ياسمين الأزرق
لو أنّ جدّتي الثمانينية قادرة على الوقوف على قدميها دون الاستعانة بالمشاية، لكانت الآن تقفُ أسفل شجرة الزيتون الوحيدة التي نبتَت بجانب منزلِها في مخيّم عايدة شمال مدينة بيت لحم، وحيدة تُذكّرها بأنها لا تمتلكُ أرضًا مزروعة بأشجار الزيتون، تقطفُها ثُم تستعرضُ منتجاتِها من الزيتون، الزيت، البندورة المجففة، زبدة الزيتون، أقراص الزعتر، المسخن والمطبّق فتُرسلُها إلى جاراتِها متباهيةً: “ما في بعد زيتنا”، لكنّها امتلكت شجرة واحدة فقط، واكتفت بأن تدق زيتونها وتأكلُه مع العائلة في طبقٍ جانبيٍّ، وبينها وبين ذاتها تقول “لو أننا لم نُهجّر من قريتِنا لكان زيتُنا البكرُ يلفّ الآن على الجارات، واحدة واحدة”، والآن كبرتْ جدتي مثل المخيّم فلم تعد قادرة على قطف وحيدَتها.
جاء أكتوبر بالكثير من المناسبات المحليّة والدولية، لكنّ أعظمها بالنسبة للفلسطيني هو موسم قطف الزيتون، حيث تحمل العائلاتُ عتادَها قبل شروق الشمس، هذا يلبسُ مئزره وتلك ترتدي كوفيّتها وذاك يحملُ قدرًا كبيرًا وبعض العِصي والمفارش القديمة ومسلتزمات تكفي ليومِ القطاف، من يتسلّق منهم الشجرة، ومن يجلسُ أسفلها، ومن تُعد “المقلوبة” على الحطب أو “قلاية البندورة” وبعض الحواضر السريعة مع كوبِ شايٍ بالميمرمية فموسِمها يبدأ مع فصل الخريف هي الأخرى، بينَما نجلسُ نحنُ أبناءُ المخيّمات نراقبهم من بعيد، نسأل هذا ما إن كان يحتاج المساعدة، وذاك لو نشاركه أجواء عائلته، والبعضُ يتفق مع صاحب أرضٍ شاسعةٍ بأن يقطف له زيتونها هو وعائلته مقابل مبلغ من المال أو حصّة من القطاف، وأكثرُنا يخرج من هذا الموسمِ بيدٍ حريرية لم تشبها شائبة، فلا خُدشت بغصنٍ، ولم يصبغ الزيتون سُمرته على أطرافِ أناملِها ولا علقت التربة في أظافرها، ولا تجرّحت حناجرُنا فلم نصدح نُغني “على دلعونا وعلى دلعونا … زيتون بلادي أجمل ما يكونا”.
نحنُ اللاجئون في فلسطين مهمتنا مختلفة في موسم قطف الزيتون، نعملُ فقط كلجنة تحكيم حياديّة في أماكنِ عملِنا، ونتركُ التباهي لزملائنا الذين لم يُهجّروا من أراضيهم، فنتذوّق من كُل الأصنافِ سامحين لهم أن يذكرونا بأننا لا نملِك أراضي زيتون، ولم نأخذ أجازة خلال هذه الفترة من العام فلا حاجة لنا بها، ويسألونا دون غيرنا “من أين ستشتري الزيت هذا العام؟” قبل أن يمطرونا بنصائح عن كيفية اختيارِ الزيتون والزيت الصحيح، ثم يشرحون لنا بشكلٍ تفصيلي، ما نعرفُه مسبقًا، عن الجداد وكم يومًا يحتاج وحجز الدور في معصرة الزيتون وعن الزيت البكر والزيت القديم والزيتون البلدي والآخر الإفرنجي، ثُم يتركوننا ليذهبوا إلى باقي الزملاء الذين عاشوا التجربة ولا يحتاجون مثلنا إلى “تثقيف” ليتناقشوا معهم حول موسم قطف الزيتون هذا العام، فيقول هذا: “الزيتون حامل السنة”، ويقول ذاك: “الزيتون السنة مش جايب همه”، ويسألُ ثالث: “كم تنكة زيت عملتوا؟” والتاجر المُر سيقطع حديثهم ليصطادَنا نحن الزبائن المحتملون “عشانَك زميل غالي بدي أبيعك تنكة الزيت بهالسعر”، طبعاً قبل أن يشرح لنا أهمية الانتباه وفحص الزيت حتى لا يكون مغشوشًا.
أمّا نحن نشاركُهم حديثهم حتى آخر نفسٍ، طوال أكتوبر، لنشعُر بأننا شاركنا ولو قليلًا في موسم فلسطين الأهم، وحين ينتهي اليوم نعودُ إلى منازلِنا، ومن أطال الله في عُمر جدّيه، يكون أكثرنا حظًّا، إذ يزورُهما ليحكيا له عن أيام البلاد، تُغنّي الجدّة “يلا يلا يا عفيف إحنا في فصل الخريف.. يلا نكت الزيتونة بشقشاقة يا عيوني”، ويشرحُ الجدّ كيف كانوا يسوّرون الأراضي كي يحموها من “المتصيفات” اللواتي يقطفنه خلسة من أراضي أهل القرى دون إذن أصحابها، وكُل القصص التي يرويها الجدان يسبقانها بـ “كان” وبـ “أيام البلاد”، فنشتاقُ إلى ماضٍ لم نعشه، وأرضٍ لم نحرثها، وطقوسٍ لم نمارسها، ثُم نبحث عن مجموعة تطوّعية تساعد الأهالي الذين يمتلكون أراضي زيتون في مناطق التماس، لنُعاونَهم على جِدادها، ونُعاون أنفسنا على تخطّي لجوئنا المستمر بكل تفاصيله التي نعيشها في حياتنا اليومية.
أما أنا فسأشكر هذا العام الفنانة الفلسطينية أمل كعوش التي دندنت لنا أغنية جديدة بطابعٍ فلسطيني قديم، سنُدندِنها نحن الصبايا تحت شجر الزيتون ونعيدُ مرارًا وتكرارًا هذا المقطع:
“وحيات مين خلّا زتوني يعصر زيت.. أصعب من فراقكو أنا ما لقيت”، وسأخبر جدّتي الجميلة جليلة، بأن هُناك صبية غنّت أغنية تُشبهُنا، فلسطينية اللحن والصوت والكلمات، عتيقة رُغم آنيّتها، وملفتة بكلماتها البسيطة، وبها مقطعٌ عاطفيٌّ يمكن لجدّتي أن تغنيه لإبنيها المغتربين “يا روح قلبي بلاد الغرب ما تنداس… روّح على بلادك وسلم على جميع الناس”، ثم سأطلب منها أن تغني ما تحفظه من “غناوي البلاد”، بينما أُعد المسخن الفلسطيني بخبز الطابون وزيت الزيتون الذي ابتعته من بيت جالا أو عصيرة الشمالية أو واحدة من المدن والقرى الفلسطينية الأكثر شهرة بجودة زيتِها، لونًا ورائحة وكثافة ومذاقًا، معتذرةً منها لأنه أقلّ جودةً من زيت “البلاد”.
- الصورة لـ علاء بدارنة