هيئة التحرير
بزغوا للحرية كبزوغ الشمس، ستة أسرى حفروا بأيديهم طريق حريتهم طيلة عام كامل لتكتمل حريتهم وتشق طريقها صبيحة السادس من سبتمبر/ أيلول من العام المنصرم، نحو الأراضي المحتلة بسهولها وجبالها متلذذين بعنبها وصبرها وتينها، تاركين وراءهم جنودًا يحاولون لملمة “سمعة” حِصن محكم الإغلاق، مرغته أيادي أسرى “نفق الحرية” بالطين.
شعور بالفرح والانتصار ولكنه مجبول بالخوف على مصير الأسرى الستة الذين تمكنوا من الفرار العام الماضي، عبر “نفق الحرية”، هكذا وصف يحيى الزبيدي شقيق الأسير زكريا الزبيدي شعورهم حينما سمعوا بفرار الأسرى، لكنه لا زال قلق على شقيقه الذي لا زال يعاني آثار التعذيب والعزل كما بقية الأسرى الستة، حتى الآن، بعد مرور عام على فرارهم من سجن جلبوع، حيث تصادف ذكرى “نفق الحرية” عامها الأول هذا اليوم الثلاثاء.
فجر السادس من سبتمبر\ أيلول 2021، تمكن الأسرى: زكريا الزبيدي، ومحمود العارضة، ومحمد العارضة، ويعقوب غوادرة، ومناضل انفيعات، وأيهم كممجي، الفرار عبر نفق حفروه أسفل سجن جلبوع، لكن قوات الاحتلال اعتقلتهم مجددًا بعد أيام، وحاولت ترميم فشلها الأمني بمحاكمتهم رغم أنهم مسجونين ويقضون أحكامًا عالية، إضافة إلى تعذيبهم وفرض إجراءات وعزل عليهم، ولم يسلم الأسرى وتعرضوا لفرض إجراءات بحقهم، لكن وقفة الأسرى الموحدة اجبرت إدارة السجون على التراجع عن إجراءاتها.
معاناة وقلق
يعاني زكريا الزبيدي ابن مخيم جنين والمعتقل منذ العام 2019، وما زال موقوفًا، حتى الآن، من آثار التعذيب والعزل بعد اعتقاله إثر فراره عبر “نفق الحرية”، إضافة إلى أوجاع بالظهر وتهشم بقرنية العين، ولا يُعطى من الأدوية سوى المسكنات، وفي العزل لا جو صحي له ولبقية زملائه أبطال “نفق الحرية”، وهو ما يزيد قلق عائلته عليه، وفق يحيى الزبيدي، في حديثه لـ”بالغراف”.
ومنذ عام يقبع الأسير زكريا في العزل ويعاني ظروفًا صعبة ، إضافة للتنقل المستمر من عزل لآخر كل ثلاثة أشهر، ويعاني من التفتيش المستمر والاستفزاز بشكل متواصل وحرمان من “الكنتينا” (مقصف السجن) وحرمان من الخروج إلى “الفورة” (ساحة السجن) نتيجة تكبيله خلال الخروج إليها، فهو يرفض الخروج مكبلًا وبالتالي يُمنع من “الفورة” ويحرم من رؤية الشمس منذ عام.
“شعرت بالخوف الكبير، وبأن هذه الساعات الأخيرة لأيهم”، هكذا يصف فؤاد كممجي والد الأسير أيهم حاله وقت سماعه بعملية الفرار من “جلبوع”، ولكن بنفس الوقت يؤكد شعوره بالفرح كون أيهم يتنفس الحرية بعد سنوات طويلة في الأسر.
ووفق فؤاد كممجي في حديث لـ”بالغراف”، فإن نجله أيهم يعاني مشاكل صحية، فلديه نزيف بالمعدة، ولديه مشكلة بعينه، ومن آثار التعذيب لغاية الآن، وزنازنين العزل التي يقبع بها منذ عام لا تصلح للعيش الآدمي مطلقًا، فهم محرومين من أبسط حقوقهم، ويرفضون عرضه على طبيب رغم مطالبته بذلك.
ويؤكد رئيس نادي الأسير الفلسطيني قدورة فارس في حديثه لـ”بالغراف” أن كل أسير من الأسرى الستة، لديه ظروف صحية مختلفة، فالأسير يعقوب قادري تتلكأ إدارة السجون بإجراء الخزعة للورم الذي اكتُشِفَ لديه في الغدة لتحديد نوعه، فيما يعاني الآخرون من بعض المشاكل الصحية المختلفة، ولكنها ليست أمراضًا مزمنة تهدد الحياة.
فرحة الحرية الباقية
كان شعوراً بالفرح لتحقيق أسرى “نفق الحرية” نصرهم وانتزاعهم لحريتهم، ولكنه أيضاً مليءٌ بالخوف عليهم، فلا معلومات عن مصيرهم، ولكن عائلاتهم وفق يحيى الزبيدي، كانت بمعنويات عالية، رغم عدم رؤيتهم طيلة أيامهم بالحرية.
و”خروجهم لعدة أيام يعني الشيء الكثير لعائلاتهم وللشعب الفلسطيني، فهذا أثبت أننا شعب مقاتل من أجل الحرية”، بحسب ما يقوله الزبيدي في حديثه لـ”بالغراف”، مؤكدًا أن اعتقالهم لم يوقف المسيرة، ولم يوقف النضال لديهم، بل استكمل داخل السجن من خلال انتزاع الحرية، إضافة إلى إيصالهم رسالة للعالم بأكمله وللقيادة السياسية وللأحزاب بأن هناك أسرى بداخل السجون قاتلوا من أجل حرية شعبهم، فمنهم من قضى أكثر من عشرين عامًا ومنهم من قضى ست سنوات، فهم مثلوا خمسة آلاف أسير وأوصلوا صوتهم.
والأسرى بحسب الزبيدي، لا يريدون أي مسميات في الأسر، وهم دقوا جدران الخزان بأنهم موجودون ويطالبون بالحرية، وأوصلوا رسالتهم بأن كيان الاحتلال أوهن من بيت العنكبوت، فهم استطاعوا الخروج من أكثر سجن تحصينًا لديهم، سجن جلبوع الذي يسمونه بـ”الخزنة”.
بالنسبة لفؤاد كممجي والد أيهم، فإن خروجه من السجن ولو لعدة أيام مثَل لأيهم ولرفاقه الأسرى ميلادًا جديداً، فهم خرجوا بطريقة مميزة ومختلفة عن كافة الأسرى الذين خرجوا من الأسر، ما جعل لحريتهم نكهة خاصة.
طيلة الأياه الثلاثة عشر لأيهم خارج الأسر يؤكد والده فؤاد كممجي أنه عاشها بخوف كبير خشية تلقيه أي خبر سيء عنه، ولم يتخيل أن أيهم سيكون في جنين بين الناس يحظى بحياة عادية، وعلمنا ذلك بعد اعتقاله مرة أخرى.
يشعر الأب كممجي بالحسرة لعدم رؤيته ابنه واحتضانه، وهو الذي لم يكن يبعد عنه سوى بضعة كيلو مترات، ولكنه لا يعلم بوجوده، وما يزيد الحسرة أنه طيلة تسعة عشر عاماً لم يتمكن فيها من رؤية ابنه سوى مرة واحدة عام 2019، بعد وفاة والدة أيهم فَسُمِحَ له باحتضان ابنه وتقبيله لخمسة دقائق فقط.
الروح الحرة
شكلت عملية “نفق الحرية” أملاً كبيرًا للأسرى، لتؤكد وفق الأسير المحرر عبد الفتاح دولة في حديثه لـ”بالغراف”، أن الأسير أثبت بهذه العملية “نفق الحرية”، أن السجن لا يمكن أن يحاصر روحه وطموحاته ورغبته الدائمة بالحرية كما يحاصر جسده، وأنه لا بد وأن يحصل الأسير على حريته يومًا ما سواء بإرادة السجان أو رغمًا عنه.
رغم كل الإجراءات الصعبة والأمنية وخاصة في سجن جلبوع محكم الإغلاق والمبني بظروف محصنة جدًا، استطاع الاسرى الستة أن يحفروا بأيديهم وبالوسائل البدائية طريقهم للحرية، وهذا ما رفع الأمل لدى الشعب الفلسطيني، أنه رغم كل الظروف يستطيع أن يشق طريقه للحرية، كما وزاد إيمانه بقضية الأسرى ونضالهم الذي يثبت في كل مرة القدرة على صناعة الفرق.
عملية “نفق الحرية”، وفق المحرر دولة، أتت في ظل الظروف الصعبة للشعب الفلسطيني، وغياب الأفق السياسي، وغياب أي أفق يوصلها إلى حل ولدولة مستقلة، فأعادت العملية للشعب الأمل رغم الضيق وانسداد الأفق، خاصة وأنه أتى من أكثر فئة تعيش ظروفاً صعبة وهم الأسرى.
جنون الاحتلال وتصدي الأسرى
حالة من الجنون أصابت إدارة سجون الاحتلال بعد عملية “نفق الحرية”، فأضحت تمارس التضييقات التعسفية بحق الأسرى، وكان آخرها محاولة فرض التنقل المستمر على الأسرى والتي تمس حالة الاستقرار لديهم، ما دفع الحركة الأسيرة للتهديد بالإضراب، لتتراجع إدارة السجون عن ذلك القرار وتجميده، وفق الأسير المحرر عبد الفتاح دولة.
ويقول رئيس نادي الأسير الفلسطيني قدورة فارس في حديث لـ”بالغراف”: “غن إدارة السجون ووزارة الأمن والمخابرات الإسرائيلية كانت دائمًا لديها خطط وتتحين الفرصة لتنفيذها، وعلى وقع الصدمة التي تعرضوا لها اعتقدوا أن الأسرى أعطوا مبرراً وشرعية لهم من خلال عملية (نفق الحرية) لتنفيذ كل الإجراءات القمعية التي كانوا ينوون تنفيذها، ولكن ردة فعل الحركة الأسيرة التي كانت مباشرة وسريعة حالت بين إدارة السجون وبين قدرتها على استثمار هذه الحالة الناشئة، بعد (نفق الحرية) من أجل إملاء وفرض إجراءات ومصادرة مكتسبات وإنجازات للحركة الأسيرة”.
وفي الذكرى الأولى لـ”نفق الحرية” أنهت الحركة الأسيرة كل التبعات والإجراءات المترتبة على الأسرى بعد تلك العملية، وذلك بالاتفاق الذي أُبرم عصر أمس الإثنين، بين اللجنة الوطنية العليا للحركة الاسيرة وبموافقة ومشاركة حركة الجهاد الإسلامي، فأنهت الإجراءات التي كانت مفروضة عليهم، فيما أنهى أسرى الجهاد الإجراءات التي كانوا يتخذونها في سبيل استعادة بعض المكتسبات التي صودرت منهم، ليكتمل انتصار الأسرى الذي أعلن الخميس الماضي، بإجبار إدارة السجون التراجع عن إجراءاتها والتنصل من اتفاق مبرم قبل أكثر من خمسة شهور.
وعلى صعيد شروط الحياة، فإن الأسرى حولوا هذه الأزمة إلى فرصة تمكنوا بها من تحقيق إنجاز كبير تمثل باستعادة وحدتهم، ولأول مرة منذ العام 2004، يشكل الأسرى قيادة موحدة من كافة الفصائل وتمكنوا من صد الهجوم الذي تعرضوا له، فـ”نفق الحرية” أسس لمرحلة جديدة لدى الأسرى.
وما زال أسرى “نفق الحرية” الست، بالعزل ويتعرضون لعملية تنكيل وانتقام، ولذلك فاتفاق أمس الإثنين، يشملهم من خلال تخفيف إجراءات القمع المفروضة عليهم، والأسرى لن يتركوهم وحدهم، فبعد تجاوز الأزمة العامة، سيتفرغ الأسرى للتفكير بطريقة يضمنوا من خلالها بشكل متدرج “تخفيف وطأة الإجراءات المتخذة بحق الأسرى الستة، وأن تكون ظروف عزلهم أفضل، ومن ثم العمل على إخراجهم للأقسام العامة”، بحسب ما يؤكده رئيس نادي الأسير قدورة فارس.
محاولات لم تتوقف
نفذ الأسرى عبر السنوات الماضية، عددًا كبيرًا من محاولات الفرار من السجن، جزء منها لم تنجح نتيجة التفتيش المستمر، وجزء منها نجح، وفق الأسير المحرر عبد الفتاح دولة الذي اعتقل مدة اثني عشر عاماً في سجون الاحتلال.
ووفق دولة، فهناك أسير استطاع الفرار من “البوسطة” (مركبة تنقيل الأسرى)، وآخر نجح بالفرار من سجن عوفر، وهناك محاولات للفرار من خلال الحفر، فنجح ثلاثة أسرى بحفر نفق للوصول إلى حمام غرف الزيارة، ومن ثم إلى غرف الزيارة، ولكنهم اكتُشِفوا، وفي سجن النقب كانت هناك محاولة لأسير استطاع الخروج من الساحات.
ويؤكد دولة أن الأسرى لا يوجد يوم لا يفكرون به بطريقة للتحرر، فهناك من لديه الاستعداد للمحاولة، وأسرى “نفق الحرية” تسجل حالتهم تجربة ناجحة، فهم استطاعوا الخروج لأيام، قبل أن يتمكن الاحتلال من إعادة اعتقالهم.
ويؤكد رئيس نادي الأسير الفلسطيني قدورة فارس، في حديثه لـ”بالغراف”، أن هنالك العديد من حالات الفرار من السجون التي نجحت، فعام 1971 استطاع ثلاثة أسرى الفرار من سجن عسقلان، واستطاع ستة أسرى وعبر “نفق” بالفرار من سجن غزة عام 1986، فيما نجح ثلاثة أسرى عام 1987 بالفرار سجن نفحة، إضافة لبعض الحالات الفردية أيضاً منها عام 1982 فرار أسيرين من المحكمة كل لوحده على فترات زمنية متقاربة، وأيضاً نجح ثلاثة أسرى من خلال “نفق طويل” بالفرار من سجن “كفار يونا” عام 1995.
ولاقت عملية “نفق الحرية” تفاعلًا عالياُ من قبل الشعب الفلسطيني بحسب فارس، حيث تحولت إلى ورشة عمل يتحدث بها الشعب أينما حلوا واينما تواجدوا، فهي أعادت الاعتبار للنضال والإرادة التي يتمتع بها الأسرى، فكانت عملية تحشيد للأجيال الصاعدة، واستعاد فيها المناضل صورته المبهرة، إضافة إلى أنها زعزعت منظومة أمن الاحتلال.