تنسى زوجها دخل الله فتقول: “كل ليلة بخطر ع بالي و بصير أصيح وادعي ربنا يرحمه إن كان ميت و إن كان عايش، بشتاقله كثير رغم انه ما طولنا سوا و كلها سنة اللي عشناها مع بعض”
تمدح السنة والنصف التي قضتها برفقة دخل الله بأنها أجمل سني حياتها ولم ترى إلا السعادة والحب خلالها، ومنذ اختفاء دخل الله لم تذق أي طعم للحياة والسعادة!
تحتفظ غِفرة بصورة دخل الله بصدرها بعقد ذهبي منحوت عليه صورتهما أثناء خطبتهما لتعلمنا درساً في الوفاء والحب .
اختفى دخل الله و عمر غِفرة 18 عاماً، تقدم لها للزواج الكثير ورفضتهم جميعا، حتى بعد أن كبرت ابنتها أمل كان يتقدم لها العرسان، لكنها لم تمل من انتظار حبيبها حتى هذا اليوم وحتى لو وصل اليها جثة هامدة!
مرت السنين و أصبح لدخل الله أحفاد من ابنته الوحيدة (أمل) أكبرهم صلاح الذي اسمته جدته غِفرة بذلك نسبة الى اسم جده الحركي ( أبو صلاح )، كذلك أصبح لديه أحفاد أحفاد فباتت أمل جدة أيضا دون أن تشعر بمعنى الأب بحياتها!
وقعت أحداث صراع أيلول عام 1970 بين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات والحكومة الأردنية ممثلة بالملك حسين، على إثر تصاعد شعبية المنظمة بالأردن و زيادة تدخلها بشؤون المملكة الأردنية ومحاولة بعض الفدائيين اغتيال الملك حسين، سرعان ما تحول الأمر الى صراع بينهما أدى إلى قيام الجيش الأردني بمحاصرة المخيمات الفلسطينية وقصفها فاستسلم حوالي سبعة آلاف مسلح من الفدائيين الفلسطينيين قُتل منهم الآلاف و زُج بالكثير منهم في المعتقلات و الزنازين الاردنية , وعلى الجانب الاخر وبحسب سجلات الجيش الأردني أكثر من 110 جندي أردني قُتل في المعارك بينما أعداد القتلى المدنيين الأردنيين قد يصل إلى 1,300 قتيل.
لا زالت غِفرة تحتفظ بأمل عودة دخل الله ولكن في قرارة نفسها تعلم أنه من الصعب التمسك بالأمل بعد مرور اثنين وخمسين عاماً وتقول: ” هو الواحد هالقد بغيب؟ الله أكبر اثنين وخمسين سنة غايب! ” ؛ قصة غفرة ودخل الله قصة من بين آلاف قصص الاختفاء لفلسطينيين و عرب آخرين في البلدان العربية، فلا يمكن لنا أن نحصي عدد الاشخاص المختفين الذين لا هم على قيد الحياة ولا حتى موتى .