عبد الله الزماري
“يا ولد لفلّك شال، وتعلم شغل الرجال” مطلع أغنية استخدمت للحث على الانخراط في النضال عبر ارتداء اللثام والتصرف كرجل، حيث اقترنت الرجولة بالنضال، وكان المناضلون الفلسطينيون يخفون وجوههم باللثام خوفا من ملاحقة الإحتلال وعملائه، وطبعا استخدمت نفس الاغنية في مقاصد أخرى اتفقت كلها على امتلاك صفات ومعاني الرجولة والمسؤولية الاخلاقية.
تسيطر المنصات الرقمية على مساحات واسعة من حياتنا اليومية، وقد صرنا نجد الهُويّات المزيّفة تتسلل إلى نسيج التواصل الإجتماعي، في ظاهرة نصطلح هنا، على تسميتها “اللثام الرقمي”. هذا المصطلح الجديد يُشير إلى ممارسة ليست جديدة، وهي إنشاء حسابات على المنصات الرقمية، باسماء غير حقيقية بهدف إخفاء الهوية الحقيقية، لأسباب عديدة، منها مثلا، حماية الخصوصية، التملص من الرقابة (الإجتماعية او السياسية)، أو أحياناً، لممارسة سلوكيات مرفوضة، مثل التنمر والتهديد والتحرش، والإحتيال عبر المنصات، وهنا، لا بد لنا أن نسأل: هل يُعدّ “اللثام الرقمي” ممارسةً مشروعة تحت سقف الرغبة بممارسة حرية التعبير، أم أنه انحرافٌ يهدد أمن المجتمع الرقمي وسلامته؟
الحرية المطلقة، فوضى مطلقة
تمتاز منصات التواصل الإجتماعي بصفاتٍ عدة، من بينها سرعة وسهولة الانتشار، مساواة الفرص امام المستخدمين للاستهلاك والتعبير، ومن بين صفات أخرى، تبرز أحد أخطرها، وهي ما اصطلح على تسميته بالمجهولية، حيث يستطيع اي مستخدمٍ ارتداء “لِثامِه”، ويتقمص الشخصية التي يريد، ويقول ما يريد، فلا أحد هنا _نظرياً_ يستطيع الوصول إليه، وبالتالي هو خارج نطاق المحاسبة، ومن أمن العقوبة، أساء الأدب.
ساوت منصات التواصل الإجتماعي، بين الجميع، فكل من أنشأ حسابًا على أحدها، بات يمتلك القدرة على قول ما يريد، أن تمتلك الحرية للتعبير عن رأيك وافكارك ومعتقداتك بكل حرية، هو أمرٌ ايجابي نظرياً، ولكن حين يُترك الإنسان دون أي قيود أو ضوابط، تتحول الحرية من قيمة نبيلة إلى أداة للفوضى وتفكك المجتمع.
ليس من مكونات الحرية الحقيقية، غياب القوانين أو الحدود، بل تعني وجود مساحة آمنة للتعبير والعمل ضمن إطار يحفظ حقوق الجميع، ويمنع تعدي الفرد على الآخر، فحين يحصل كل فرد على حرية غير محدودة لفعل ما يشاء، يصبح المجتمع عرضة لتنامي السلوكيات الضارة، مثل العنف، الجريمة، وانهيار القيم المشتركة، إذ يتصرف كل شخص وفق أهوائه دون اعتبار لمصلحة الآخرين أو النظام الإجتماعي والسلم الأهلي، هذا يعني الفوضى، والفوضى متجلية بما نراه على منصات التواصل الإجتماعي فلسطينياً، وإن كانت فلسطين ليست استثناءً مطلقاً، إلا أن بقاء الصراع مع الاحتلال دون حل، يستلزمها أن تكون استثناءً، نوظفه في الصراع مع الإحتلال.
الفقرة السابقة، لم تأخذ بالحسبان الملثمين الرقميين، وعند إضافة اللثام للفضاء الرقمي العام، ترتفع نسبة “الحرية” المقترنة “بالمجهولية”، وتزداد الفوضى، وترتفع معها وتيرة السلوكيات المثيرة للرفض، كالهجوم الشخصي، وتوزيع الاتهامات، والوطنيات والخيانات، على حد سواء، وهذا واقعٌ جدُّ خطير، لا بد أن نقف عنده مُطولًا.
لقد أثبتت التجارب الإنسانية أن غياب التنظيم يؤدي إلى انهيار الثقة والتعاون، وانتشار الأنانية، وتراجع المسؤولية الإجتماعية، حتى يصل الأمر إلى أن يصبح المجتمع _في الواقع وعلى المواقع_ بيئة غير آمنة تسودها الفوضى والصراع، لذلك، لا يمكن تصور الحرية كقيمة مطلقة، بل يجب أن تكون مقترنة بالمسؤولية والضوابط التي تضمن تحقيق التوازن بين حرية الفرد واستقرار المجتمع. فكما أن تقييد الحرية بالكامل يولد الاستبداد، فإن إطلاقها بلا حدود يفتح الباب أمام الفوضى، ليصبح شعار “الحرية المطلقة فوضى مطلقة” حقيقة لا يمكن تجاهلها.
اللثام الرقمي، بين الحرية والانتهاك
“اللثام الرقمي” أو الهوية المجهولة التي يختبئ خلفها ملايين المستخدمين، عبر العالم، يرى البعض في “التلَثُّم” وسيلةً ضرورية لحماية الخصوصية وحرية التعبير، في مجتمعات تُقيد الحريات، وتلاحق ممارسيها، يحذر آخرون من تحول “اللثام” إلى ستار، يُغطي خلفهُ ممارسات ضارة ومرفوضة، كما حدث مع اللثام الواقعي في مراحل متأخرة من الانتفاضتين الفلسطينيتين، فبعد أن كان رمزاً للنضال وهوية للمناضلين، أصبح مصدراً للقلق والخوف أحياناً بسبب ممارسات لا وطنية، مارسها “ملثمون” إبان تلك الفترات، نفس الأمر، ربما انطبق على اللثام الرقمي، حيث صار يمارس خلفه، ممارسات مثل التنمر، والتهديد، والتحرش، وحتى نشر الشائعات، والأخبار المضللة إلخ.
تشير دراسات عالمية إلى أن 35% من مستخدمي الإنترنت يستخدمون هويات وهمية لتجنب التعرض للتمييز أو الانتقام بسبب آرائهم السياسية أو الإجتماعية، وهو حقٌ يُبرر في نظرهم استغلال “اللثام” كوسيلةٍ للنجاة في فضاءٍ لا يرحم، لكن الوجه الآخر لهذا العمل يتمثل في الإحصائيات الصادمة التي تُظهر أن 67% من جرائم التنمر الإلكتروني تُرتكب عبر حسابات مجهولة، وفق تقرير منظمة “كاسبرسكي” لعام 2023، ما يطرح سؤالًا جوهريًا: هل الحماية الحقيقية تكمن في إخفاء الهوية، أم في بناء بيئة رقمية تحترم القواعد وتُحاسب على الانتهاكات؟
مثل “اللثام التقليدي”، فإن اللثام الرقمي ليس شرًا محضًا، لكنه يتحول إلى أداةٍ مدمّرة عندما يُستخدم لإسكات الأصوات الحقيقية، ونشر الكراهية، وتشويه الحقائق. والحل لا يكمن في محو هذا المفهوم، بل في وضع ضوابط صارمة تُوازن بين حق الفرد في الخصوصية، ومسؤوليته تجاه المجتمع الرقمي، فضلاً عن تعزيز وعي المستخدمين بأثر كلماتهم وأفعالهم خلف “اللثام”.
“اللثام الرقمي” في فلسطين لم يعد مجرد أداة تعبير، بل أصبح سلاحاً في حربٍ تُهشِّم نسيج المجتمع، الأرقام الصادمة ليست مجرد إحصائيات، بل هي ندوب على جسد الفضاء الرقمي الفلسطيني، فحرية التعبير لا تعني التخفي لطعن الآخرين، والفرق بين “اللثام” الذي يحمي هوية المناضل، و”اللثام” الذي يخفي المُعتدي هو النية. فهل نختار أن نُبقي هذا اللثام ساتراً للجراح، أم قناعاً للجلادين؟
وقبل فقرتنا الأخيرة، نضعكم أمام بعض الأرقام والاحصائيات، فالرقم قوة.
كشف تقرير كاسبرسكي2023، أن ٤٦٪ من مستخدمي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (بما فيها فلسطين) يستخدمون حسابات وهمية أو مستعارة، لأسباب تتراوح بين الخصوصية وتجنب الرقابة.
ووفق تقرير (Hootsuite, 2024) فإن ٣١٪ من الحسابات الجديدة على تويتر (X) تُنشأ بواسطة مستخدمين يمتلكون حسابات رئيسية.
أشار تقرير “ميتا للشفافية” إلى أن ٢٧٪ من حسابات فيسبوك تُصنف كـ”غير نشطة أو وهمية.
دراسة لمركز بيو للأبحاث،2022 أكدت أن ٦٤٪ من ضحايا التنمر الإلكتروني تعرضوا للهجوم من حسابات مجهولة الهوية.
وفقاً لتقرير اليونيسف (2023)، فقد تعرَّض ٢٩٪ من الأطفال في ١١ دولة عربية (بما فيها فلسطين) للتنمر الإلكتروني، ٨٦٪ منهم عبر حسابات مجهولة.
التقرير السنوي للمؤسسة العربية لحقوق الإنسان (2023) أن ٦٥٪ من حالات التحرش الإلكتروني ضد النساء في ٨ دول عربية جاءت من حسابات وهمية، وبلغت النسبة في فلسطين ٧١٪ (أعلى من المتوسط الإقليمي).
وفق مرصد “حملة سايبر فلسطين” (2024)، فإن ٧٦٪ من الهجمات الإلكترونية ضد الناشطين والصحفيين الفلسطينيين تنطلق من حسابات وهمية، بهدف تخويفهم أو تشويه سمعتهم.
حسب المصدر السابق، فإنه وخلال الحرب على غزة (٢٠٢٣-٢٠٢٤)، نشرت الحسابات الوهمية ٤٣٪ من الشائعات السياسية المُثبتة، بهدف بث الفرقة بين الفلسطينيين وتشويه الرواية الوطنية.
في الختام، نريد كشعبٍ يدافع عن قضية عادلة، أن نستثمر كل جهودنا ضد من يضطهدنا ويحتل أرضنا، نريد استخداماً آمناً لمنصات التواصل الإجتماعي، يوازن بين أمان الناشطين أمام الملاحقة والقمع اللذان يقوم بهما الاحتلال، ضد كل ما هو فلسطينيٌّ وطنيّ، وأمان المجتمع الرقمي بشكل عام، ومنه أمن المجتمع الفلسطيني خارج المواقع، وإن كان أصبح من الصعب الفصل بين الفضائين. نريد أيضاً بيئة قانونية تضمن لي كمستخدم، أن لا أتعرض لأي شكل من أشكال الانتهاك أو الاعتداء، من قبل “ملثم ما”، ليس لأمرٍ، سوى لأنه مخالف لي بالرأي، ويستطيع الهجوم ملثماً تحت ستار المجهولية والظلام، ظلام الإنترنت وظلام الفكر.