loading

الشهيد سائد الكوني: يده سبقته إلى الجنة

حنين قواريق

تتمنى عائلة الشهيد سائد الكوني قبلة وداع أخيرة على جبين ابنهم المجمد في ثلاجات الاحتلال منذ 25\9\2022 وأن تكرمه إلى مثواه الأخير بعد عناق يسكن ألم فراقه لبضع دقائق.

استقل سائد (ذو الثالثة والعشرين ربيعاً من الشجاعة) دراجته النارية ليكشف الطريق لرفاقه الذين كانوا وراءه بمركبة متجهين نحو جبل الطور في مدينة نابلس، ليتفاجأ بعناصر من جيش الاحتلال على مقربة منهم قد نصبوا لهم كميناً، فعاد مسرعاً لتحذير رفاقه، إلا أن الجنود باغتتهم بإطلاق الرصاص، واستهدفوا صندوق الوقود في دراجته فانفجرت، وعقب ذلك ترفع سائد للعلا وتصاوب رفاقه الثلاثة الذين تمكنوا من الانسحاب بعد الاشتباك مع الاحتلال، ومنع الاحتلال طواقم الإسعاف أو الإطفاء من أخذ جثته وهددهم بالسلاح.

“ليلة استشهاد سائد عندما وصلت للمستشفى سألت أصدقائه عنه أجابوني والدموع تملؤ عيونهم “الزلمة الي كان بينا استشهد”، ولكن جثته قد احتُجِزت ولم نراه حتى هذه اللحظة، وبعدما احترقت جثة سائد لم يتمكن رفاقه من سحبه، ولا حتى طواقم الإطفاء، وفي اليوم التالي عثر الإسعاف على أشلاء من سائد، كانت كفة يده وجزء من قدمه، ومحفظته بها هويته التي اختفت معالمها، لم يتبين منها سوى اسم العائلة (الكوني)” هذا ما قالته ميساء الشخشير والدة الشهيد سائد الكوني.

وبالرغم من أن العائلة لم تتسلم الجثمان، إلا أنها شيعت الأشلاء بجنازة رمزية، وسط حشد كبير من الشعب الفلسطيني بهدف الضغط على الجهات المعنية للتحرك والمطالبة بتسليم الجثمان، وتم دفنها بجانب قبر الشهيد محمد العزيزي كما وصى سائد.

فتقول الشخشير: “تأثر ابني بالشهداء جميعهم، لا سيما محمد العزيزي الذي طلب أن يُدفن بجانبه، ومنذ ذلك الوقت أصبح زاهداً لا يرغب من الدنيا فتاتها، وكان ملتزماً في صلاته، وكنا قد أرسلنا الأشلاء لإجراء تحليل الحمض النووي كنوع من التأكد، ولكن من شدة تفحمها أخبرونا أن الفحص لم ينجح، وعندما نتسلم بقية الجثمان سندفنه بنفس مكان أشلائه”.

وأضافت الشخشير: “بأي حق يحتجزون أبنائنا بالثلاجات المظلمة، إذا وضعنا دجاجة بالثلاجة تتجمد في ظرف ساعتين، فكيف حال أبنائنا الذين يبقون هناك لشهور وسنين، “انا من حقي أن أدفن ابني وأحضنه”، دائماً أذهب لزيارة أشلائه في قبره، حتى في المنزل أتحدث معه طوال الوقت وأشعر به وكأنه موجود، أتذكر ذكرياتي معه، فكان دائماً فور وصوله للمنزل يأتي إلي ويبادلني الحديث، أشتاق للهفته وخوفه علي, فحنيته تتسع للجميع كباراً وصغاراً، وأتمنى له أن تزفه الملائكة عريساً”.

تتواصل العائلة مع جهات عديدة، لكنها لم تحصل على أية أجوبة أو أخبار تفيد بتسليم الجثمان حتى الآن.

وفي هذا الخصوص أوضحت الشخشير: “المؤسسات المعنية لا تتابع معنا أمر تسليم الجثمان، ونحن نتواصل مع مؤسسة مركز القدس لكن لم نصل لنتيجة، أتمنى من الجميع أن تتحرك مشاعره ويساند أهالي الشهداء إلى حين استلام جسد فلذة أكبادهم، ليرتاح فكرهم قليلاً، وأطالب السلطة الفلسطينية والمؤسسات الحقوقية والإعلامية وكل الجهات المعنية أن تبذل قصارى جهدها في هذا الموضوع”.

لم تكن ميساء تعلم أن ابنها من أبطال المقاومة، ولا تعرف أنه جندياً من جنود العرين، فكان شخصاً كتوماً، لا يعرف أحد شيئاً عن خبايا أسراره…حتى أصدقائه، وكان يمارس حياته بشكل طبيعي، إذ أنه دائم المزاح, ويفتعل جواً مرحاً في أي مكان يتواجد فيه، فكان “روح البيت” كما وصفته والدته.

فتقول الشخشير: “في مرة من المرات كنت جالسة، فربت على ظهري ممازحاً قائلاً: “نيالك بكرا بستشهد وبتصيري أم شهيد، والصحفيين بعملوا معك مقابلة، وشوفي وجهي كيف منور”، وكان يعرض مقاطع الفيديو على أخيه لجنازات الشهداء ويقول له: “جنازتي هيك رح تكون”، لكنني كنت أظنه يمزح، حاله كحال الشبان الذين يتمنون نيل الشهادة، وكنت أسأله بلهجة خالية من الجدية لمن تريد أن تستشهد ولماذا؟، يرد: “بدي استشهد لربي”، كما يتصف سائد بالشجاعة، فعندما يتخذ قراراً لا يتراجع عنه أبداً مهما كلفه الأمر، كان أسداً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وضحى بروحه من أجل الوطن، صحيح أنني أتألم على فراقه، لكنني أفتخر بشهيدي وبكل الشهداء”.

كانت ميساء تنتظر سائد كل ليلة على النافذة حتى يعود، لكن ليلة زفافه للجنة غافلها النوم، ولم تتمكن من رؤيته عندما عاد إلى منزله للمرة الأخيرة ليبدل ملابسه، لينزل خبر استشهاده عليهم كالصاعقة بعد ذلك بساعتين.

صديق الشهيد

لا يهتز للاحتلال جفن في إقصاء صداقة العمر، وبعثرة الذكريات المرتبة في زوايا الذاكرة.

ذكريات خضراء كعيونهم يستذكرونهم بها، يسترق حسن منصور صديق الشهيد النظر لزاوية فارغة، يستحضر بها مشاهد ذكرياته مع سائد, حيث المقطع الذي صوره إياه وهو يصلي، ويخاطبه قائلاً: “صلِ انت رايح عالجنة إن شاء الله”، وكان قد صوره إياه قبل أسبوع واحد فقط من ارتقائه لتنعكس مقولة “قلب الأم” هنا إلى “قلب الرفيق”..

في آخر ليلة لسائد مع رفيقه حسن كانا قد اتفقا على احتساء كوب قهوة في منطقة دوار الشهداء، لكن الموعد لم يتم، فقد ذهب سائد دون الإفصاح عن وجهته واعداً بالعودة، إذ قال لحسن “اسبقني وبلحقك”، لكن العودة كانت مفجعة، فلم يرجع منه سوى كفه المتفحمة.

كان شعور الغرابة يلازم حسن في ذلك الوقت، ويشعر بأن أمراً ما سيحصل، يتفوه أصدق لسان وأشدهم حزناً، قائلاً: “آخر فترة حسيته بودع، أي حدا بعرفه ويلتقي فيه يسلم عليه ويقبله، لم يكن مجرد صديق بل كان أخاً للجميع”.

وختم: “كانت فكرة الشهادة بذرة مزروعة بتراب قلب سائد المحب للوطن، كان يسقيها ويرويها دون معرفة أحد”، وهذا ما تبينه جدران غرفته الدافئة التي تتزين بصور الشهداء ممن سبقوه، وعلم فلسطين الذي يرفرف عالياً بألوانه الزاهية بشرفته، كاد الجماد ينطق حنيناً لصاحب هذه الغرفة.

فيسبوك
توتير
لينكدان
واتساب
تيلجرام
ايميل
طباعة