رند عبد القادر
يرى الغرب القضية الفلسطينية من خلال مشكال، أو كليدوسكوب، مكون من مجموعة من العوامل والمتغيرات التي تحدد إن كان الفلسطيني جديرا بأن يكسب تعاطف الغرب السخي، أو لا مبالاته. أيقنت هذا منذ زمن، وفقدت إيماني بأهمية محاكاة المجتمع الدولي، الذي خذل الفلسطينيين مرارًا وتكرارًا ولكن، شكلت هبة أيار في عام 2021 ثورة في نُهُج مناصرة القضية الفلسطينية، حيث تمكن الفلسطينيون من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والتلاعب بخوارزمياتها لكشف النقاب عن جرائم المستعمر الصهيوني، ما أدى إلى قيام حملات تضامن مع القضية الفلسطينية على مستوى الأفراد والجماعات في كل أنحاء العالم.
منذ السابع من أكتوبر، تصارعت مع نفسي يوميًا، محاولة أن أكتب جملة مفيدة عما يحدث في قطاع غزة من مجازر، في ذات الوقت الذي أصابني فيه الشلل الكامل، تابعت عبر وسائل التواصل الاجتماعي عشرات الفلسطينيين والعرب، الذين وثقوا المجازر التي ارتكبها الاستعمار الإحتلالي بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، طور كل منهم مدرسة أو نهج مختلف للمناصرة الرقمية، ومصطلح المناصرة قد يسلخ القائم عليها عما يدافع عنه، وكأنه فرد أعزل لا علاقة له بالحدث. ولكن، كيف يكون الفلسطيني “مؤيدًا” للقضية، لا سيما وهي جزء لا يتجزأ منه؟
على أية حال، عمل الناشطون على ترجمة الأحداث “للغات” جديدة، كل منها يناشد جمهور مختلف، لينقلوا الصورة للعالم، دون فلاتر أو أجندات الإعلام التقليدي.
المدرسة الأولى_ من قلب الحدث
شاهدنا من خلال معتز عزايزة، وبلستيا، وأحمد حجازي، وهند خضيري، وغيرهم من الصحفيين والمصورين في قطاع غزة، جرائم المستعمر بأم أعيننا. كنا أول من رأى التفجيرات، والأشلاء، والدمار الشامل الذي اعترى القطاع. ولعل هذه المدرسة هي أكثر المدارس قسوة على الروح، وأشدها صدقًا وصراحة، لن تجد هذا المحتوى على منصات الإعلام الغربي، أما على وسائل التواصل الاجتماعي، فعادة ما يعنون على أنه “محتوى حساس”، ويؤكد لنا هذا النوع من المحتوى على ضمور ضمائر الحكومات، التي سمحت لهذه المجازر أن تحصل أمام أعيننا، فيتردد صدى صرخات الأمهات في دهاليز عقولنا، ونرى أوجه الأطفال بكل ظلال ألوان الموت، ونسمع كلمات ظافر النواب وهو يقول:
“تتحرك دكة غسل الموتى ،
أمَّا أنتم
لا تهتز لكم قصبه !
الآن اعريكم
في كل عواصم هذا الوطن العربيّ قتلتم فرحي
في كل زقاق أجد الأزلام أمامي
أصبحت احاذر حتى الهاتف ، حتى الحيطان ..
وحتى الأطفالْ
أقيء لهذا الأسلوب الفج
وفي بلد عربيِّ كان مجرد مكتوب من أمي
يتأخر في أورقة الدولة
شهرين قمريين”.
المدرسة الثانية – باسم يوسف والكوميديا السوداء:
“تحتمي زوجتي بأطفالنا كدروع بشرية، لذلك، لم أتمكن من قتلها”، يقول باسم يوسف، مشيرا لزوجته الفلسطينية، في مقابلة مع البريطاني بيرس مورغن، متسلحًا بالسخرية والكوميديا السوداء، بينما يحمد العشرات أسلوب الكوميدي باسم يوسف، استشيط غضبًا في داخلي. أعلم أن هذه مجرد وسيلة للاستيلاء على اهتمام المشاهد الغربي، وتؤكد لي التعليقات على يوتيوب، أنه قد نجح بالوصول لغالبية المشاهدين، الذي زاد عددهم عن مليون وثمانية عشر حين كتبت هذا المقال. فتقول إحدى التعليقات، الحائزة على خمس وخمسين ألف إعجاب “نعيش في عالم يكون فيه الكوميديون أكثر منطقية من السياسيين”.
بينما نسعى جاهدين لتذكير العالم بأننا لسنا مجرد أرقام، يبسط باسم يوسف المعادلة للغرب، فيقول أن سعر صرف العملة لحياة الانسان في حرب عام 2014 كان إسرائيلي واحد مقابل سبعا وعشرين فلسطيني. ويستعين بهذه المقاربة، لأن العالم، في حالتنا، لا يفهم إلا الأرقام والعمليات الحسابية، يتساءل باسم يوسف عن سعر صرف العملة لحياة الإنسان اليوم، ليقدر حجم المصائب المقبلة علينا.
المدرسة الثالثة – محمد الكرد:
لا شك أن محتوى محمد ومنى الكرد شكل منعطفًا حادًا في تاريخ مناصرة القضية الفلسطينية، فشاهد العالم من خلالهما المستعمر الصهيوني على البث المباشر، تارة يسرق من الفلسطيني منزله في حي الشيخ جراح بالقدس، وتارة يسلب منه حياته، ويقصف أحياءه، ويشرد عائلاته، وييتم اطفاله، في قطاع غزة، يخاطب محمد الكرد العالم أجمعين باللغتين العربية والإنجليزية، ومن خلال الصوت والصورة، وعبر مقابلات تلفزيونية، كما يقدم الفيديوهات التلخيصية، والتحليلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكأنه يستنجد العالم بكل ما أوتي به من قوة.
يلخص الكرد نفاق الغرب تجاه القضية الفلسطينية بإحدى منشوراته:
“بينما تتصدر شهادات المستعمر الشفوية عناوين الصحف، والأخبار العاجلة، وتؤدي إلى الهستيريا الجماعية، لن تجذب مشاهد الفيديو لأطفالنا وهم يتعذبون ويقصفون ويتناولون من بين الركام ذات الكم من الاهتمام، ولا حتى لقطات الإسرائيليين وهم يتبولون على جثث الفلسطينيين. تعمل الصحف الغربية بلا كلل ولا ملل لاستدرار التعاطف مع المستوطنين، بينما تصور الفلسطينيين على أنهم إرهابيون… ينشر الصحفيون المعلومات المضللة بغرض تحريف سياق أحداث نجمت عن عقود من الوحشية والحصار، فلن تخبركم الصحف الغربية عن المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي، فوفقا لهم، للصهيونية دوافع وتبريرات لكل ما ترتكبه…”.
يصف الكرد ما كان سيحدث خلال أيام من نشره للفيديو، عقب قصف الجيش الإسرائيلي لمستشفى المعمداني في غزة، الذي أدى إلى استشهاد حوالي 500 شخص من اللاجئين، فبالرغم من اعتراف المتحدث باسم الإعلام الرقمي للجيش الإسرائيلي، حنانيا نفتالي، بارتكاب الجريمة عبر تغريدة قام بحذفها، توجهت أصابع اتهام الإعلام الغربي والاسرائيلي لكتائب القسام، مدعيين أن إحدى صواريخ القسام كانت سبب المجزرة.
“يقومون بابتداع كذبة من غير أدلة، ينشرها الصحفيون بسرعة شاسعة، يكررها الدبلوماسيون والسياسيون، فتصنع سردية جديدة يصدقها عامة الناس. وبعد وقوع الضرر، قد يعترفون بأنها لم تحصل. ولكنك لست مضطرا أن تكون متواطئ معهم، لست مضطرا أن تبرر مجازرهم، فهم يستعدون لمحو غزة عن وجه الأرض، والآن هو الوقت لدعم ومناصرة القضية الفلسطينية.”
المدرسة الرابعة – حسام زملط
انتشرت مقاطع فيديو لمقابلات عديدة لسفير فلسطين في بريطانيا، حسام زملط، تبدأ عادة بسؤاله عن إدانته لعملية حماس. أعتقد انها اصبحت دعابة مستمرة، وغير مرحة، يرددها مستضيفو البرامج، بالرغم من استياءه الشديد من الأسئلة المطروحة، يتمالك أعصابه ويجيب عليها وفي إحدى المقابلات، يقول السفير ردًا على مذيع قناة بي بي سي:
أتعلم لماذا أرفض الإجابة على هذا السؤال؟ لأني أرفض المبدأ الذي بني عليه، وذلك لأن جوهره يقوم على تحريف الأمور عن سياقها، ولأنكم تتوقعون دائما من الفلسطينيين إدانة أنفسهم”.
من خلال مقابلات زملط، يمكننا استنباط نمط معين تتبعه وسائل اعلامية مختلفة مع ضيوفها الفلسطينيين، لا يحظى الفلسطيني باحترام المستضيف، وعادة ما يجرد من انسانيته بشكل كلي، فتتحول المقابلة لتحقيق جنائي يتمحور حول تبرير فعل ما، لا مشاركة الفلسطيني تجاربه وآرائه.
المدرسة الخامسة – مدرسة التضامن بالخاوة
بعد اختفاء طويل، ونتيجة ضغوطات الشعب المصري، استيقظ كل من محمد صلاح ومحمد رمضان من سباتهم العميق، لينشروا مقاطع فيديو مثيرة للجدل، يعبرون فيها عن تضامنهم مع غزة. فبداية، دعا محمد رمضان الجيوش العربية للتوجه للدفاع عن فلسطين، وتماهت التعليقات ما بين اتهامه بتمثيل مقطع من مسلسل درامي، ومدحه على موقفه
“الشجاع”، ولا أعلم أيهما الصواب، أما بالنسبة لمحمد صلاح، فقد نشر فيديو في اليوم الثاني عشر من الحرب، مطالبا بوقف الحرب، إلا ان كلماته كانت مبهمة وغير مباشرة، وبرأيي الشخصي، غير صادقة، فبدا وكأنه يقرأ من نص، أو تحت التهديد، أو من صنع الذكاء الاصطناعي.
المدرسة السادسة – مدرسة رفع العتب
رواد هذه المدرسة هم بالعادة “المشاهير” أو “المؤثرين” الذين سئموا من السماع عن الحرب، وتعبوا من تعطيلها لأعمالهم ومصالحهم الشخصية، أقدم اعتذاراتي الشديدة لكل منهم، واؤكد اننا سنحاول تحديد مواعيد مناسبة للحرب المقبلة لكي لا تتضارب مع روتين حياتهم.
المدرسة السابعة – مدرسة الصمت
امتنع الكثيرون عن التعليق أو إبداء آرائهم حول الحرب، فتسلحوا بالصمت القاتل، وهم، بسكوتهم، شركاء بالجريمة.
كما أن هناك رواد مدارس اخرى، يتلعثمون بكلامهم خوفا من جرح مشاعر المستعمر وأتباعه، ويبثون نصوصا مموهة وركيكة، وكان من الأجدر لو التزموا الصمت.
بعد رؤية مئات الآلاف في شوارع العواصم العربية والأجنبية، لا يمكنني انكار فضل الناشطين والصحفيين والسياسيين والمؤثرين، مثل أحمد الحناوي وسلمى الشوا ويارا عيد بالإضافة لكل من ذكرتهم أعلاه، الذين اتحدوا سويا في الأسابيع الماضية وأخذوا على عواتقهم حمل توعية العالم، بينما كانوا يتكبدون أوجاع جروح لم تتمتع برفاهية الالتئام.